«نحن من هناك» وثائقي لبناني يشارك في مهرجان روتردام الهولندي

مرة جديدة يلمع اسم لبنان عالمياً بفضل مواهب أبنائه الفذة، الذين رغم كل ما يعيشونه في بلادهم من عدم استقرار سياسي وميداني واقتصادي يجتهدون لإحداث الفرق. ومن هذا المنطلق يشارك المخرج الشاب وسام طانيوس من خلال فيلمه الوثائقي «نحن من هناك» في مهرجانات روتردام السينمائية العالمية. ويدخل في سباق مع غيره من فناني البلدان الأجنبية ضمن فئة «برايت فوتور» (Bright Futur). ويصل مخرج الفيلم مساء اليوم إلى هولندا متحمساً للقاء جمهور فيلمه الذي ينتظر مشاهدة عمله الوثائقي بعد أن نفدت بطاقات عرضه الأول في السابعة من مساء غدٍ الجمعة 24 يناير (كانون الثاني).
ويحكي الفيلم الذي صوره المخرج الشاب على مدى خمس مراحل، قصة جميل وميلاد، وهما شقيقان سوريان في منتصف العشرين من عمرهما، يقرّران تغيير مصيرهما وإعادة بناء حياتهما من الصفر قاصدَين أوروبا. فيتركان كل شيء خلفهما ويتسلّحان بشغف الحياة والعزيمة والأمل بمستقبل أفضل. فأحلامهما كانت أكبر من أن تقضي عليها الحرب الدائرة في سوريا؛ ولذلك حزما أمتعتهما وقررا خوض مغامرة الهجرة على طريقتهما بعد أن استقلا زورقاً مطاطياً أقلهما من لبنان إلى تركيا في عام 2015. ويقوم ابن خالهما وسام وعلى مدار 5 سنوات بتوثيق رحلتهما مستحضراً ذكريات طفولتهم السعيدة والتساؤلات عن المعنى الحقيقي للوطن، بالإضافة إلى استكشاف قدرة الإنسان على التأقلم مع التغيير مهما كان جذرياً.
«مشاركتي في مهرجان روتردام الهولندي اعتبره أول منصة عالمية أقف عليها، وهي بمثابة الخطوة الأولى من رحلة الألف ميل التي سيستغرقها الفيلم ليتعرف إليه أكبر عدد من الناس. وأنا متحمس جداً لمعرفة ردود فعل الناس عند مشاهدته لأعرف تماماً إذا ما نجحت في إيصال أفكاري الفنية، وكذلك مشاعري الواقعية النابعة من قصة حقيقية عايشتها في جميع لحظاتها» يقول وسام طانيوس في حديث لـ«الشرق الأوسط». وكان للمخرج الشاب أن شارك فيلمه في ملتقى سينمائي في بيروت وآخر في القاهرة، وكذلك في مراكش. «هذه الملتقيات روّجت من دون شك للفيلم وساعدتني في التعرف إلى موسيقيين ومنتجين أتعامل معهم اليوم أمثال المغربي أمين بوهافا الذي وضع موسيقى الفيلم، والمنتجة الفرنسية غابريال دومون التي انضمت لاحقاً إلى فريق الإنتاج الأساسي (أبوط برودكشن)، وعلى رأسهم كريستيان عيد. يوضح وسام طانيوس في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط». ويتابع: «يهمني كثيراً أن أحوز جائزة المهرجان، لكن تهمني في المقابل هذه التجربة بحد ذاتها في مهرجان عالمي معروف، خصوصاً أن العرض الأول له اكتملت حجوزاته منذ فترة. (نحن من هناك) فيلم وثائقي من الصعب الترويج له كالأفلام السينمائية التجارية. ومن هنا تكمن أهمية مشاركتي في هذه المنصة العالمية».
وتربط وسام بأبناء خاله علاقة وطيدة، وهو ما ولّد عنده شعور بالخسارة عندما علم بقرارهما. ويقول: «لم أكن أعي أن الهجرة ستدق باب أحد المقربين مني وتسرق أحبائي كغيري من الناس الذين عاشوا هذه التجربة مع أبنائهم وأحبابهم. ففكرة الهجرة بحد ذاتها يلزمها شجاعة كبيرة. وأنا شخصياً راودتني، لكني لم أستطع تحقيقها. وانطلاقاً من شعور الخسارة الذي سبق وعشته عندما فقدت والدي وأنا صغير ومن بعده شقيقتي دفعاني إلى تصوير هذا الفيلم. فهو قصة حقيقية عشتها بحذافيرها ورغبت في أن أنقلها كما أراها بعيني السينمائية».
