هناك فيلم تسجيلي حققه الممثل كايسي أفلك حول الممثل واكين فينكس وصحبه من الممثلين المرموقين عنوانه «ما زلت هنا» سنة 2010. ظهر في ذلك الفيلم، وإلى جانب فينكس، الممثلة روبن والممثلون بيلي كرودَب، وداني غلوفر، وبروس ويليس، وأنطوني لانغدون، وكايسي أفلك نفسه، وممثل أكبر حجماً من كل هؤلاء اسمه جاك نيكلسون.
عُرض الفيلم في مهرجانات عدة (أولها فينسيا)، لكنه لم ير نور العرض التجاري وما لبثت الأيام أن ابتلعته وطواه النسيان... هذا ما حدث مع جاك نيكلسون نفسه أو يكاد.
«ما زلت هنا» ليس الفيلم الوحيد الذي ظهر فيه الممثل جاك نيكلسون في ذلك العام، بل ختم أعماله الكبيرة والمُنتجة من قِبل شركات هوليوود الكبيرة بفيلم عنوان «كيف تعلم» حققه جيمس ل. بروكس:
ذلك الفيلم كان كوميديا عاطفية تحمست لها شركة كولمبيا وموّلتها بميزانية بلغت 120 مليون دولار. الفيلم من سوء طالعه (ومن سوئه أيضاً) لم يجلب أكثر من 48 مليون دولار. بعده اختفى جاك نيكلسون وما زال مختفياً حتى اليوم.
البعض عزا اختفاءه إلى مرض ألزهايمر. والإشاعة انتشرت وقبل بها كثيرون قبل أن يجري جاك نيكلسون مقابلة مع صحيفة لندنية قبل بضع سنوات سخر فيها من الإشاعات، وردّ على كل سؤال له علاقة بالماضي وعلى نحو تفصيلي.
ما لم يقله في تلك المقابلة بوضوح هو لماذا توقف عن العودة. قال: إنه قد يعود إذا ما وجد نفسه مستعداً، لكنه لم يقل لماذا لم يجد نفسه مستعداً للعودة؟ هل فشل «كيف تعلم» جعله يدرك أنه خسر نجوميته؟ هل وجد أنه بلغ آنذاك الثانية والسبعين من العمر بحيث لم يعد يكترث لمزيد من الظهور؟ أم نظر حوله فوجد أن المعروض عليه لا يتجاوز أدواراً صغيرة في أفلام كبيرة أو أدوار المسنين في أفلام لن يشاهدها أحد؟
يبحث الفنان والمبدع دائماً عن الحوافز التي تجعله يطلب من نفسه المزيد من العطاء، والغالب هنا أن جاك نيكلسون، وبالنظر إلى خلو أفلامه الأخيرة من أي قيمة فنية تُذكر قد يكون وجد الدافع لتوقفه. الدافع لفقدانه الحافز.
بالنظر إلى السنوات الخمس عشرة الأخيرة من مهنته نجد أن نجاحه التجاري الجيد ورد في فيلم آخر من تحقيق جيمس ل. بروكس، هو «أفضل الممكن» (As Good as it Gets) سنة 1997. بعد ذلك شوهد نيكلسون في سبعة أفلام فقط، بما فيها «ما زلت هنا» و«هل تعلم».
لكن السنوات الممتدة من 2001 إلى 2010 شهدت له بنبوغ الموهبة مجدداً كما شهدت أفلامه طوال الستينات والسبعينات والثمانينات من قبل. هذا تجسد في ثلاثة أفلام بديعة، هي «العهد» لشون بن (2001)، و«حول شميت» لألكسندر باين (2002)، ثم «المغادر» لمارتن سكورسيزي (2006). أفلامه الأخرى في ذلك العقد كانت متفاوتة القيمة، ولو أن الموهبة بقيت الأفضل فيها: «إدارة الغضب» لبيتر سيغال، و«شيء عليه أن يقبل» (Something’s Gotta Give) لنانسي مايرز، و- أفضلها - «قائمة الدلو» لروب راينر.
