مذكرات عربي في الأمم المتحدة (الحلقة 2 والأخيرة): سمير صنبر لـ «الشرق الأوسط»: بين الصحافة والسياسة الدبلوماسية حاجز من ورق

قال إن تلاشي دور الأمم المتحدة انعكس على قضايا المنطقة العربية

سمير صنبر مع الأمين العام الأسبق د.بطرس غالي في عام 1997
سمير صنبر مع الأمين العام الأسبق د.بطرس غالي في عام 1997
TT

مذكرات عربي في الأمم المتحدة (الحلقة 2 والأخيرة): سمير صنبر لـ «الشرق الأوسط»: بين الصحافة والسياسة الدبلوماسية حاجز من ورق

سمير صنبر مع الأمين العام الأسبق د.بطرس غالي في عام 1997
سمير صنبر مع الأمين العام الأسبق د.بطرس غالي في عام 1997

ستة أشهر من العمل التجريبي وصلت إلى 44 سنة أمضاها سمير صنبر في مكتب الأمم المتحدة. شهد خلالها عدم رغبة الدّول الكبرى والنّافذة في إيجاد حلٍّ للنزاع العربي - الإسرائيلي، رغم جهود كورت فالدهايم، الذي رافقه عام 1980 إلى طهران لمحاولة إطلاق سراح الرهائن الأميركيين، ليرحل الأمين العام ويبقى هو وحده مستمراً بالمحاولة. ربطته علاقة صداقة مع كوفي أنان، وبقي إلى جانب بطرس غالي لآخر يوم في ولايته، بعد تخلي الكثيرين عنه بسبب تقرير رسمي طال الهجوم الإسرائيلي لمقر «اليونيفيل» في بلدة قانا اللبنانية الجنوبية. وكما لعبت الصدفة دوراً في بداية حياته المهنية، سؤال طرحه على نفسه جعله يتّخذ قرار الاستقالة: «هل سأمضي ما تبقى من العمر على هذه الحال؟ أم سأحاول أقله الاستمتاع بالحياة؟». ومع ساعات الصباح ذهب إلى المكتب ليلقي تحية الوداع. وفيما يلي نص حوار الحلقة الثانية والأخيرة:
> شهدت الأمم المتحدة في عهد كورت فالدهايم ملفات ملحة في منطقة الشرق الأوسط. أطلعنا على أبرز ذكرياتك وقتها...
- حاول فالدهايم لعب دور فعال لحل النزاع العربي - الإسرائيلي على أساس الشرعية الدُّولية والقرار 242 ابتداء من جمع الأطراف في جنيف، ولم يحصل على نتائج عملية لأنّ الدّول الكبرى لم تكن ترغب في إيجاد حل متوازن. ذهب إلى إيران بعد الثورة ولم يستطع البقاء أكثر من أيام، خصوصاً بعدما أحاط به الجموع وهو يحاول وضع إكليل من الزهور في «مقابر الشهداء» وحاصرت المظاهرات سيارته، وكان من الواضح أنّ هناك صراعاً داخلياً على السلطة لم تكن معالمه قد اكتملت بعد. غادر حينها وتركني أحاول إجراء اتصالات بالتعاون مع سفراء كندا والجزائر للبحث عن مخرج لائق. الحرب العراقية - الإيرانية استمرت حتى اتفاق وقف النار في أيام الأمين العام الذي تلاه.
> سافرت إلى طهران في أوج الثورة. ما ذكرياتك عن تلك المرحلة؟
- لم تكن مقاليد الحكم قد حسمت، فحاولت الوصول إلى صاحب القرار واكتشفت أنّها توزعت على أطراف عدّة والجميع تحت إشراف الخميني. علمت أنّ اللقاء معه يقتضي الجلوس على الأرض وعدم المبادرة بالحديث أو إثارة أي موضوع سياسي.
وسمعت أنّ المنافسة احتدمت بين اللاجئين إلى الخارج والثائرين في الداخل والأتباع القدامى للرئيس السابق مصدق وبعض جماعة اليسار والحركات الجديدة التي انطلقت مع الذين احتجزوا الرهائن بالسفارة الأميركية. حاولت عقد ندوات صحافية مع العدد المحدود من المراسلين الأجانب. واستفدت من تجربة سفراء الجزائر وكندا واستمر الاتصال بيننا حتى الإفراج عن الرهائن.
> ما الدور الذي لعبته في الإفراج عن الرهائن الأميركيين المحتجزين في السفارة؟