المصير والقدر والتشتت وخسارة الأرض، وكذلك التعاطي مع المجهول والسير في طريق غامضة هي من الموضوعات التي ترتبط بالهجرة. ويسلط وسام طانيوس الضوء عليها بكاميرا حساسة تغمرها العاطفة والكثير من الذكريات الطفولية التي لا تنسى. كما يعود في مشاهد الفيلم إلى محطات من طفولته بالأبيض والأسود وأخرى ملونة تضفي الواقعية على أحداث الفيلم بشكل لافت.
«لا أعلم إذا كنت أستطيع أن أهدي هذا الفيلم إلى خالي وهو يعمل في النجارة، فهو أحد الأشخاص المقربين مني بشكل كبير. قد يكون أحد أبنائه ورث عنه مهنة النجارة، لكني أخذت عنه منحى فنياً كان يمتاز به. فهو كان يلاحقنا (أولاده وأنا) بكاميرا فيديو (في إتش إس) يملكها ليصورنا في مشغل النجارة وفي المنزل وأثناء اللعب، وفي كل مكان يتاح له ذلك. وأعدّ هذا الفيلم بمثابة تكريم له لأنه زرع في حب الكاميرا بصورة لاشعورية فحملتها عنه وأكملت الطريق من دون أي تردد».
أبطال فيلم «نحن من هناك» هما جميل وميلاد ابنا خال وسام الذي يظهر كما خاله في مقاطع من الفيلم. وفي مقاطع من «الترايلر» (ملخص مرئي صغير عن الفيلم) يطالعنا وسام طانيوس بحفنة من الأحاسيس التي خالجته عندما علم بقرار قريبيه.
«بس جميل وميلاد قالولي بدن يفللوا تفاجأت.. وبس بلشت الحرب بسوريا كنت شوف كتير شباب من عمري عم بخاطروا بحياتن ويفللوا... ولا مرة كنت متوقع أنو ولاد خالي اللي كنت العب معن أنا وصغير رح يعملوا ذات الخطوة ويرجعوا يبلشوا حياتن من الصفر».
لكن جميل وميلاد نفذا قرارهما وركبا الأمواج وصارعا التشتت في طريق طويلة بدأت من سوريا ولبنان، وصولاً إلى تركيا ومنها إلى اليونان. «لقد كان حلمهما كبيراً إلى حد جعلهما يبذلان كل ما في استطاعتهما لتحقيقه. اليوم ميلاد يعمل في مجال الموسيقى وهو يعيش في برلين، وجميل يواصل عمله اليدوي نجاراً في استوكهولم. كل منهما يخوض تجربته على حدة. وهو ما تطلب مني ملاحقتهما لمدة 5 سنوات متتالية متابعاً خطواتهما في بلاد الهجرة». يروي وسام طانيوس الذي يؤكد بأن أفلاماً كثيرة نفذت حول اللاجئين السوريين الذين شتتهم الحرب. لكنه شخصياً رفض استخدام هذا المصطلح في عمله لأنه يعتبر قريبيه هاجرا كمواطنين يحلمان وليس كلاجئين محبطين.
«لم يهمني البعد السياسي بقدر ما همني تسليط الضوء على البعد الإنساني، فقصة الفيلم يمكن أن تنطبق عليّ شخصياً وعلى عدد من شباب اليوم؛ لأنها مجبولة بالأحاسيس التي يمكن أن تخالج أياً منا».
وعن المصاعب التي واجهها خلال تنفيذه الفيلم، يقول وسام: «لقد تشتت بدوري وسافرت على أكثر من بلد كي أكون على مقربة منهما. وعندما كانا يجلسان أمام الكاميرا كان كل شيء يتغير فيصبحان شخصين لا أعرفهما. فالكاميرا لها رهبتها وتمارسها على أي منا عندما نتحدث عن حميمياتنا، وهذا ما حصل مع ابنَي خالي».