حكومة «الأمر الواقع» غير الواقعية

TT

حكومة «الأمر الواقع» غير الواقعية

يشمل «الأمر الواقع» اللبناني الذي جاء بحكومة حسّان دياب الجديدة، سيطرة تحالف الثامن من آذار (مارس) على أكثرية مقاعد مجلس النواب على إثر انتخابات 2018 التشريعية التي أجريت وفق قانون مفصل على مقاس التحالف المذكور. ويشمل أيضا إخفاق المنتفضين في ساحات وبلدات البلاد في تشكيل جبهة ذات برنامج سياسي واضح تساهم في تكريس موازين قوى جديدة تنهي شرعية برلمان تتآكل شرعيته منذ نزول مئات آلاف اللبنانيين إلى الشوارع رفضا لسياسات الائتلاف الحكومي السابق. يضاف إلى ذلك إصرار «محور الممانعة» بقيادة إيران على التمسك بلبنان كورقة مقايضة في أي مفاوضات مقبلة مع الغرب بفضل قيمته المركزية في استراتيجيات الحكم في طهران.
لكن ما تقدم ينحصر في الزاوية السياسية المجردة وفي حسابات إقليمية لم يحن وقت تسويتها بعد. بل إنها لا تعدو كونها جزءا صغيرا من «الأمر الواقع» الحالي في لبنان الذي يزداد تعقيدا وتشابكا بمرور الأيام في ظل عجز المجموعة الحاكمة عن الإتيان بأي حل للأزمات السياسية والاقتصادية. ذاك أن الانهيار الاقتصادي وتبعاته الاجتماعية قد حلّ ويبدو أنه سيرافق مواطني هذا البلد لزمن طويل. وليس في الأفق ما يشير إلى قرب الخروج منه.
مؤتمر «سيدر» الذي عقد في باريس في 2017. على سبيل المثال، قرر منح لبنان 11 مليار دولار شرط الالتزام بجملة من الإصلاحات الإدارية. ورغم أن أكثرية مشاريع «سيدر» كانت ستذهب عائداتها إلى مافيات المقاولات المرتبطة بأقطاب الائتلاف الحاكم، إلا أن هؤلاء عجزوا حتى عن القيام بالإصلاحات المطلوبة ولو في سبيل الحصول على الغنيمة الدسمة التي شكلتها مشاريع المؤتمر. أعلن العجز هذا عن العطب النهائي للنظام السياسي حتى فيما يتعلق بالقدرة على الاستمرار في النهب.
يضاف إلى ذلك أن تغوّل القطاع المصرفي الذي انجرف إلى ممارسات تشبه «هيكل بونزي» أي إعطاء فوائد ضخمة لقدامى وكبار المودعين على حساب صغارهم، وصل إلى نهايته المحتومة بالفشل في تسديد الفوائد التي تُعد من الأعلى في العالم على العملة الصعبة. أفضى ذلك إلى انهيار مكتوم للمصارف التي ما زالت تتهرب من الاعتراف بجريمتها وتسعى إلى تحميل صغار المودعين عبء سياساتها الرعناء. هذه السياسات ستكون على مشرحة صندوق النقد الدولي إذا قررت الحكومة اللجوء إليه طلبا للمساعدة. ورغم سلبية سياسات الصندوق التي تمثلت في تجاربه مع بلدان العالم الثالث، إلا أن أي تدقيق علمي وموضوعي في السياسات النقدية اللبنانية المعتمدة منذ عقود سيكون بمثابة الفضيحة العالمية بسبب مستوى الفساد والمحسوبيات والزبائنية الاستثنائي ناهيك عن الطابع الكتيم للكيفية التي تمنح بها العقود الحكومية، الصغيرة قبل الكبيرة، على نحو لا يقبل به محاسب مبتدئ.
الخوف من الفضيحة وما ستجلبه من تشدد في مراقبة أي إجراءات قد يتخذها صندوق النقد، تحمل المجموعة الحاكمة على التفكير مليا قبل اللجوء إلى المؤسسات الأممية، ما يرفع من احتمالات اتخاذ الحكومة الجديدة المزيد من الإجراءات البهلوانية الهادفة إلى حماية مصالح السياسيين وحلفائهم المصرفيين في المقام الأول.
يزيد الطين بلة أن الحكومات السابقة عزلت لبنان عن محيطه العربي بانحيازها الضمني إلى جانب المحور الإيراني ما يجعل من تعليق الآمال على مساعدات أو ودائع عربية أضغاث أحلام رغم ترويج بعض الأوساط أوهاما عن إمكان تقديم دولة خليجية معينة بضعة مليارات دولار لتخفيف الأزمة الخانقة التي يعيشها الاقتصاد وتلقي بوطأتها على المجموعة الحاكمة.
اللافت للانتباه أن الوزراء الجدد سارعوا إلى خفض سقف توقعات اللبنانيين وأعلنوا أن العملة الوطنية لن تعود إلى سعرها السابق مقابل الدولار وأنه ما من حلول لمشكلة الكهرباء وهو القطاع الذي انقلب دجاجة تبيض ذهبا لكل الجماعة الحاكمة التي تتقاسم عائدات استيراد المحروقات الضرورية لتوليد الطاقة وعقود الصيانة وإيجارات بواخر المولدات الراسية قرب الشاطئ والتوظيف المفرط وعشرات من أبواب الهدر والسطو على المال العام حتى أصبح قطاع الكهرباء مرضا عضالا يستنزف الخزينة اللبنانية من دون جدوى.
ما تقدم أجزاء من صورة الأمر الواقع الراهن في لبنان التي لا يبدو أن في مستطاع الحكومة مقاربتها، هذا إذا نجحت في الحصول على ثقة المجلس النيابي المنقسم على نفسه وفق خطوط الانقسام الطائفي والذي يتعهد المنتفضون بالحيلولة دون تمكينه من الالتئام لمنح الحكومة ثقة نواب فقدوا شرعيتهم التمثيلية. بذلك تكون الحكومة التي استغرق أطراف محور الممانعة أكثر من شهرين لتأليفها، غير واقعية بمعنى انفصالها عن حقائق الحاضر اللبناني.



