رغم أن «اللّيبراليّة» كمفهوم سياسي لعبت منذ النّصف الأوّل للقرن التاسع عشر أدواراً مؤثرة في تشكيل العالم كما انتهى إليه اليوم، فإنّه ليس هناك اتفاق عام على تعريف محدد لمصطلح «الليبراليّة» بين المؤرخين والمنظّرين الاقتصاديين بالنّظر إلى التحولات والتقلبات التي مرّت بها عبر العقود، كما في تعدد مدارسها، وتنوّع حاملي لوائها. ولذلك يكتسب النصّ الجديد للمؤرخ أليكسندر زيفين حول تاريخ مجلّة «الإيكونوميست» البريطانيّة - المستمرّة بالصدور منذ 1843 دون توقف - أهميّة خاصّة كمحاولة طموحة في إطارها، متفردة وغير مسبوقة لتقديم قراءة تاريخيّة شاملة للفكر اللّيبرالي سياسيا واقتصاديا من خلال استعراض مواقف المجلّة التي طالما اعتبرت ناطقة باسم النُخبة الرأسماليّة الغربيّة بجناحها الأنجلو - أميركي، كما سيرة رؤساء تحريرها منذ أيّام مؤسسها الأوّل الرأسمالي الاسكوتلندي الأصل جيمس ويلسون (1805 - 1860)، وانتهاء برئيسة تحريرها الحاليّة وأوّل امرأة تتولى ذلك المنصب زانيي مينتون بيدّوز (ولدت 1967).
وجهة نظر زيفين في «اللّيبراليّة المتفلّتة: العالم وفق الإيكونوميست» تنطلق من قناعته بعد غوصه المعمّق في أرشيف المجلّة منذ صدورها بأن الأسبوعيّة اللندنيّة لم تكن مجرّد مراقب لشؤون العالم السياسيّة والاقتصادية، بل أقرب إلى لاعب أساسي في تشكيل عالمنا المعاصر كما انتهى إليه اليوم عبر التأثير البالغ الذي تركته على صنّاع القرار، وكبار الرأسماليين، والقادة السياسيين، منذ حملتها ضدّ قوانين الضرائب على استيراد الذّرة (فرضت عام 1837 لحماية المزارع البريطاني المحلّي) - وكانت عملياً وراء إسقاطها بعد ثلاث سنوات من تأسيس المجلّة - مروراً بالمحطات الرئيسية في تاريخ الإمبراطوريّة البريطانيّة وحروبها الإمبرياليّة عبر الحقب، ومن ثمّ انتقال المركز الرأسمالي الغربي بعد الحرب العالميّة الثانية إلى الجانب الآخر من الأطلسي - وصعود الإمبراطوريّة الأميركيّة وهيمنتها المعولمة.
تتعرض «الإيكونوميست» لانتقادات حادّة لمواقفها الآيديولوجيّة المشينة في تأييد الحروب والغزو الإمبريالي والاحتلالات، ولتسويقها المكثّف لسياسات التجويع ونموذج «الصدمة الاقتصادية»، وقمع التحركات العماليّة والوطنيّة وتطرّفات النيو - ليبرالية المعاصرة التي تسببت في موت مبكّر لملايين البشر حول العالم وعذابات وآلام لا يمكن حصرها، كما انحيازها الصّريح لقادة سياسيين يعتبرهم كثيرون بمثابة مجرمي حرب وانقلابيين دمويين، وترويجها للبروباغاندا التي تنتجها مطابخ الاستخبارات البريطانيّة والأميركيّة، وسكوتها عن جرائم الإمبراطوريّات والعبوديّة والمذابح، وهي كلّها مسائل مسجلّة على صفحات المجلّة ولا يمكن إنكارها. بينما ينتقدها آخرون لجوانب تقنيّة حول صياغة مادتها، إذ من المعروف أن طاقم تحريرها يمثل لوناً واحداً مكثفاً - بالتحديد من خريجي جامعتي كمبريدج وأكسفورد المسرفتين في نخبويتهما مع غلبة خاصة لخريجي كليّة ماجدلين بالأخيرة - كما تلك اللّهجة المتعالية السائدة للغة مقالات المجلّة - كانت نصيحة أحد رؤساء تحريرها للكتاب الجدد أن ينظروا للعالم من مقاعد الآلهة -، ونزعتها الطبقيّة التي لا تخفى في سعيها لاستقطاب الأثرياء سواء من خلال وجهات النظر المطروحة أو حتى نوعيّة الإعلانات التي تحملها.
