«الانتفاضة اللبنانية»... هل هي الوريثة الشرعية لـ«حركة الوعي»؟

بعد مرور خمسين سنة على ولادتها من رحم «الجامعة اللبنانية»

الانتفاضة اللبنانية
الانتفاضة اللبنانية
TT

«الانتفاضة اللبنانية»... هل هي الوريثة الشرعية لـ«حركة الوعي»؟

الانتفاضة اللبنانية
الانتفاضة اللبنانية

حين كان الأديب الروائي أنطوان الدويهي يضع لمساته الأخيرة على كتابه «حركة الوعي»، الصادر عن «الدار العربية للعلوم» و«دار المراد»، لم تكن الانتفاضة اللبنانية قد انطلقت بعد. وجل ما أراده المؤلف أن يؤرخ لحركة شبابية استقلالية، لا من اليمين ولا من اليسار، تأسست عام 1969 بعد مؤتمر ميفوق، وشكلت حالة فارقة في الحياة السياسية اللبنانية، لكنها سرعان ما حلت نفسها مع بدء الحرب الأهلية عام 1975، رافضة أن تكون جزءاً منها، بعد عمر قصير مكتنز بالتجارب. وشاءت الظروف أن يتزامن صدور الكتاب مع إرهاصات انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) التي تذكر في كثير من ملامحها بـ«حركة الوعي»، إن لجهة روحها الوطنية، أو نزعتها الإنسانية، أو حتى رغبتها في الاستقلال عن الطروحات السائدة، وحلمها في بناء وطن له كيانه الصلب.
وفي الذكرى الخمسين لتأسيس «حركة الوعي»، التي عمرت بعد انطلاقتها ست سنوات فقط، أخرج رئيسها أنطوان الدويهي أرشيفه الصحافي ومسوداته، وعصر ذاكرته، وأقام مراجعاته، وترك العنان للصحافية أورنيلا عنتر لتطرح عليه أسئلتها، مجيباً عن نقاط كثيرة لم تكن معلومة. وضمّن الدويهي كل هذه المواد كتابه الجديد الذي أراد منه أن يحفظ تاريخ هذه الحركة، صوناً لها من غدر النسيان، وسط زحام الأحداث اللبنانية الهائل، خاصة أنها لم يكتب عنها بالقدر الكافي، ولم تعطَ حقها.
وتشكلت «حركة الوعي» بعد ثورات طلابية كثيرة شهدها العالم، لا سيما حركة مايو (أيار) 68 الشهيرة في فرنسا. ففي «كلية التربية»، أو ما كان يحمل اسم «دار المعلمين العليا» قبل ذلك، التي كانت نواة الجامعة اللبنانية الوطنية في بيروت، تلاقى شبان طموحون آتون من مختلف المناطق اللبنانية. هؤلاء في غالبيتهم من أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة، عكس الميسورين الذين كانوا يتوجهون إلى الجامعتين الأميركية واليسوعية. كلية التربية كانت نموذجاً للصرح التعليمي الوطني الناجح الجامع، فالدخول إليها يتم بامتحان لاختبار الكفاءة، مما جعل طلابها من المتميزين. هؤلاء كانوا يتقاضون رواتب شهرية حتى نهاية تعليمهم، مما جعلهم مستقلين مادياً. وبعد الدراسة، يصبحون أساتذة ثانويين بامتيازات وظيفية مغرية. وبالنتيجة، بحسب الدويهي، تمتع طلاب كلية التربية باستقلالية عن الزعماء والأحزاب، ولم يكونوا بحاجة لحماية سياسية، مما منحهم فسحة كبيرة من الحرية.
وفي هذه الأجواء التي اجتمع لها المناخ العلمي المواتي والطلاب المجدون، وكان بينهم مثلاً الشاعر بول شاوول والروائي حسن داود، ونخبة من الأساتذة كأدونيس وأنطون غطاس خوري وجبور عبد النور، نما مناخ ثقافي طليعي تمردي، يسعى إلى وطن جديد مختلف عن البنية التقليدية العائلية. حركة اعتبرت التعليم أساساً والثقافة مدماكاً، وجاءت كردة فعل على الليبرالية اليمينية من جهة، والماركسية من جهة أخرى، التي أخذت تنتشر في العالم العربي بعد تراجع فكرة القومية. ولبنان لم يكن محايداً، بل في صلب هذه الصراعات، بينما هو يبلغ أوج فورانه الاقتصادي والثقافي.
ويتحدث الدويهي في كتابه عن وقائع تبين كيف أن أحزاب السلطة بدأت تشعر بخطر «حركة الوعي»، وكيف أن صائب سلام، رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك، فوجئ بما يجري، وارتاب من التحركات، خاصة بعد أن تمكنت الحركة من تسيير مظاهرات ضخمة، وعلى مدى زمن طويل عام 1971، نحو ساحة النجمة، واستطاعت تعطيل اجتماعات مجلس النواب، كما وصلت إلى أماكن حساسة، مثل طريق المطار وشارع الحمراء وساحة الشهداء. وبحسب ما يسرده الكتاب، فإن الصلح استعان بقيادات اليمين واليسار التقليديين لمساعدته على إيقاف هذه التحركات والإضرابات، لكنهم لم يتمكنوا من فعل شيء. وحاولت قيادة «حزب الكتائب» تطويق التحرك من داخله، لكن نصيبها كان الفشل. وبحث الصلح عن مفتاح هذه الحركة، ومن يقف وراء تحركاتها، فلم يجد. ومن هنا، كانت تستمد قوتها، وفرادتها أيضاً.