- رافقت فالدهايم إلى طهران خلال الوساطة لإطلاق الرهائن ووصلت صباح أوّل يوم من عام 1980. كنا نستمع لأحد الخطباء في طهران عندما همس لي الأمين العام، بأنّه يشعر أنّ أحد المسلحين قد وضع سراً رشاشاً قرب ظهره للتهديد المبطن. غادر بعد يومين وبقيت للاستمرار في المحاولة.
> ما أبرز التحديات التي واجهتك خلال عملك مع الأمين العام خافيير دي كويلار، خصوصاً في ملف الصحراء المغربية والبوليساريو؟
- ارتبط ملف الصحراء الغربية ودور البوليساريو بالخلاف بين السلطات في المغرب والجزائر. حاول كويلار جهده وعين زميلنا البريطاني - الدنماركي اريك جنسن مبعوثاً خاصاً للإقامة هناك ومتابعة الاتصالات. واستقبل زعماء البوليساريو في نيويورك بعد تنسيق مع حكومة المغرب. ولم تؤدِّ العناوين الصحافية عن مبادرات متجددة إلى نتيجة للتوافق. وكادت مدينة العيون تتحول إلى بعثة للتقاعد المؤقت لعدد من الدبلوماسيين الذين انتهت مهمتهم لتمثيل حكوماتهم بالأمم المتحدة.
> وماذا عن دوركم في مرحلة إدارة بطرس غالي للانتخابات المستقلة الأولى بإريتريا؟
- تسلم غالي الأمانة العامة مع ظهور ملامح إيجاد مخرج سلمي للثورة المسلحة التي ناضل خلالها الإريتريون ضد إثيوبيا من أجل الاستقلال. واتخذ مجلس الأمن القرار باستقصاء مطالب الشعب الإريتري حقوقاً مع تبديل نظام الحكم. كانت شؤون الدول الأفريقية المجاورة من المسائل المباشرة التي أشرف عليها عندما كان وزيراً للخارجية العربية. إثيوبيا تشارك في منابع النيل وإريتريا تطل على الجانب المقابل لدول الخليج وتشرف على باب المندب. هناك من اقترح إرسال «خوذ زرقاء»، أي جنود دوليين للإشراف على التنفيذ، واقترحت «القمصان البيض» بديلاً لإشعار الإريتريين باحتمال توفير حرية التعبير لهم مستقبلاً.
صدف أنّ أكثرية مجموعة الاتصال كانت من النساء، وفي يوم المرأة العالمي نزلن إلى الشارع لتقديم أنفسهن للإريتريات والاحتفاء باليوم المشترك. كنا نرتدي قمصاناً بيضاء كتب عليها بالأزرق «استفتاء حر وعادل لإريتريا». اكتسبنا قاعدة شعبية في يوم واحد. التقيت كل الأطراف السياسية وفي مقدمتها القائد الميداني والرئيس الحالي أسياس أفورقي. طفت القرى والمناطق قرب حدود السودان، وزرت بطريرك الأقباط وشيخ دار الفتوى. أنهينا المهمة. وأُعلنت النتيجة رسمياً من مقر الأمم المتحدة، فاقترحت على الرئيس أن يتقدم بطلب انضمام إلى عضوية الأمم لتأكيد الاستقلال. وعلمت أنّ إمارة موناكو تفكر أيضاً بالانضمام، فاقترحت تقديم الطلبين معاً بالجلسة نفسها ليبدو التوازن الدولي بين دولة نامية ودولة أوروبية.
> أخبرنا عن دورك في الملفات الملحة تحت إدارة بطرس بطرس غالي.
- عندما هاجم الجيش الإسرائيلي بلدة قانا، مقر القوة الفيجية لليونيفيل بجنوب لبنان، أُثيرت أزمة سياسية حول التقرير الرسمي. هل ينشر أم لا؟ لبنان طالب بالنشر وإسرائيل طالبت بحفظ الملف. كان الأمين العام في ألمانيا عندما عُقد اجتماع داخلي. تدخلت مادلين أولبرايت مندوبة الولايات المتحدة مطالبة بعدم النشر. سايرها كوفي أنان، الأمين العام المساعد لعمليات حفظ السلام. شرحت له أنّ التلفزيون البريطاني (بي بي سي) قد أشار إلى النقاط الرئيسية ومن الصعب لفلفة الموضوع. عاد غالي ووصل الرئيس اللبناني إلياس الهراوي لعرض القضية على الجمعية العامة. وخلال اجتماع في مكتب الأمين العام شرح الهراوي التفاصيل وهو يشير إلى «قانا الجليل». التقط غالي الإشارة واتخذ القرار بالنشر. اتصل رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز واقترح التأجيل بضعة أيام يرسل خلالها قائد الجيش الجنرال إيهود باراك للاطلاع عليه. تدخلت أولبرايت من جديد؛ لكن القرار حدد بالتنفيذ. بعدها بدأت أولبرايت حملة ضد التجديد لغالي، وحملتني مسؤولية خاصة عندما دافعت عنه عبر وسائل الإعلام، خصوصاً في «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» ومحطات التلفزيون الرئيسية. بل ازدادت حملتها علي بعد ترشيح أمين عام جديد. مع أنّ كوفي أنان كان زميلي وصديقي طوال الأعوام. شرحت أنّ هناك أميناً عاماً واحداً وأنّ ولائي الوحيد له، حتى نهاية ولايته في آخر السنة. وتوجهت إلى مكتبه بعد أن بدأ كثيرون التخلي عنه.
> تقاعدت من الأمم المتحدة تحت رئاسة كوفي أنان، في الفترة التي قررت الولايات المتحدة الأميركية اجتياح العراق رغم رفض الأمم المتحدة. ما كواليس هذه الأزمة؟ وكيف تتذكر آخر أيامك في المنظمة؟
- شعرت أنّني أرتاح في العمل الميداني أكثر من الإشراف الإداري. أشعر لدى مساهمتي بتوفير الغذاء للأطفال والتعليم المشترك، وتعزيز كرامة الإنسان في المجتمعات النّامية والمساهمة في حرية استقلال الشعوب كأنّني ولد بسيط.
اقترح كوفي أنان التّعاون المستمر كما كنّا طوال عقود، ورغم مسايرة الجميع والانقسام الدّائم، كنت أدرك مشاعره الدّاخلية من بعض الملامح. وبعد أيام من اجتياح القوات الأميركية للعراق من دون موافقة الأمم المتحدة، لاحظت خلال لقاء معه، بعد اجتماعه مع وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، أنّ أجفانه ترفّ بسرعة وصوته يبح خوفاً ونحن نشاهد طائرات الهليكوبتر العسكرية تطوف حول مبنى الأمانة العامة. عندما أشرت إليها كأنّها سترتطم بالمكتب مثل مركز التجارة العالمي، ضرب قبضته على يدي. فشرحت رأيي له أنّهم دخلوا العراق من دون إذن شرعي من المنظّمة، ولكنّهم لا بدّ سيحتاجون إلى قرارها بخروج اللائحة.
كنت أسكن على بعد دقائق من باب البيت إلى المكتب. وبعد يوم طويل من الاستماع إلى خطابات السفراء ومطالب الموظفين مررت على دكان قريب من منزلي لشراء بعض الأغذية وجدته قد أقفل وأنّ الساعة قد بلغت العاشرة والنصف مساءً. فتساءلت هل سأمضي ما تبقى من العمر على هذه الحال؟ أم سأحاول أقله الاستمتاع بالحياة؟ وفي اليوم التالي توجّهت إلى المكتب للوداع. كنت قد بدأت العمل في الأمم المتحدة عندما جئت من روما، على افتراض أن أبقى 6 أشهر فقط، وبقيت 44 سنة.
> ما نصيحتك للصحافيين الشباب؟
- أشجعهم على التطلع نحو الإعلام الدبلوماسي، وأقترح عليهم تحديد الهدف على قدر الموهبة المناسبة وتخطيط أسلوب للتنفيذ. والأهم أن يستمعوا قبل أن يتكلّموا، ويفكروا قبل أن يكتبوا. وألا يستجدوا بل يتقدموا بالموهبة الخلاقة والرأي الحر المستقل. فالمصداقية ثروة. والتّعرف على الآخرين بلا مكابرة ولا ادعاء. اكتشفت بالتجربة أنّ الاتصال بالآخرين يوفّر ثقافة حضارية واحترام كرامة الإنسان تبدأ بالنفس أولاً. وألّا يتخلوا عن جذورهم مهما كبرت الإغراءات.
> كيف كانت علاقتك مع الصحافيين ومراسلي الأمم المتحدة؟
- بين الصحافة والسياسة الدبلوماسية حاجز من ورق وجسر من الاهتمام المشترك، ساعدت خلفيتي الصحافية في تفهم احتياجات الصحافيين والمراسلين بمختلف المواقع والمهمات. كانت هناك 3 مراحل.
الأولى عند بدء عملي الصحافي في بيروت. كنت طالباً في الجامعة أطمح للعمل الصحافي، وأشاهد أكبر المراسلين الأجانب وألمعهم من على شرفة فندق السان جورج. فرحتي كانت كبيرة عندما حصلت على أوّل حديث صحافي من الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك داغ همرشولد.
المرحلة الثانية عندما تسلمت عملي بالأمم المتحدة في الجنوب «اليونيفيل» والاتصالات مع دول المنظمة العربية، وعندما انتقل تجمّع المراسلين إلى فندق «الكومودور» قرب منزل عائلتي في رأس بيروت، أصبحت أتردد على بهو الفندق أو أستقبلهم في مكتبي القريب بالمنارة. وقتها انطلق عدد من المراسلين للشهرة الإعلامية من بينهم توماس فريدمان، المعلّق الأسبوعي في «نيويورك تايمز» الذي بدأ في مكتب «أسوشييتد برس» في مبنى النهار شارع الحمرا؛ وروبرت فيسك وكان مراسلاً لـ«التايمز» اللندنية، ولورين جانكينز الذي فاز بجائزة «بوليتزر» الإعلامية لتغطيته أحداث بيروت عام 1982.
المرحلة الثالثة في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، حيث يعمل المراسلون بمكاتب في المبنى نفسه. ومهمتي كانت تقديم رؤساء الدّول والحكومات في المؤتمرات الصحافية، أسهمت خلالها بنسج علاقات ودّية مع وبين الطرفين. بعض الرؤساء كان يحاذر اللقاء مع الصحافيين، كما أنّ بعض المراسلين كان يشكّ في فائدة الحوار المثمر مع عدد من الرؤساء، أفادتني التجربة بالوصول إلى توازن عملي بين اللياقات الرسمية والنتائج المهنية. اكتسبت أصدقاء العمل من خلال الممارسة اليومية مع المراسلين. وتأكدت بعد عمل دولي لثلاثة عقود أنّني في نهاية الأمر صحافي.
> كيف ترى الأمم المتحدة اليوم كمنظومة؟
- كانت المركز الرئيسي للعلاقات التفاوضية بين الدّول الأعضاء، لكنّ دورها تلاشى في العقدين الماضيين. وبعد أن حازت جائزة نوبل للسلام لوقفها إطلاق النار والمراقبة الفعالة للنزاعات المسلحة في القارات الخمس، باتت الصحافة تتحدّث اليوم، عن فضائح الاستغلال الجنسي لعدد من المراقبين في أفريقيا الوسطى والغابون وهايتي. إنّها بحاجة للدول الكبرى لتستمر والصغرى لتنجح.
نتذكّر مثلاً، كيف أوقف الأمين العام الأسبق داغ همرشولد احتمالية اندلاع حرب بين الولايات المتحدة والصين بسبب اختطاف طيّار في آسيا لوقف حرب السويس. وكيف قتل بعد تحطّم طائرته أثناء محاولته تدبير وقف القتال في الكونغو. ونجح يو ثانت بعده في ترتيب تسوية لتجنيب الحرب حول تشيكوسلوفاكيا، ومنع حرب عالمية ثالثة حول كوبا. وطرح أسس حل لمشاكل الشرق الأوسط على أساس الشرعية الدّولية. وكيف استطاع خافيير بيريز دي كويلار إنجاز مهمة وقف المعارك في سان سلفادور وغواتيمالا، ووقف إطلاق النار بين العراق وإيران. ولا ننسى الدور الأساس الذي لعبه الدكتور بطرس غالي في تفادي المعارك بين صربيا وكرواتيا والبوسنة.
تعكس الأمم المتحدة عادة حال العالم، الذي تبدّل مع الألفية الثالثة فاختفت وانقسمت دول أعضاء، وبرزت أخرى جديدة وتبدّلت أسماء بعضها، كما تبدّلت مفاهيم القيادة، ودور المؤسسات. عالم جديد غاضب وغامض لم تتضح معالمه بعد، يحتاج إلى تحوّل واقعي للإطار الدّولي الشّامل. أمّا بالنسبة للمنفعة العربية فانعكس تلاشي دور الأمم المتحدة على أصحاب قضايا المنطقة. وبات التمثيل العربي بحاجة لمراجعة واقعية. فليس من عربي واحد في مركز نافذ داخل الأمانة العامة، على عكس ما كان في السابق حين ترأس 3 من بينهم امرأة عربية، دوائر مهمة كالإعلام وإدارة الاجتماعات وصندوق التنمية السّكانية.



«واشنطن بوست» لن تؤيد أي مرشح للرئاسة الأميركية

باتريك سون شيونغ (أ.ب)
باتريك سون شيونغ (أ.ب)
TT

«واشنطن بوست» لن تؤيد أي مرشح للرئاسة الأميركية

باتريك سون شيونغ (أ.ب)
باتريك سون شيونغ (أ.ب)

في كل انتخابات رئاسية وعامة تشهدها الولايات المتحدة، كان للمؤسسات الإعلامية الأميركية على الدوام نصيب من تداعياتها. وفي العادة أن جلّ المؤسسات الاعلامية كانت تنحاز لأحد طرفي السباق، حتى في بعض الانتخابات التي كانت توصف بأنها «مفصلية» أو «تاريخية»، كالجارية هذا العام. بل وكان الانحياز يضفي إثارة لافتة، لا سيما إذا «غيّرت» هذه المؤسسة أو تلك خطها التحريري المألوف، في محاولة للظهور بموقف «حيادي».

غير أن الواقع كان دائماً يشير إلى أن العوامل التي تقف وراء هذا «التغيير» تتجاوز مسألة الحفاظ على الحياد والربحية وتعزيز المردود المالي. إنها سياسية بامتياز، خصوصاً في لحظات «الغموض والالتباس» كالتي يمر بها السباق الرئاسي المحتدم هذا العام بين نائبة الرئيس كامالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي والرئيس السابق دونالد ترمب مرشح الحزب الجمهوري.

