غواية الفن في مواجهة السلطة

خرافة الصورة التي رسمها الغرب المستعمر للشرق واتخذها قناعاً لاحتلاله

غواية الفن في مواجهة السلطة
TT

غواية الفن في مواجهة السلطة

غواية الفن في مواجهة السلطة

تضع الباحثة شذى يحيى الرقص الشرقي بين مطرقة الإمبريالية وسندان الفن في كتابها المهم «الإمبريالية والهِشك بِشك... تاريخ الرقص الشرقي»، الصادر حديثاً عن دار «ابن رشد» بالقاهرة. وما بين المطرقة والسندان تنداح غواية الصورة التي رسمها الغرب المستعمر للشرق، واتخذها قناعاً لاحتلاله لسنوات وعقود طويلة، وهي الصورة نفسها التي انطبعت في دراسات وأدبيات المستشرقين، وروج لها الرحالة الغربيون في كتاباتهم ومذكراتهم، والتي لم تبرح النظرة الاستعمارية.
لكن هل يصلح الرقص إطاراً معرفياً لفهم العلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب؟ وهل يشكل مدخلاً للنكش في المهمش والمسكوت عنه في تاريخ هذه الصورة التي طغى عليها السياسي، بصراعاته وتشابكاته المعقدة تاريخياً وجغرافياً، في تلك الحقب الماضية، حتى توارت في الخلفية كمفردة عادية من مفردات التراث الشعبي، وطقوس وأعراف البيئة والحياة الاجتماعية في مجتمعات تهيمن فيها الذكورة على مقدرات الحياة، في مقابل تهميش صورة المرأة، ناهيك من صورة المرأة الراقصة المضطربة المشوشة في الذاكرة والوجدان العام، التي يتهافت عليها الجمهور، لكن حين ينفض المسرح يصفها بأنها مخلوق دوني؟
هذه الصورة والأسئلة الملتبسة في ظلالها تثبتها الكاتبة في مقدمتها للكتاب، ثم تقلب أوجهها على مدار 250 صفحة، وعبر ثمانية فصول، في محاول لاستجلاء وكسر نمطيتها التي ساهمت نظرة الغرب في بلورتها، ووضعها داخل إطار محدد، كعنوان على تناقض وجمود العقلية التي تحكم الشرق: «لم يفكر أحد يوماً أن هذه المهنة كانت -ولفترة طويلة- بمثابة الجسر الثقافي للتبادل المعرفي بين الشرق والغرب، وأن الراقصات كنّ -يوماً ما- هن التمثيل الوحيد للمرأة الشرقية في الذهن الغربي، لأنهن النساء الوحيدات اللائي كان مسموحاً للغربي برؤيتهن في بدايات القرن التاسع عشر، وأن الأثر الذي أحدثه هذا التمثيل ما زال مؤثراً باقياً في الثقافة والوجدان الشعبي حتى يومنا هذا».
والرقص أحد الطقوس الأساسية التي رافقت الإنسان منذ مولده، وجسدته معظم الحضارات الإنسانية على نقوش المعابد، بل ارتبطت رمزيته في الحضارة المصرية القديمة بالخصوبة. كما كان الرقص -ولا يزال- أحد عناصر الفرح والبهجة، خاصة في المناسبات والأعياد الدينية والاجتماعية. ويعد في نظر كثير من الباحثين معجزة الجسد البشري. توضح الباحثة ذلك وترصده، لكنها تذهب أيضاً إلى ما هو أبعد وراء هذه الصورة، فتتناثر على سطح الكتاب شذرات من كتابات لباحثين أجانب وعرب وأدباء وعلماء فلكلور وأنثروبولوجيا ونفس وآثار تناولت الموضوع نفسه، حول طبيعة الرقص الشرقي وبدايته ونشأته.
ترى الباحثة أن التعريف الأشمل من بين هذه الشذرات صكّه الباحثان الأميركيان أنتوني شاي وباربرا سيلر يونج، وهو أن الرقص الشرقي «عبارة عن منظومة من الرقصات يعود منشأها في الأساس لشمال أفريقيا والشرق الأوسط، ولها جذور وأصول في وسط آسيا، وتم تهجينها وتطويرها في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم، وأصبحت جزءاً من الأداءات الراقصة الخاصة والعامة في القرى والمدن، والحواضر والمجتمعات المدنية، والملاهي والمسارح، والإنترنت على مستوى العالم».
ورغم ذلك لم يسلم تاريخ الرقص الشرقي من النفاق والسياسي، وهو إحدى العقد والفواصل التي صنعتها السياسات الاستعمارية والتحولات المجتمعية الهجين المضطربة التي فرضت هذه النمط كحل للتعايش والتكيف مع سلطات جائرة قمعية. وهو ما توضحه الباحثة في الفصل الثاني من الكتاب «من الغوازي والعوالم إلى الرقص الشرقي»، مشيرة إلى أنه في خضم الحرب العالمية الثانية عام 1941، أطلقت الراقصة المصرية شوشو البارودي على الرقص التي تؤديه «الرقص من أجل الحلفاء ونجاح الديمقراطية»، وهو شعار سياسي اتخذته قناعاً ترضي من خلاله عساكر الجيش البريطاني في أثناء إجازاتهم للترفيه، بعيداً عن جبهات القتال. والمعروف أن مصر الخاضعة للاحتلال البريطاني آنذاك قد انضمت إلى الحلفاء في تلك الحرب.
ويطفو على السطح مصطلح «ما بعد الكولونيالية»، مشكلاً بتعريفاته الملتبسة في الثقافة العربية وفي حقول المعرفة نقطة وصل محورية في القطيعة المعرفية لما قبل الاستعمار وما بعده، يوازيها معرفياً الانتقال من طور الحداثة إلى ما بعدها، ومن ثم انتقال الرقص كأداة للهو والترفيه من فضاء الشوارع والحارات والحيز الضيق، حيث عالم الغوازي والعوالم، إلى فضاء المسرح والفن، ليتحول الجسد إلى سلطة ومركز ثقل وتوازن بين الواقع والخيال، بين الحرية وطرائق تشكلها، ولو بدبيب الأقدام والأذرع، ومعانقة الفراغ.
ترصد شذى يحيى ملامح وأبعاد هذا الانتقال، بكل تداعياته ومحمولاته السياسية والفكرية والثقافية، ومدى انعكاسه على ذاكرة الغرب، وحزمة الصور الاستشراقية النمطية المعتادة، ومساراتها التي تنوعت أيضاً بتنوع الأقنعة ومسارات الأمكنة والأزمنة، بحثاً عن أسلس الطرق لجلب المصالح والمنافع للغرب، خاصة في الدول التي غادرها بصفته مستعمراً، لكنها لم تنفك عن الدوران في فلكه.
ويحضر إدوارد سعيد، وكتابه المؤسس «الاستشراق»، وأيضاً تحضر ظلال لكتابه «الثقافة والإمبريالية»، لفهم العلاقة بين الغرب والشرق، في إطار جدل المعرفة والسلطة، وكيف تحول الاستشراق إلى دوائر نفوذ لخدمة السياسات الاستعمارية، وتصوير الدول الخاضعة لسطوتها على أنها مجرد كائنات كاريكاتورية متخلفة همجية مثيرة للرعب والعنف.