الحوثيون يواجهون مخاوفهم من مصير الأسد بالقمع والتحشيد

طلاب في جامعة البيضاء أجبرتهم الجماعة الحوثية على المشاركة في فعاليات تعبوية (إعلام حوثي)
طلاب في جامعة البيضاء أجبرتهم الجماعة الحوثية على المشاركة في فعاليات تعبوية (إعلام حوثي)
TT

الحوثيون يواجهون مخاوفهم من مصير الأسد بالقمع والتحشيد

طلاب في جامعة البيضاء أجبرتهم الجماعة الحوثية على المشاركة في فعاليات تعبوية (إعلام حوثي)
طلاب في جامعة البيضاء أجبرتهم الجماعة الحوثية على المشاركة في فعاليات تعبوية (إعلام حوثي)

ضمن مخاوف الجماعة الحوثية من ارتدادات تطورات الأوضاع في سوريا على قوتها وتراجع نفوذ محور إيران في منطقة الشرق الأوسط؛ صعّدت الجماعة من ممارساتها بغرض تطييف المجتمع واستقطاب أتباع جدد ومنع اليمنيين من الاحتفال بسقوط نظام بشار الأسد.

واستهدفت الجماعة، حديثاً، موظفي مؤسسات عمومية وأخرى خاصة وأولياء أمور الطلاب بالأنشطة والفعاليات ضمن حملات التعبئة التي تنفذها لاستقطاب أتباع جدد، واختبار ولاء منتسبي مختلف القطاعات الخاضعة لها، كما أجبرت أعياناً قبليين على الالتزام برفد جبهاتها بالمقاتلين، ولجأت إلى تصعيد عسكري في محافظة تعز.