ومع ذلك كلّه فإن «الإيكونوميست» فرضت وجودها كمرجعيّة بما يخص تقنيّة العمل الصحافي، وأصبحت مساحة لحوار داخلي بين البرجوازيين والمؤثرين، وسجلاً للفكر الاقتصادي الغربيّ، وضرورة لا بدّ منها لمتابعة أحداث العالم. وحتى كارل ماركس الذي انتقدها بشدّة (العام 1852) بوصفها ذراعاً «لأرستقراطيّة الرأسماليين»، كان قارئاً دائماً لها حتى غيابه، كما كان بينيتو موسيلليني - الزعيم الفاشي الإيطالي، وأنجيلا ميركل - الزعيمة الألمانيّة الغربيّة التي تعد من أخلص متابعيها ناهيك بالطبع عن النخبة السياسيّة البريطانيّة، ودهاقنة البنوك والمؤسسات الماليّة في السيتي (حي رأس المال والأعمال بلندن)، ونظرائهم في وول ستريت بالولايات المتحدة. ويمثّل أسلوبها اللغوي مدرسة رفيعة يراها كثيرون صورة اللغة الإنجليزيّة في تجليها وتطورها المستمر عبر المراحل، كما أنها بفضل غياب تنوّع طاقم كتابها تبدو رغم تغطيتها الشاملة لأحداث وشؤون العالم بأجمعه وكأنها تنطق عن قلب رجل واحد، لا سيما أن معظم مقالاتها لا توقّع بأسماء الأشخاص. وهي فوق ذلك كله تمتلك شبكة من 21 مكتباً حول العالم تغذيها بالمواد القريبة من الحدث في الوقت الذي تميل الصحافة المكتوبة هذه الأيّام لتقليص تكاليفها عبر العمل مع مراسلين أفراداً بالقطعة، وتمتلك وجوداً مثيراً للاهتمام على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وفريق إنتاج فني يقدّم أثرى كميّة من المعلومات في كل صفحة مقارنة بكل الأسبوعيّات وصحف الصف الأوّل. «الإيكونوميست» بقيت رابحة دائماً كمشروع تجاري، وهي من العناوين القليلة التي زاد انتشار نسختها الورقيّة بشكل مطرد حتى بعد ظهور الإنترنت. ويبدو أن قدرتها على قراءة العالم بواقعيّة باردة منحتها القدرة على تقييم فقدان بريطانيا لمكانتها رويداً رويداً لمصلحة الشقيق الأشقر عبر الأطلسي، فانتقلت بتركيزها إلى الولايات المتحدّة، حيث تمتلك هناك أكبر قاعدة من المشتركين (أكثر من مليون نسخة أسبوعياً) مقارنة بالـ750 ألف نسخة التي تبيعها في بلدها الأم بريطانيا وبقيّة العالم.
يسجلّ زيفين أن «الإيكونوميست» كانت سباقة في كسر الحواجز بين عوالم السياسية والأموال والأعمال والصحافة، وتنقل محرروها وكتابها من العمل الصحافي لإدارة الأعمال وتقديم الاستشارات وشغلوا مناصب ليس أقلها نائب بمحافظ بنك إنجلترا المركزي، ورئيس وزراء المملكة المتحدة، وأسس أول رئيس لتحريرها بنك ستاندار تشارترد - الذي كان بنك تجارة الأفيون البريطانية بآسيا -كما انتخب عدد منهم أعضاء في البرلمان البريطانيّ. وقد كان الجاسوس البريطاني الأشهر كيم فيلبي الذي عمل لمصلحة الاتحاد السوفياتي مراسلاً للمجلّة في الشرق الأوسط، وكتب من هناك تقارير حادة انتقد فيها الشيوعيّة كنوع من التمويه على مهمته مع مشغليه السوفيات.
ويلفت زيفين في كتابه إلى أن «الإيكونوميست» طالما بقيت مخلصة لمواقفها الرأسماليّة الحادة والمعادية بلا وجل للاشتراكية والفقراء والمهمشين لم تقترب إلى الخروج عن هذه المبادئ إلا حول مئويتها (1943)، عندما أيّدت سياسات حزب العمّال ودعمت تدخّل الدّولة لضمان حقوق دنيا للطبقة العاملة، قبل أن تعود مجدداً إلى مواقفها المتطرفة يميناً لا سيّما في عهد نيو - ليبراليّة ثاتشر - ريغان، وتأييدها البالغ الوضوح للعولمة. ويفسّر مؤرخون يساريّون ذلك الموقف الاستثنائي للمجلّة في تلك الفترة بانحيازها التام للإمبراطوريّة والنخبة المهيمنة على الدّولة البريطانيّة التي كان يمكن أن تسقط في لحظة الضعف الاستراتيجي تلك بيد الطبقة العاملة بسبب الغضب الذي كان يعتمل داخل قلوب ملايين البريطانيين الذين كانوا تحت السلاح خلال الحرب الكبرى، ويعتقدون بأحقيتهم هم الذين دفعوا الأرواح والدماء والأعمار بالعيش الكريم في دولة لهم تحترم إنسانيتهم وتمنحهم حقوقاً في التصويت والطبابة والتعليم والمساعدات الاجتماعية، ولذا فقد سلّمت السلطة - على نحو ما - إلى حكومة عماليّة تتولى توجيه ذلك الغضب نحو مرافئ آمنة مع ديمومة هيمنة ذات النّخبة التي أشعلت الحرب.
نصّ زيفين - أستاذ التاريخ في جامعة سيتي بنيويورك - عن «الإيكونوميست» التي ليس لها مثيل، متعدد الأوجه والوعود. فهو أكثر من مجرّد تأريخ للمؤسسة القائمة على إنتاج المجلّة، أو سرد لسيرة كبار محرريها وكتابها، أو رصد لمواقفها من تقلبات الأيّام وحروب الإمبراطوريّات، أو أدوارها في تشكيل رؤية النخبة الأنجلو - أميركيّة حول شكل العالم، أو نقداً لانحيازاتها السافرة ومواقفها المندية لجبين الصحافة، أو رصداً لتحولات الفكر الليبرالي خلال قرنين، بل هو مزيج رائق لكلّ ذلك من يد باحث مدقق خبير بدهاليز وأرشيفات المجلّة عارف بسيرتها ربما أكثر من كتابها الحاليين - كانت «الإيكونوميست» موضوع رسالته للدكتوراه - ورغم البرود الإنجليزي المعهود في مراجعتها للكتاب واعتراضها على الانتقادات الشديدة التي تضمنها، فإن «الإيكونيميست» أقرّت بسعادتها بأن زيفين وضعها في تلك المكانة - صانعة للتاريخ - وتعامل معها بالجديّة، التي ترى بالطبع أنها امتيازها الذي تستحق.
زيفين يقرأ تاريخ «اللّيبراليّة» كما كتبته «الإيكونوميست» البريطانية
177 عاماً على أسبوعيّة النّخبة الغربيّة
زيفين يقرأ تاريخ «اللّيبراليّة» كما كتبته «الإيكونوميست» البريطانية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة