خلال كبرى المظاهرات التي قادها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر طوال السنوات الماضية، تحديداً منذ عام 2015 وحتى عام 2018، كان العنوان الأبرز لتلك المظاهرات هو الإصلاح. ثلاثة مشاهد رافقت تلك المظاهرات التي كانت توصف بـ«المليونية»، وهي تسمية ذات دلالة رمزية تشي بقوة القاعدة الجماهيرية للصدر، التي وحدها دون سواها قادرة على تحشيد الملايين خلفه.
المشهد الأول هو الخيمة الزرقاء التي نصبها الصدر في مدخل المنطقة الخضراء معتصماً، مع وجود جماهيري كثيف بدا من الصعوبة مقاومة زحفه نحو «المنطقة الخضراء» التي كانت شديد التحصين. المشهد الثاني هو اقتحام متظاهري الصدر المنطقة الخضراء ودخولهم مبنى البرلمان دون أن يترك ذلك تخريباً في منشآته. والمشهد الثالث اقتحام آخر للخضراء من قبل متظاهري الصدر، لكن هذه المرة في مبنى مجلس الوزراء. ومع قوة الزخم الجماهيري فإن الصدر هو مَن يتحكم بكل هذه الحشود الجماهيرية التي تلتزم بأوامره بصرامة.
ومع أن تلك المظاهرات بدت مؤيدة لرئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، الذي، وإن اتخذ سلسلة من القرارات من بينها إعفاء نواب رئيس الجمهورية الثلاثة (نوري المالكي وإياد علاوي وأسامة النجيفي) ونواب رئيس الوزراء الثلاثة (بهاء الأعرجي وصالح المطلك وروز نوري شاويس)، فإنه لم يستكمل ما كان يمكن أن يُنتظر منه، وهو الضرب بيد من حديد على الفاسدين.
في العام الماضي، انطلقت مظاهرات جماهيرية مختلفة هذه المرة لم يشترك فيها الصدريون، بل بدت بوصفة مختلفة تماماً، وذلك لجهة وقوفها ضد كل الأحزاب والقوى السياسية التي تحكمت بالمشهد السياسي منذ عام 2003 وحتى اليوم. في ضوء قوة هذه المظاهرات وحجم ما قدمته من ضحايا في الأرواح زادت على العشرين ألفاً بين قتيل وجريح، فإنها أثّرت على جماهيرية الصدر وقدرته الرمزية والعملية على احتوائها. ومع أن كل القادة السياسيين العراقيين أعلنوا تأييدهم للمظاهرات بوصفها حقّاً يكفله الدستور، فإن الصدر بقي وحده يقف على مسافة قريبة نسبياً من المتظاهرين، لا سيما بعد أن أمر كتلته البرلمانية «سائرون» بالتنازل، بوصفها الكتلة الأكبر، عن حقها في اختيار رئيس وزراء، وترك الخيار لساحات التظاهر هذا الخيار.
في موازاة هذا المسار، كان هناك مشهد آخر مختلف، هو التوتر الأميركي - الإيراني المتصاعد الذي يؤثر كثيراً على المشهد العراقي. في أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول) 2019، بدأت الأمور تأخذ مجرى آخر حين قصف فصيل مسلح قاعدة «كي 1» في كركوك، مما أدى إلى مقتل متعاقد أميركي. كان رد أميركا غير متوقع حين قصفت أحد ألوية الحشد في منطقة القائم غرب العراق، مما أدى إلى مقتل وجرح أكثر من 80 مقاتلاً. على خلفية ذلك، جاء رد قوى وفصائل مسلحة بمحاولة اقتحام السفارة الأميركية في بغداد، مطلع العام الجديد. وفي ظل هذا التصعيد لم يكن أحد يتوقع المفاجأة التي بدت أغرب إلى الخيال، حين نفذت واشنطن عملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني في بغداد، ومعه أبو مهدي المهندس، أقوى شخصية في «الحشد الشعبي». فجأة، ارتسم فراغ هائل في الأفق السياسي امتدّ من إيران إلى بغداد وبالعكس.
وبينما لم يكن أحد يتصور ما يمكن أن يحصل، فإن الفراغ الذي أحدثته عملية قتل سليماني والمهندس لا يمكن أن يستمرّ، في ظل تصاعد حدة التداعيات، والصدر الذي لم يكن محسوباً تماماً على المحور الذي يلتزمه سليماني والمهندس ومعهم قيادات الفصائل المقربة من إيران، كان المرشح الأقوى لملء هذا الفراغ. فالصدر الذي بدت ردة فعله قوية حيال عملية مطار بغداد بدا الوحيد القادر على انتشال الجميع من حيرتهم، لا سيما بعد أن أعلن عن تشكيل المقاومة الدولية للاحتلال، وتم تكريسه زعيماً لهذه المقاومة من كل زعماء الفصائل بما فيها التي كانت على خصومة كبيرة معه.
أمس وخلال المظاهرة المليونية اتضح أن الصدر، الذي دعا إليها وشاركت فيها الفصائل الأخرى، وحده من يملك مفاتيح التعامل مع الأزمة الراهنة التي تتمثل بالوجود الأجنبي في العراق. والأهم أن خريطة الطريق التي طرحها أمام الجماهير الحاشدة في الطريق الطويل الرابط بين الجادرية والكرادة لا تبدو أنها تلقى موافقة كثير من الفصائل لا سيما مقترحه دمج «الحشد الشعبي» في وزارتي الدفاع والداخلية أو التزامه الصارم بأوامر القائد العام للقوات المسلحة.
ليس هذا فقط، فإن الصدر كان قد خالف إجماع الفصائل المسلحة المقربة من إيران لجهة لقاء الرئيس العراقي برهم صالح الرئيس الأميركي دونالد ترمب في دافوس حين غرّد بأن صالح هو «حامي السيادة وحامي الثوار». حتى وإن بدت هذه التغريدة طعنة لما بدا عليه الموقف موحداً بين فصائل المقاومة التي كرست الصدر زعيماً، فإنها بدت بداية النهاية لهذا التكريس حتى مع بقاء الخلافات صامتة بين الطرفين. غير أن الحشد الجماهيري، أمس، وهو الأضخم في تاريخ المظاهرات، كان وزنه الأكبر صدرياً، فضلاً عن أن الكلمة المركزية فيه كانت للصدر، هو الذي أعاد تكريس زعامة الصدر للمقاومة في ضوء خريطة طريق سياسية وللإصلاح كذلك، لا سيما أن الصدر من أقوى المؤيدين لتشكيل حكومة مستقلة وبشخصية مستقلة، وليست جدلية، وهو الموقف نفسه الذي تتبناه مرجعية السيد السيستاني في النجف.
الصدر بين الزعامة والإصلاح والمقاومة
الصدر بين الزعامة والإصلاح والمقاومة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة