«الشرق الأوسط» في موسم الجوائز (6): واكين فينكس ورينيه زيلويغر قادا جوائز نقابة الممثلين الأميركيين

توني شلهوب في عداد الفائزين تلفزيونياً

ممثلو فيلم «طفيلي» على المنصة (إ.ف.ب)
ممثلو فيلم «طفيلي» على المنصة (إ.ف.ب)
TT

«الشرق الأوسط» في موسم الجوائز (6): واكين فينكس ورينيه زيلويغر قادا جوائز نقابة الممثلين الأميركيين

ممثلو فيلم «طفيلي» على المنصة (إ.ف.ب)
ممثلو فيلم «طفيلي» على المنصة (إ.ف.ب)

بإعلان نتائج «نقابة الممثلين الأميركيين» (Screen Actors Guild)، المعروفة بـ«SAG»، أول من أمس الأحد، ترتفع المنافسة حدّة بين المرشحين لما تبقى من جوائز الموسم، في المقدّمة «البافتا» البريطانية و«الأوسكار» الأميركي.
وبفوز واكين فينكس ورينيه زيلويغر وبراد بيت، كل بجائزة النقابة عن أدوارهم في «جوكر» و«جودي» و«ذات مرة في هوليوود» (على التوالي)، يتقدم هؤلاء بسعي حثيث صوب ضمّ «أوسكار» 2020 إلى مقتنياتهم من الجوائز. صحيح أنّ المنافسة ما زالت أمامنا، وأن هناك احتمالات لفوز مفاجئ لأحد الممثلين الذين مرّت أسماؤهم في ترشيح النقابة، إلا أنّ حقيقة أن أعضاء النقابة هم النسبة الغالبة بين المقترعين في الأكاديمية التي تمنح «الأوسكار»، يشي بأنّ كل من زلفيغر وفينكس وبيت باتوا على بعد خطوات من الفوز كل بـ«أوسكاره»، أو - على الأقل - الأعلى ترشيحاً.
تنافس تلفزيوني
«طفيلي» ذلك الفيلم الكوري المتسلل دوماً إلى الترشيحات، تسبب في منح ممثليه جائزة «الأداء الجمعي البارز»، وهي جائزة رئيسية تمنح، كما يشير عنوانها، إلى مجموعة الممثلين الذين توزعت الأدوار الأولى عليهم بالتساوي.
هذه الجائزة مرّت فوق رؤوس ممثلين آخرين اشتركوا فيما يؤمن شروطها الأساسية على نحو أو آخر، فـ«طفيلي» لم يكن الوحيد في هذا السباق، بل شاركه فيه كل من «بومبشل»، الذي قاد بطولته كل من نيكول كيدمان وتشارليز ثيرون ومارغوت روبي، ومشاركة جون ليثغو ومالكولم مكدووَل وآخرين.
كذلك كان هناك «الآيرلندي» مع مجموعة ممثليه التي امتدت لتشمل روبرت دي نيرو وهارفي كايتل وآل باتشينو وأنا باكوين وجو بيشي وبوبي كانافال، على الرغم من أنّ أدوار هؤلاء لم تكن متساوية.
«ذات مرّة في الغرب» (مع براد بت وآل باتشينو وليونادو دِ كابريو ومارغوت روبي وآخرين) كان الفيلم الرابع في هذه المنافسة يليه «جوجو رابت» مع أدوار شملت سكارلت جوهانسن وسام روكوَل من بين آخرين.
الجائزة الموازية تلفزيونياً تعبر أكثر عن الشرط التي تضمّه، فالفائزون بها هم بالفعل الأكثر ظهوراً على نحو متساوٍ من المساحات الدرامية أو الكوميدية.
تبعاً لذلك فاز مجموع ممثلي وممثلات مسلسل «مسز مايسل البديعة» بجائزة «الأداء الجماعي البارز لأفضل مسلسل كوميدي»، من بينهم كارولين آرون وتوني شلهوب ورايتشل بروسناهان.
الجانب الدرامي من هذه الجائزة التلفزيونية، استولى عليها مسلسل «التاج» الذي يضم فيمن يضم هيلين بونهام كارتر وأوليفيا كولمان وتشارلز دانس.
تلفزيونياً أيضاً، فازت جنيفر أنيستون بجائزة النقابة عن دورها في المسلسل الدرامي «استعراض الصباح» عنوة عن مرشحات صلبات، من بينهن هيلينا بونام كارتر، وأوليفيا كولمن (كل عن دورها في «التاج»)، وجودي كومر عن «قتل إيف»، وإليزابث موس عن «حكاية الخادمة».
كوميدياً، في الإطار نفسه، حملت فوبي ووالر - بريدج الجائزة الكبرى عن دورها في مسلسل «فليباغ» (Fleebag)، واستنشقت باقي الممثلات المنافسات الغبار وهن كستينا أبلغايت عن «ميت بالنسبة لي»، وأليكس بورستين عن دورها في «مسز مايسل البديعة»، وراتشل بروسناهان عن دورها في المسلسل ذاته، ثم كاثرين أوكارا عن «شيتس كريك».
على صعيد الرجال، وفي نطاق المسلسل الدرامي، حمل بيتر دينكلايج الجائزة عن دوره المستحق في «لعبة العروش»، مخلفاً وراء سترلينغ براون (هذا نحن)، وستيف كارل، وبيلي كرودب (كلاهما عن «استعراض الصباح»)، وديفيد هاربور («أشياء أكثر غرابة»).
في الجانب الكوميدي للممثلين الذكور، خرج توني شلهوب بجائزة أولى عن «مسز مايسل البديعة». في الخفية ألان أركِن عن «منهج كومينسكي»، ومايكل دوغلاس (عن «منهج كومينسكي» أيضاً)، بل هادر (باري)، ثم إندرو سكوت (فليباغ).
في عرف النقابة، يجب التفريق بين المسلسلات الطويلة التي تعرض على مدار أسابيع، وتلك القصيرة التي تعرض في بضعة ليالٍ فقط. على هذا الأساس مُنح سام روكوَل جائزة «الأداء المتميز لممثل في فيلم أو مسلسل تلفزيوني قصير».
المتنافسون لنيل الجائزة ذاتها كانوا ماهرشالا ألي (ترو دتكتف) ورسال كراو (الصوت الأعلى) وجارد هاريس (شرنوبل) وجارل جيروم (عندما يروننا).
المتنافسات في الجائزة ذاتها كن رميلي واتسون عن «شرنوبل»، وجووي كينغ عن «الفصل»، وتوني كولت عن «غير قابل للتصديق»، وباتريشا أركويت عن «أفصل» أيضاً، وميشيل ويليامز عن «فوسي - فردون»، وهي من نالت جائزة «الأداء المتميز لممثلة في فيلم أو مسلسل قصير».