وكان للحركة منطلقات متقدمة في فهم الواقع اللبناني، والوضعين العربي والعالمي. ومنذ المؤتمر التأسيسي في ميفوق، وضع المشاركون «الوثيقة الأساسية» التي يصفها الدويهي بأنها عبارة عن «نص رؤيوي، متمايز بعمق في طروحاته، سابق لعصره بعشرات السنين، أثبتت التحولات التاريخية بمرور الوقت مدى صوابيته. وقد حدد ذلك النص منهج الحركة العام، ومفاهيمها الأساسية حول الوضع اللبناني، والوضعين العربي والعالمي، كما حدد وسائل عملها. وقد استندت حركة الوعي إلى هذا النص، في مجمل مواقفها وممارساتها اللاحقة».
ورفضت الحركة ما اعتبرته ديمقراطية شكلية في لبنان، وسعت إلى علمانية ذات أفق مفتوح، وفكرت بضرورة تنظيم الموارد والتطوير العلمي والتقني، واعتبرت أن أفضل وسائل التغيير هي الضغط الديمقراطي المنظم المتصاعد، وتشكيل كيانات نقابية وسياسية حديثة فعالة لمختلف القطاعات والمهن، بحيث ينتقل الثقل الشعبي من الموقع الإقطاعي والطائفي إلى الجهات النقابية والمهنية.
ويتحسر الدويهي في كتابه على ما آل إليه حال الجامعة اللبنانية راهناً، من تسييس وحسابات لا تمت للروح الأكاديمية بصلة، بينما كانت في نهاية ستينات القرن الماضي هي المختبر الذي خرجت منه هذه الشعلة الطليعية التي شكلت نواة متقدمة بأشواط عن كل محيطها العربي، في طروحاتها السياسية والوطنية. ويعتبر في الوقت نفسه أن الجامعة الوطنية كانت من الأهمية بحيث إنها تفوقت في قدرتها على التأثير، بفضل حركتها الطلابية الرائدة، على كل الجامعات الأخرى، وتميزت عن الجامعات العربية أيضاً.
وركزت الحركة بشكل أساسي على قيمة التعليم ودوره، لا سيما أنها انطلقت من صرح أكاديمي. ويكتب الدويهي معلقاً: «لو أتيح لنا تحقيق رؤيتنا منذ ذلك الحين، لكان هناك اليوم النموذج اللبناني في التقدم، مثلما هناك النموذج الكوري الذي استند هو أيضاً إلى الثورة التعليمية، من دون أن يكون النموذجان بالضرورة متطابقين، إذ للبنان ولكوريا الجنوبية وضعان مختلفان في التاريخ والجغرافيا والدور الثقافي، لكن حرب 1975 التي لم تنته فصولها ومفاعيلها كانت بالمرصاد».
المهم في الكتاب، إضافة إلى إضاءته على حركة طليعية يعتبرها اللبنانيون فارقة في تاريخهم، وأجهضت بسرعة، ولم يكتب عنها إلا شذرات متفرقة، هو صدوره في وقت تندلع فيه انتفاضة تحمل من المطالب والأماني الرؤى نفسها التي كانت قد طرحتها حركة الوعي قبل خمسين عاماً.
ومن الطريف أيضاً أن تقرأ عن مظاهرات الحركة التي سارت إلى الأماكن نفسها التي يتجمع فيها ويسير إليها المحتجون اليوم، وكأن لا شيء تغير، والأهم أنك تلمس بالدليل، مع أنطوان الدويهي الذي رأس الحركة بنفسه، أن المطالب ركزت دائماً، منذ الستينات إلى اليوم، على ديمقراطية تنتزع بطرق دستوريه، وعلى توجه إلى التخلص من البنى السياسية التقليدية والحسابات الطائفية، بتشييد دولة مدنية أو علمانية، مع إدراك عميق لأهمية البعد الاجتماعي.
تقرأ الكتاب حتى لتظن أن لا شيء تغير؛ المطالب نفسها، والتطلعات ذاتها، والسلطة المتعنتة عينها، والشباب قبل خمسين سنة بمطالبهم وسعة أفقهم يشبهون الذين يصرخون في الساحات اللبنانية منذ أكثر من ثلاثة أشهر، دون أن يستجاب لهم. انتهت «حركة الوعي» قبل 44 سنة بسبب العنف وجنون الحرب، وتأجل مشروعها ما يقارب نصف قرن، والسؤال هو: هل باتت الظروف جاهزة لتحقيق الحلم المنشود؟ وهل بمقدور الأبناء إنجاز ما عجز عنه الآباء وبقي حسرة في القلب؟



سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات
TT

سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر، وتصفية الخصوم، وعدم السقوط في براثن الثورات المضادة، من هنا تضحى المذكرات والسير المرافقة لوقائع التحول، داخل الأنظمة والدول، سردية لوعي الضحايا والهاربين والمنتصرين على حد سواء. ولا جرم بعد ذلك تتجلى تفاصيل العمر القديم وكأنما من عمق لحدي، وجوه متقلبة لشخص يَمْثُلُ بوصفه «آخر»، بوقائع وأهواء وصلات منتهية، وصداقات تعيد تركيب كلام منسي، ومواقف تنأى عن الحاضر، عن الشخص الملتفت إلى وقائع الذاكرة البعيدة. إنه الإحساس الذي ينزغنا، من الوهلة الأولى، بعد الانتهاء من كتاب «قافلة الإعدام: مذكرات سجين في طهران» (دار الساقي، بيروت، 2023) لبهروز قمري المؤرخ وعالم الاجتماع الإيراني وأستاذ دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون.

حمل الكتاب في الطبعة الإنجليزية (الأصل) عنوان «في تذكر أكبر: داخل الثورة الإيرانية»، ولم يكن «أكبر» إلا الاسم الذي سعت السيرة إلى استعادة ملامحه الممحوة من شاشة الذاكرة، استنباته في تربة أخرى، لطالب الجامعة والمناضل الشيوعي، والحالم المشارك في يوميات الثورة الإيرانية، ثم المعتقل السياسي، المحكوم بالإعدام، ضمن المئات من المحكومين الآخرين، المنتظرين تنفيذ العقوبة في سجن إيفين الرهيب، الذي خصصه «الملالي» لتصفية خصومهم الآيديولوجيين، بعد تسلمهم الحكم.