مقر «اللوس أنجليس تايمز» (أ.ب)

«واشنطن بوست» لن تؤيد أي مرشح!

يوم الجمعة، أعلن ويليام لويس، الرئيس التنفيذي وناشر صحيفة «واشنطن بوست»، التي يملكها الملياردير جيف بيزوس، رئيس شركة «أمازون» العملاقة، أنها لن تؤيد أي مرشح رئاسي لا في هذه الانتخابات، ولا في أي انتخابات رئاسية مستقبلية. وأضاف لويس، في مقال: «نحن نعود إلى جذورنا بالإحجام عن تأييد المرشحين الرئاسيين... هذا من تقاليدنا ويتفق مع عملنا في 5 من الانتخابات الـ6 الأخيرة». وتابع لويس: «ندرك أن هذا سيُفسَّر بطرق مختلفة، بما في ذلك اعتباره تأييداً ضمنياً لمرشح واحد، أو إدانة لمرشح آخر، أو تنازلاً عن المسؤولية... هذا أمر لا مفر منه. لكننا لا نرى الأمر بهذه الطريقة. إننا نرى ذلك متوافقاً مع القِيَم التي طالما دافعت عنها صحيفة (واشنطن بوست)». واختتم: «إن وظيفتنا في الصحيفة هي أن نقدّم من خلال غرفة الأخبار، أخباراً غير حزبية لجميع الأميركيين، وآراءً محفزة على التفكير من فريق كتّاب الرأي لدينا لمساعدة قرائنا على تكوين آرائهم الخاصة». إلا أنه في بيان وقّعه عدد من كبار كتّاب الرأي في الصحيفة، بينهم ديفيد إغناتيوس ويوجين روبنسون ودانا ميلبنك وجينيفر روبن وروث ماركوس، وصف الموقّعون القرار بأنه «خطأ فادح». وتابع البيان أن القرار «يمثّل تخلّياً عن المُعتقدات التحريرية الأساسية للصحيفة... بل في هذه لحظة يتوجّب على المؤسسة أن توضح فيها التزامها بالقيَم الديمقراطية وسيادة القانون والتحالفات الدولية والتهديد الذي يشكله دونالد ترمب على هذه القيم...». ومضى البيان: «لا يوجد تناقض بين الدور المهم الذي تلعبه (واشنطن بوست) بوصفها صحيفة مستقلة وممارستها المتمثّلة في تقديم التأييد السياسي... وقد تختار الصحيفة ذات يوم الامتناع عن التأييد، لكن هذه ليست اللحظة المناسبة، عندما يدافع أحد المرشحين عن مواقف تهدّد بشكل مباشر حرية الصحافة وقِيَم الدستور».

مقر «الواشنطن بوست» (آ. ب.)

... وأيضاً «لوس أنجليس تايمز»

في الواقع خطوة «واشنطن بوست» سبقتها، يوم الأربعاء، استقالة مارييل غارزا، رئيسة تحرير صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، كبرى صحف ولاية كاليفورنيا، احتجاجاً على منع مالك الصحيفة، الملياردير باتريك سون شيونغ، مجلس التحرير من إعلان تأييد هاريس. وهذه الخطوة أشاد بها ترمب، وعلّقت حملته، في بيان، بأن «زملاء هاريس في كاليفورنيا يعرفون أنها ليست مؤهلة للوظيفة». غارزا كتبت في رسالة استقالتها «أن الصمت ليس مجرد لامبالاة، بل هو تواطؤ»، معربة عن قلقها من أن هذه الخطوة «تجعلنا نبدو جبناء ومنافقين، وربما حتى متحيّزين جنسياً وعنصريين بعض الشيء». وأردفت: «كيف يمكننا أن نمضي 8 سنوات في مهاجمة ترمب والخطر الذي تشكّله قيادته على البلاد ثم نمتنع عن تأييد المنافس الديمقراطي اللائق تماماً الذي سبق لنا أن أيدناه لعضوية مجلس الشيوخ؟»، في إشارة إلى هاريس. من جانبه، كتب سون شيونغ، في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، أن هيئة التحرير «أتيحت لها الفرصة لصياغة تحليل واقعي» للسياسات التي يدعمها كل مرشح خلال فترة وجوده في البيت الأبيض، وعلى مسار الحملة الانتخابية، كي يتمكّن «القراء (أنفسهم) من تحديد مَن يستحق أن يكون رئيساً»، مضيفاً أن الهيئة «اختارت الصمت»!