- عقد من الأعمال المتفاوتة
كان نيكلسون في الحادية والعشرين من العمر عندما مثل، سنة 1958، أول دور له على الشاشة. فيلم صغير من بطولته (وإخراج جستيس أديس الذي لاحقاً ما انصرف لتحقيق أعمال تلفزيونية) عنوانه The Cry Baby Killer. لعب دور مراهق صغير يختطف رهائن بعدما اعتقد أنه ارتكب جريمة قتل. اختاره المخرج رتشارد راش لفيلمه «من المبكر الوقوع في الحب» (1960) قبل أن يمنحه المنتج والمخرج روجر كورمان دوراً في «دكان الرعب الصغير»، وكان هذا الفيلم تمهيداً لأدوار أخرى أكبر للمخرج المستقل، من بينها «الغراب» (عن رواية إدغار ألان بو) و«الرعب» (كلاهما سنة 1963).
الفيلم الذي صنع جاك نيكلسون كان «إيزي رايدر» سنة 1969، فيه لعب دور محام شاب يستجيب لدعوة مشاركة هيبيين (بيتر فوندا ودنيس هوبر مخرج الفيلم) لرحلة في البر الأميركي بعيداً عن المدينة وتعريفاً بحركة ادّعت آنذاك نشر الحب والسلام والماريوانا.
من هذا الفيلم وصاعداً انطلق نيكلسون كما لو كان مركبة فضاء متجاوزاً النجاح السابق بنجاح أكبر. بات الممثل المشترك في ركاب خيرة من أنجبتهم السينما في تلك الفترة مثل وورن بيتي، وآل باتشينو، وروبرت دي نيرو، وكلينت ايستوود، وروبرت ردفورد، وسواهم.
لمع في «خمس مقطوعات سهلة» لبوب رافلسون الذي استعان به لاحقاً في «ملك حدائق مارڤن» (1972) و«ساعي البريد يدق الباب مرتين دائماً» (1981) ثم «دم وخمر» (1996) وبنتائج رائعة في كل مرّة.
في 1973 مثل في فيلم المخرج الرائع هال أشبي «التفصيلة الأخيرة»، لاعباً دور مجند في البحرية عليه اصطحاب آخر إلى محكمة عسكرية. بعد ذلك بعام واحد اختاره رومان بولانسكي لبطولة «تشايناتاون». بهذا الفيلم لم يعد نيكلسون ملك حدائق مارڤن فقط، بل حدائق هوليوود بأسرها. من هذا الفيلم إلى تجربته الممتازة تحت إدارة الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني في «المهنة: صحافي» (1975)، ثم فيلم ناجح آخر لميلوش فورمان هو «واحد طار في عش الوقواق»: هنا هو واحد من مصحة نفسية ينتقد سيئاتها وسوء معاملتها للمرضى ويتمرد عليها.
في عام 1980 لعب دوراً بالغ الأهمية كذلك هو «ذا شاينينغ» تحت إدارة مخرج كبير آخر هو ستانلي كوبريك. وتحت إدارة صديقه وورن بايتي لعب شخصية يوجين أونيل في «حمر».
من بين 62 فيلماً من تمثيله أخرج ثلاثة أفلام هي «قُد، قال: «(Drive، He Said) سنة 1971 والذهاب جنوبا» (1978) ثم «كلاهما جايك (تكملة غير موفقة لفيلم «تشاينامان» سنة 1980).
حتى «المغادر» (The Departed) لمارتن سكورسيزي أمام رعيل من الجيل اللاحق (بينهم ليوناردو ديكابريو ومات دامون ومارك وولبرغ) بقي نيكلسون نموذجاً لممثل يحرص على إتقان دوره وتجسيده بكل ما أوتي من موهبة. ودوره في «المغادر» داكن الرسم والدلالة كما حاله في «ذا شاينينغ» و«آيرون ويد» و«باتمان» (لعب دور جوكر في نسخة 1980) و«وولف» كما «العهد» لشون بن. نيكلسون مال إلى الكوميديا مرات كثيرة. (كحال أفلامه مع جيمس بروكس وبعض أفلام مايك نيكولز) كان جيداً كممثل، لكن أفضل أداءاته كانت في تلك الأدوار الداكنة التي لا يُشبع النظر إليها.
رشح 12 مرّة للأوسكار وفاز بثلاثة منها عن «أحدهم طار فوق عش الوقواق» (1976) و«شروط المودة» (1984) ثم «أفضل ما يكون» (1998).