كما ترصد ما كتبه إدوارد سعيد نفسه عن الراقصة تحية كاريوكا، حيث عدها أيقونة ثقافية ورمزاً من رموز اليسار المصري، وهي كتابات التي لا تخلو من المبالغة، بينما يبرز الرقص كساحة متعة مراوغة لفهم الفجوة بين الغرب والشرق... «الرقص الشرقي هو الحالة التي ربما تكون الوحيدة التي حاكي فيها الشرق الرؤية التي اخترعها المستشرق. فالرقص الشرقي هو واحد من أهم نجاحات الاستشراق التي يسميها إدوارد سعيد إنقاذ حادثة من النسيان، وهو ما يعادل في ذهن المستشرق تحول الشرق إلى مسرح للصور التي يرى الغرب أنها تمثيل حقيقي للشرق». وهي الحالة نفسها -بحسب الكتاب- التي كتبها جيفروا سانت هيلير في كتاب «وصف مصر»، لافتاً إلى التناقض الصارخ مع عادات الأمم الأوروبية «حيث تؤكد المتع والملذات الغربية للشرقيين مدى اتزان وعقلانية العادات الغربية».
وكما حصرت شذى يحيى جذور هذه النظرة في عنصرين تراثيين محددين، هما: كتاب الليالي (ألف ليلة وليلة) الذي تمت ترجمته إلى أوروبا في فترة مبكرة، و«الكتاب المقدس» الذي استقى منه الكاتب الفرنسي أوسكار وايلد رائعته المسرحية الأشهر «سالومي»، فإنها أيضاً تحدد أربعة عناصر ترى أنها ساهمت في تسويق صورة الرقص الشرقي في المعارض الغربية على أنه شيء غامض غريب ساحر غير معروف لأوروبا، ومن بين هذه العناصر «أن جسد المرأة الشرقية القادمة من المستعمرات يحمل إشارات أكثر إيروتيكية وجنسية للمشاهد الأوروبي والأميركي، فجسدها هو الأصلح للتعري، بل هو الأحق بأن يُعرى، كونها تنتمي لنساء الشرق الشهوانيات الفاسقات اللائي يُحجبن بالملابس والأسوار لضمان السيطرة على شهواتهن، وأنه طبقاً لموازين القوة، يحق للرجل الأبيض استثارة خياله، وجعل جسد المستعمر المقهور (على الأخص المرأة) محطاً لتصوراته الإباحية، كشكل من أشكال هيمنته».
ومن هنا، حولت هذه النظرة جسد الراقصة الشرقية إلى ما يشبه المستعمرة، وإلى أرض مستباحة لا يحق لأحد أن ينازع الرجل الأبيض المستعمر في الاستيلاء عليها، بل تحويلها إلى ملكية خاصة.
ولم يسلم عدد من الراقصات الشرقيات -كما يوضح الكتاب- من هذه النظرة، حتى بعد أن غادرن بلادهن، واستوطن مدناً أوروبية وأميركية، حيث ظلت هذه النظرة الدونية المتغطرسة تحاصرهن، وتطفئ ما حققنه من توهج وشهرة، مثل الراقصة المصرية فريدة مظهر التي هاجرت إلى أميركا، وعاشت في مدينة شيكاغو، وتزوجت من يوناني صاحب مطعم، حيث استغلتها شركة للدعاية ضمن أخريات للترويج الرخيص تحت اسم «مصر الصغيرة».
ويحمل الكتاب مخزوناً ثقافياً ومعرفياً خصباً لافتاً، توسعه الباحثة بشكل حيوي من فصل إلى آخر، لنرى صورة الراقصة الشرقية من الداخل والخارج معاً، تارة بعيون السينما والفن التشكيلي الاستشراقي، الذي بلغ أوجه في الرسومات المصاحبة لكتاب «وصف مصر» الذي أعده العلماء الفرنسيون المصاحبون لحملة نابليون بونابرت، ولاحقاً في الصور الفوتوغرافية، وفي علاقة الرقص بالمسرح، وتطور زي الراقصة الشرقية من نسج اليد حتى وصل إلى عصر «الآرت نوفو»، وكيف حافظت على مظهرها في الإغراء وإثارة الشهوة، وأيضاً علاقة الرقص بالأدب، عبر نموذجه الأشهر متمثلاً في مسرحية «سالومي» لأوسكار وايلد، التي استمدها من عدة أسطر في إنجيل القديس بطرس، وصارت علامة على الراقصة الشرقية النزقة، والهوس بسحر الشرق وغرائبيته.



لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».