هل الدافع تجاري؟

بالمناسبة، سون شيونغ يُعد من الداعمين للديمقراطيين عموماً، يرجح البعض أن يكون الدافع وراء موقفه الاعتبارات التجارية، ومنها جذب مزيد من القراء، بمَن فيهم الموالون للجمهوريين، لرفع نسبة الاشتراكات والدعايات والإعلانات، عبر محاولة تقديم الصحيفة بمظهر وسطي غير منحاز. كذلك، سون شيونغ، الطبيب والقطب في مجال التكنولوجيا الحيوية من منطقة لوس أنجليس، الذي ليست له أي خبرة إعلامية، كان قد اشترى الصحيفة التي يزيد عمرها على 140 سنة والشركات التابعة لها، مقابل 500 مليون دولار عام 2018. لكن خسائر الصحيفة استمرت، ما دفعه إلى تسريح نحو 20 في المائة من موظفيها هذا العام. وذكرت الصحيفة أن مالكها اتخذ هذه الخطوة بعد خسارة «عشرات الملايين من الدولارات» منذ شرائها.

ترمب يدعو لإلغاء تراخيص الأخبار

ما حصل في «واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز» سلّط حقاً الضوء على التحديات التي تواجهها المؤسسات الإعلامية الأميركية وسط الضغوط المتزايدة عليها، وتحويلها مادة للسجال السياسي.

وفي الواقع، تعرّضت وسائل الإعلام خلال العقد الأخير للتهديدات ولتشويه صورتها، وبالأخص من الرئيس السابق ترمب، الذي كرر اتهام منافذ إخبارية كبرى بالتشهير، ومنع الصحافيين من حضور التجمّعات والفعاليات التي تقام في البيت الأبيض، وروّج لمصطلح «الأخبار المزيفة»، الذي بات يتبناه الآن العديد من قادة اليمين المتطرف في جميع أنحاء العالم.

وفي حملات ترمب الجديدة على الإعلام، اقترح أخيراً تجريد شبكات التلفزيون من قدرتها على بث الأخبار، إذا كانت تغطيتها لا تناسبه. وكتب على منصته «تروث سوشال» في الأسبوع الماضي «يجب أن تخسر شبكة (السي بي إس) ترخيصها. ويجب وقف بث برنامج (60 دقيقة) على الفور». وكرّر مطالبه في الخطب والمقابلات، مردداً دعواته السابقة لإنهاء ترخيص شبكة «الإيه بي سي» بسبب استيائه من الطريقة التي تعاملت بها مع المناظرة الوحيدة التي أُجريت مع هاريس.

وقال في مقابلة مع قناة «فوكس نيوز» الداعمة له: «سنستدعي سجلاتهم»، مجدداً ادعاءه أن تحرير الشبكة لمقابلتها مع هاريس في برنامج «60 دقيقة»، كان «مضللاً» ورفض عرض الشبكة إجراء مقابلة معه. وأيضاً رفض الإجابة عما إذا كان إلغاء ترخيص البث «عقاباً صارماً»، ليشن سلسلة من الإهانات لهاريس، قائلاً إنها «غير كفؤة» و«ماركسية».