وكانت قوات الحكومة اليمنية أكدت، الخميس، إحباطها ثلاث محاولات تسلل لمقاتلي الجماعة الحوثية في جبهات محافظة تعز (جنوب غربي)، قتل خلالها اثنان من مسلحي الجماعة، وتزامنت مع قصف مواقع للجيش ومناطق سكنية بالطيران المسير، ورد الجيش على تلك الهجمات باستهداف مواقع مدفعية الجماعة في مختلف الجبهات، وفق ما نقله الإعلام الرسمي.

الجيش اليمني في تعز يتصدى لأعمال تصعيد حوثية متكررة خلال الأسابيع الماضية (الجيش اليمني)

وخلال الأيام الماضية اختطفت الجماعة الحوثية في عدد من المحافظات الخاضعة لسيطرتها ناشطين وشباناً على خلفية احتفالهم بسقوط نظام الأسد في سوريا، وبلغ عدد المختطفين في صنعاء 17 شخصاً، قالت شبكة حقوقية يمنية إنهم اقتيدوا إلى سجون سرية، في حين تم اختطاف آخرين في محافظتي إب وتعز للأسباب نفسها.

وأدانت الشبكة اليمنية للحقوق والحريات حملة الاختطافات التي رصدتها في العاصمة المختطفة صنعاء، مشيرة إلى أنها تعكس قلق الجماعة الحوثية من انعكاسات الوضع في سوريا على سيطرتها في صنعاء، وخوفها من اندلاع انتفاضة شعبية مماثلة تنهي وجودها، ما اضطرها إلى تكثيف انتشار عناصرها الأمنية والعسكرية في شوارع وأحياء المدينة خلال الأيام الماضية.

وطالبت الشبكة في بيان لها المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية بإدانة هذه الممارسات بشكل واضح، بوصفها خطوة أساسية نحو محاسبة مرتكبيها، والضغط على الجماعة الحوثية للإفراج عن جميع المختطفين والمخفيين قسراً في معتقلاتها، والتحرك الفوري لتصنيفها منظمة إرهابية بسبب تهديدها للأمن والسلم الإقليميين والدوليين.

تطييف القطاع الطبي

في محافظة تعز، كشفت مصادر محلية لـ«الشرق الأوسط» عن أن الجماعة الحوثية اختطفت عدداً من الشبان في منطقة الحوبان على خلفية إبداء آرائهم بسقوط نظام الأسد، ولم يعرف عدد من جرى اختطافهم.

تكدس في نقطة تفتيش حوثية في تعز حيث اختطفت الجماعة ناشطين بتهمة الاحتفال بسقوط الأسد (إكس)

وأوقفت الجماعة، بحسب المصادر، عدداً كبيراً من الشبان والناشطين القادمين من مناطق سيطرة الحكومة اليمنية، وأخضعتهم للاستجواب وتفتيش متعلقاتهم الشخصية وجوالاتهم بحثاً عمّا يدل على احتفالهم بتطورات الأحداث في سوريا، أو ربط ما يجري هناك بالوضع في اليمن.

وشهدت محافظة إب (193 كيلومتراً جنوب صنعاء) اختطاف عدد من السكان للأسباب نفسها في عدد من المديريات، مترافقاً مع إجراءات أمنية مشددة في مركز المحافظة ومدنها الأخرى، وتكثيف أعمال التحري في الطرقات ونقاط التفتيش.

إلى ذلك، أجبرت الجماعة عاملين في القطاع الطبي، بشقيه العام والخاص، على حضور فعاليات تعبوية تتضمن محاضرات واستماع لخطابات زعيمها عبد الملك الحوثي، وشروحات لملازم المؤسس حسين الحوثي، وأتبعت ذلك بإجبارهم على المشاركة في تدريبات عسكرية على استخدام مختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والقنابل اليدوية وزراعة الألغام والتعامل مع المتفجرات.

وذكرت مصادر طبية في صنعاء أن هذه الإجراءات استهدفت العاملين في المستشفيات الخاصعة لسيطرة الجماعة بشكل مباشر، سواء العمومية منها، أو المستشفيات الخاصة التي استولت عليها الجماعة بواسطة ما يعرف بالحارس القضائي المكلف بالاستحواذ على أموال وممتلكات معارضيها ومناهضي نفوذها من الأحزاب والأفراد.