لقد درج عدد كبير من الأكاديميين الإيرانيين على التأريخ للثورة، وتحولات المجتمع الإيراني في تلك السنوات المفصلية، من لحظة سقوط الملكية إلى استحواذ نظام الولي الفقيه على السلطة، على نموذج السيرة الروائية، فمن كتاب «آذر نفيسي» المعنون بـ«أن تقرأ لوليتا في طهران»، إلى كتاب «بردة النبي» لـ«روي متحدة»، تواترت نصوص سردية عديدة عن السنوات الثلاث الأولى للثورة الإيرانية، وما تخللها من صراع نكد بين فرقائها، من الشيوعيين إلى الليبراليين الديمقراطيين، ومن الاشتراكيين إلى القوميين والأقليات الإثنية، ومن رجال الدين إلى طلاب الجامعة الراديكاليين، ومن الملالي إلى «اليساريين الإسلاميين»، وغيرهم ممن انتهى بهم الحال إلى الدفاع عن قناعة امتلاكهم وحدهم «المعنى الحقيقي للثورة»؛ ومن ثم ستسعى تلك التخاييل السردية إلى محاولة فهم ما جرى من انقلاب في الاصطفافات النضالية، ومن صدام دامٍ، ومن تمزقات، وتحولات في المشهد، تكاد لا تستند لمنطق، وتحتاج للتعبير الروائي لتصوير مفارقاتها والتباساتها، ذلك ما سعى إليه مجدداً بهروز قمري في كتابه «قافلة الإعدام».

في الأسطر الأولى من السيرة يقول السارد ما يلي: «متُّ في السابعة والنصف من صباح 31 ديسمبر (كانون الثاني) 1984. لا أقول ذلك مجازاً، وإنما بالمعنى الحقيقي للوجود. في تلك اللحظة تماماً، وضعت قدماً في العالم الآخر مع توقيع متردد ذيل قرار الإفراج... هكذا متُّ، بالخروج من عالم لا يمكن تصوره، ودخول عالم مرتبك من التفاهات، تركت نفسي السابقة في مكان يوجد فقط في شروط مستحيلة» ص9-13. وعبر فصول الكتاب الـ26 تتخايل تدريجياً الحياة المنتهية للشخص الملتبس بالاسم الحركي: «أكبر»، الذي كان قبل أزيد من 4 عقود معتقلاً سياسياً أصيب بالسرطان، عالم جحيمي يركب مفصلاً عابراً في حياة لا تتجاوز 3 سنوات، داخل سجن سياسي بطهران، استضاف «أعداء الثورة» لاستراحة ما قبل الإعدام.

على هذا النحو تقدم لنا السيرة الروائية تفاصيل عودة «أكبر» (الاسم الحركي لبهروز)، من تجربة تنفيذ حكم الإعدام، بعد مضي عقود على خروجه من المعتقل «لأسباب صحية»، كان السرطان الذي تفاقم في جسم المعتقل اليافع، سبباً في الإفراج عنه، فقد كان شخصاً ميتاً، بحكم وضعه الصحي، ولا يحتاج لأن يحال على المشنقة. بعد خروجه وإثر مصادفات شتى انتهت به إلى الولايات المتحدة، وإلى علاج كيميائي قاسٍ، كلل بشفائه التام، وعودته من تجربة موت محقق. فتحول تاريخ خروجه في 31 ديسمبر من سنة 1984، إلى لحظة لاستعادة تفاصيل ما جرى في معتقل إيفين، وإلى استرجاع ملامح وأسماء وحيوات رفاقه في الزنازين، وفي تجربة الانتظار؛ انتظار تنفيذ حكم الإعدام الذي يختصر في جملة يطلقها الحارس على حين غرة، منادياً اسماً معيناً، طالباً منه: «جمع أغراضه»، وعبر مساحات الاستعادة المرمّمة للوقائع والأحاسيس، والمتخيلة للكلام المنسي، تنبت تأملات في تحولات البلد والناس، كما تستدرج للسيرة سير أشخاص عاديين ممن واكبوا منعرجات الثورة في الشوارع والمصانع والجامعات والمقاهي والحانات، من حكاية الكحول والعمل النقابي وصناعة الأحذية، إلى حكاية الهروب من حظر التجول، إلى صور مناضلين ركبت أحلامهم الثورية على شغف بأشعار حافظ والموسيقى الأذربيجانية... على ذلك النحو انتسجت ملامح شخصيات: «علي» و«شاهين» و«غُلام» و«داوود» و«منصور» و«برهام» و«أصغر» و«صلاح»، ممن شيعهم «أكبر» مع بقج متاعهم الصغيرة إلى باب المغادرة النهائية.

