المباني اليهودية في مصر... «خيط شائك» بين السياسة والتراث

على مدار السنوات الماضية أثارت قضية التراث اليهودي بمصر الجدل في الأوساط السياسية والأثرية، بين دعوات للحفاظ عليه وترميمه باعتباره جزءاً من التراث والتاريخ المصري، وبين محاولات استغلاله سياسياً، سواء كان ذلك من جانب أطراف خارجية للضغط على مصر، أو من القاهرة نفسها للتأكيد على اهتمامها بجميع المباني الأثرية.
وجاء إعلان السفارة الأميركية بالقاهرة قبل أيام عدة عن تدشين مشروع ترميم وتوثيق مقابر الطائفة اليهودية بمنطقة البساتين (وسط القاهرة)، بتمويل من «صندوق سفراء الولايات المتحدة للحفاظ على التراث»، ليثير التساؤلات من جديد حول ذلك الخيط الشائك بين التراث والسياسة الذي يرتبط دائماً بالحديث عن التراث اليهودي المصري، حيث ربط مراقبون إعلان المشروع في هذا الوقت بالحديث عن تقارب سياسي مصري - إسرائيلي - أميركي.
الدكتور مختار الكسباني، أستاذ الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية، أكد لـ«الشرق الأوسط»، أن «التراث اليهودي، وخاصة مقابر البساتين عادة ما يستخدم كلعبة سياسية، وقد حدث ذلك في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، عندما طلبت إسرائيل الإشراف على المقابر وترميمها، لكن السادات وقتها قال إن هذه المقابر تخضع لإشراف الدولة المصرية».
هذه ليست المرة الوحيدة التي استخدم فيها التراث اليهودي للعب دور سياسي، فخلال ترشح فاروق حسني، وزير الثقافة المصري الأسبق، لمنصب مدير عام منظمة اليونيسكو عام 2009 تم ترميم معبد موسى بن ميمون اليهودي وسط القاهرة، وتردد وقتها أن الهدف هو كسب تأييد إسرائيل وأميركا للمرشح المصري، خصوصاً بعد الهجوم الذي تعرض له في أعقاب تصريحاته حول حرق الكتب الإسرائيلية، والتي قال وقتها إنها «تصريحات مجازية».
لكن الدكتورة لويز بارتيني، مديرة المركز الأميركي للبحوث بالقاهرة، والمشرف على تنفيذ المشروع، أوضحت في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» رداً على ربط مشروع البساتين بأبعاد سياسية، أن «هذا مشروع عن مصر وتنوعها الثقافي، هذا هو الأمر بالنسبة لنا كمؤسسة، وعادة ما نحاول تجاهل مثل هذا النوع من الجدل، فنحن نعمل بجانب الحكومة المصرية، ولولا دورها ودعمها لنا لما كنا نستطيع القيام بهذا العمل».
وأضافت، أن «هذا المشروع يتزامن مع جهود الحكومة المصرية في إظهار التنوع الثقافي المصري؛ فمصر ليست آثاراً فرعونية فقط، فهي مليئة بالتراث المسيحي والإسلامي»، مشيرة إلى أن «الحكومة المصرية تعمل على إظهار هذا التنوع والتكامل في تراثها، ورأينا أخيراً إعادة افتتاح المعبد اليهودي بالإسكندرية بعد الانتهاء من ترميمه».
ويأتي الإعلان عن ترميم مقابر اليهود في الشهر نفسه الذي شهد إعادة افتتاح المعبد اليهودي بالإسكندرية في 10 يناير (كانون الثاني) 2020، بتكلفة بلغت نحو 70 مليون جنيه (الدولار الأميركي يعادل 15.8 جنيه مصري) موّلتها الحكومة المصرية من المبلغ الذي خصصته رئاسة الجمهورية لتمويل وترميم وتطوير 8 مشاريع أثرية وقيمته 270 مليون جنيه؛ وهو ما أثار الجدل بين مؤيد يدعم ترميم التراث المصري بأشكاله كافة، ومعارض يرى عدم الحاجة إلى إنفاق هذه الأموال على معبد لن يستخدم في الصلاة، بسبب قلة عدد الطائفة اليهودية في مصر.
وقال الكسباني، «إنه عادة ما يثير ترميم التراث اليهودي مثل هذا الجدل، لكنه في النهاية تراث مصري، ونحن نهتم به في هذا السياق، حتى إن حاول البعض تحميل المسألة أبعاد سياسية».