زيارات إجبارية للموظفين العموميين إلى معارض صور قتلى الجماعة الحوثية ومقابرهم (إعلام حوثي)

وتتزامن هذه الأنشطة مع أنشطة أخرى شبيهة تستهدف منتسبي الجامعات الخاصة من المدرسين والأكاديميين والموظفين، يضاف إليها إجبارهم على زيارة مقابر قتلى الجماعة في الحرب، وأضرحة عدد من قادتها، بما فيها ضريح حسين الحوثي في محافظة صعدة (233 كيلومتراً شمال صنعاء)، وفق ما كانت أوردته «الشرق الأوسط» في وقت سابق.

وكانت الجماعة أخضعت أكثر من 250 من العاملين في الهيئة العليا للأدوية خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، وأخضعت قبلهم مدرسي وأكاديميي جامعة صنعاء (أغلبهم تجاوزوا الستين من العمر) في مايو (أيار) الماضي، لتدريبات عسكرية مكثفة، ضمن ما تعلن الجماعة أنه استعداد لمواجهة الغرب وإسرائيل.

استهداف أولياء الأمور

في ضوء المخاوف الحوثية، ألزمت الجماعة المدعومة من إيران أعياناً قبليين في محافظة الضالع (243 كيلومتراً جنوب صنعاء) بتوقيع اتفاقية لجمع الأموال وحشد المقاتلين إلى الجبهات.

موظفون في القطاع الطبي يخضعون لدورات قتالية إجبارية في صنعاء (إعلام حوثي)

وبينما أعلنت الجماعة ما وصفته بالنفير العام في المناطق الخاضعة لسيطرتها من المحافظة، برعاية أسماء «السلطة المحلية» و«جهاز التعبئة العامة» و«مكتب هيئة شؤون القبائل» التابعة لها، أبدت أوساط اجتماعية استياءها من إجبار الأعيان والمشايخ في تلك المناطق على التوقيع على وثيقة لإلزام السكان بدفع إتاوات مالية لصالح المجهود الحربي وتجنيد أبنائهم للقتال خلال الأشهر المقبلة.

في السياق نفسه، أقدمت الجماعة الانقلابية على خصم 10 درجات من طلاب المرحلة الأساسية في عدد من مدارس صنعاء، بحة عدم حضور أولياء الأمور محاضرات زعيمها المسجلة داخل المدارس.

ونقلت المصادر عن عدد من الطلاب وأولياء أمورهم أن المشرفين الحوثيين على تلك المدارس هددوا الطلاب بعواقب مضاعفة في حال استمرار تغيب آبائهم عن حضور تلك المحاضرات، ومن ذلك طردهم من المدارس أو إسقاطهم في عدد من المواد الدراسية.

وأوضح مصدر تربوي في صنعاء لـ«الشرق الأوسط» أن تعميماً صدر من قيادات عليا في الجماعة إلى القادة الحوثيين المشرفين على قطاع التربية والتعليم باتباع جميع الوسائل للتعبئة العامة في أوساط أولياء الأمور.

مقاتلون حوثيون جدد جرى تدريبهم وإعدادهم أخيراً بمزاعم مناصرة قطاع غزة (إعلام حوثي)

ونبه المصدر إلى أن طلب أولياء الأمور للحضور إلى المدارس بشكل أسبوعي للاستماع إلى محاضرات مسجلة لزعيم الجماعة هو أول إجراء لتنفيذ هذه التعبئة، متوقعاً إجراءات أخرى قد تصل إلى إلزامهم بحضور فعاليات تعبوية أخرى تستمر لأيام، وزيارة المقابر والأضرحة والمشاركة في تدريبات قتالية.

وبحسب المصدر؛ فإن الجماعة لا تقبل أي أعذار لتغيب أولياء الأمور، كالسفر أو الانشغال بالعمل، بل إنها تأمر كل طالب يتحجج بعدم قدرة والده على حضور المحاضرات بإقناع أي فرد آخر في العائلة بالحضور نيابة عن ولي الأمر المتغيب.