«نصر الله»، «الخال حسين»، «ما العمل؟»، «المنزل الآمن»، «سيمفونية ميلر الأولى»، «التروتسكي»، على هذا المنوال صيغت عناوين فصول السيرة، المنطوية على حكايات لحظات وصفات وسجايا، وطرائف، سكبت في فجوات زمن التحقيق والتعذيب والمحاكمة، ومعايشة برودة زنازين المعتقل، وانتظار نداءات مدعي عام الثورة «أسد الله لاجوردي»، لتعيد الفصول تركيب صور حياة يومية مأخوذة من مفارقات الصخب الثوري، داخل فضاءات مغلقة تملأ بنقاشات الأسرى واسترجاعاتهم، في تلك الحكايات نتعرف على حكايات صناع الأحذية مع النقابات الممنوعة، والأدبيات الماركسية المتنقلة عبر الأيدي في نسخ صغيرة، مخبأة ككنوز مهربة، نكتشف مواسم القراءة تحت اللحاف في الليل بمصابيح عمال المناجم، كما نصاحب النقاشات السياسية المحمومة بين الخصوم/ الشركاء في الثورة، عن فائض القيمة والعنف الثوري، كما نلتقط شذرات الشعر الطليعي جنباً إلى جنب مع الأشعار الكلاسيكية، مع تخايلات موسيقية ومسرحية، وطبعاً حكايات الصمود أمام آلة التحقيق الجهنمية، ونوازع الانتقام البارد، وفناء الذوات في الحشود، والمواهب في الشعارات.

لكن ما يوحد مقامات تلك الفصول في الغالب الأعم هو انتظامها على إيقاع التحقيق والمحاكمة وانتظار دعوة الحارس للخروج النهائي، فعبر تلك الفواصل يكتشف القارئ أمزجة وطبائع بشرية شتى، وقدرات خارقة على الصمود، وضعف بديهي يفضي إلى التراجع والتنكر للقناعات وطلب العفو. بين تلك المدارات تتكشف قدرات تحويل المأساة إلى طاقة للهزل، والتخفف من رهاب الموت والتصالح مع قرار الذهاب إلى الإعدام، ذلك ما يفسر تلك القدرة على استنبات السخرية في فجوات الصمت والألم والعلة: «كانت الغرفة مليئة بدخان السجائر، نحن نصنع غرفة إعدام بالغاز، قال السيد الصالحي بمحاولة باهتة للمزاح».

كانت التفاصيل المفعمة حماساً وعمقاً وتشبثاً بالمعنى، واستحضاراً للأشعار والموسيقى، تُطل لتبديد سطوة الحراس والمحققين، وجعل الخروج النهائي مجرد إجراء عابر، مفرغ من الفجائعية، لهذا كانت محاولات الإقناع المتبادلة بين المعتقلين ليست عن الموت وإنما عن الحياة، عن السياسة والثورة والماركسية والفكر الإسلامي والعمال والحركة الطلابية وانتظارات الإيرانيين منهم، ومدى أخلاقية التراجع تحت وطأة التعذيب، ومصداقية التحولات الفكرية الأخيرة. كان النقاش بصدد ضمائر منذورة للحياة، لا بين أجساد ذاهبة لموت محتوم، يقول السارد في الأسطر الأخيرة من فصل يحمل عنوان «اعتراف»: «أعدمت منية هدائي بعد شهرين من رفضها سحب إنكارها لتراجعها. ألقى حسين روحاني اثني عشر خطاباً آخر، ظهر في ثلاثة منها كماركسي ولد من جديد يدافع عن سنواته في (بيكار)، وفي ثلاثة أخرى كماركسي رفض أجندة (بيكار) السياسية، لكنه دافع عن آيديولوجيتها الثورية. وظهر خلال محاضراته الستة الأخيرة كناقد إسلامي للماركسية وأعلن أنه أخيراً وجد الله بصدق. أعدم بعد وقت قصير من ذلك». (ص168)