وهو ما أكده ألبير أريي، يهودي مقيم في مصر وعضو «جمعية مبرة قطرة اللبن للحفاظ على التراث»، التي تتولى تنفيذ المشروع بالتعاون مع المركز الأميركي، وقال لـ«الشرق الأوسط»، إن «التراث اليهودي جزء من التراث المصري المتنوع، ولا بد من الحفاظ على المعابد والمقابر اليهودية لحماية التاريخ؛ وهو ما نعمل عليه في الجمعية من توثيق للمقابر وحماية للتراث اليهودي المصري بعيداً عن أي أهداف سياسية».
وبحسب بيان السفارة الأميركية في القاهرة، فإن «المشروع يساهم في الحفاظ على هذا الموقع التراثي المهم، الذي يضم أقدم مقابر لليهود في العالم، ويعمل على إلقاء الضوء على التنوع التاريخي والتعددية الثقافية في مصر».
وعملت «جمعية قطرة اللبن» على مدار السنوات الخمس الماضية على تنظيف مقابر البساتين وتنظيفها، قبل البدء في مشروع رسمي لتوثيقها. وقالت ماجدة هارون، رئيسة الطائفة اليهودية في القاهرة لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدولة المصرية مهتمة بالتراث اليهودي بعيداً عن أي أبعاد سياسية، وظهر ذلك عبر مشروع ترميم المعبد اليهودي في الإسكندرية»، مشيرة إلى أن «عدد اليهود في مصر قليل، لكننا كطائفة مهتمين بالحفاظ على تراثنا وتاريخنا المهم، ومنها مقابر البساتين»، موجهة الشكر للسفارة الأميركية لدعم مشروع ترميم المقابر، وللحكومة المصرية لاهتمامها بالمعابد اليهودية.
وذكرت بارتيني، أن «المركز الأميركي للبحوث بالقاهرة، يعمل منذ نحو 25 عاماً في مشروعات مختلفة لحفظ التراث المصري بمختلف أشكاله، فرعوني وقبطي وإسلامي، وإن كان مشروع ترميم وتوثيق مقابر البساتين هو مشروع مختلف عما اعتاد أن يعمل عليه المركز، لكننا سعداء بتنفيذه لأنه يعكس مدى ثراء وتنوع الثقافة والتراث المصري».
وعن سبب اختيارها مقابر البساتين بالتحديد، قالت بارتيني، إن «هذا موقع في حاجة شديدة إلى الترميم؛ لأنها مقابر مهمة جداً ومعرّضة للخطر»، مشيرة إلى أن «هدف المشروع الأساسي هو توثيق الموقع الذي تعرض للتدمير من العوامل الجوية والقمامة، حيث سيتم توثيق ومسح وتصوير المقابر، وبعد ذلك سيتم إجراء عمليات ترميم دقيقة لمقبرتين من المقابر، إحداها تعود للطائفة القرائية، والآخرى للحاخام المصري الشهير حاييم كابوسي، الذي يمتلك معبداً باسمه في مصر القديمة».
ويرجع تاريخ مقابر البساتين إلى القرن التاسع عشر، وكانت مقسمة إلى مناطق مخصصة للطوائف اليهودية الربانية والقرائية، ومن أشهر مقابرها حوش موصيري، ومقبرة الحاخام اليهودي حاييم كابوسي، وتعد مقابر البساتين ثاني أقدم مقابر لليهود في العالم، وفق بارتيني التي أعربت عن أملها في تسجيلها في عداد الآثار المصرية.
بدوره، يقول الدكتور جمال مصطفى، رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية بوزارة الآثار المصرية، لـ«الشرق الأوسط»: «المقبرة اليهودية الوحيدة المسجلة في البساتين هي حوش موصيري، وهي مقبرة موثقة ومرممة وحولها سور لحمايتها، كما أن هناك مقابر أخرى مسجلة لليهود في الإسكندرية هي مقابر الشاطبي 1 و2»، مشيراً إلى أن «مصر بها 14 أثراً يهودياً، بينها 11 معبداً 9 منها في القاهرة، و2 في الإسكندرية».
وعن سبب عدم تسجيل هذه المقابر رغم قدمها رد مصطفى: «لدينا الكثير من المقابر الإسلامية أيضاً غير المسجلة في (مقابر الخفير) و(باب الوزير)، وغيرها».