الشخصية ذاتها
هذا ما يعود بنا إلى جوائز الممثلين السينمائية، حيث فوز مجموعة ممثلي الفيلم الكوري «طفيلي» في مكانه، وإن لا يشكل المفاجأة الكبيرة.
في الواقع، فإنّ المفاجآت في هذا الجانب من جوائز «نقابة الممثلين» محدودة. كل من المتنافسين على جوانب وأقسام الجوائز مشهود لهم بالمقدرة، ويستحقون بفضل من صوّت لهم من أعضاء النقابة التي تضمّهم، الترشيحات التي نالوها. الفوز ككل الحالات الأخرى، مسألة اقتراح وإحصاء أصوات لا يعلن عنها مطلقاً، وتبقى في الحاسوب المقفل أبد الدهر حتى لمعظم أعضاء النقابة (نحو 4000 ممثل وممثلة).
واكين فينكس سحب البساط من تحت أقدام منافسيه. هو الفائز بـ«الأداء الأكثر تميزاً في دور رجالي رئيس».
هذا حدث بفضل من فيلم «جوكر» الذي لعب بطولته وصاغ فيه الشخصية المخيفة، كما لم يسبقه عليها أحد من قبل، علماً بأن جاك نيكولسون أدى الدور سنة 1989 في «باتمان»، وهيث لدجر لعب الدور ذاته في «الفارس الداكن» (2008). قبلهما مثل سيزار روميرو الدور في مسلسل «باتمان» التلفزيوني في الستينات.
نيكولسون رُشح في العام التالي لجائزة أفضل ممثل مساند من قِبل «غولدن غلوبز» و«بافتا».
هيث لدجر كان أفضل حظاً إذ نال بالفعل جائزة «بافتا» كأفضل ممثل مساند عن دوره في «الفارس الداكن»، وقبلها بأيام فاز كذلك بـ«الغولدن غلوبز» كأفضل ممثل مساند عن الفيلم نفسه. أكثر من ذلك، فاز هيث لدجر، الذي توفي سنة 2008 بجائزة نقابة الممثلين عن هذا الدور ما يجعل فوز واكين فينكس عن «جوكر» ثاني جائزة تمنح لممثل لعب الشخصية ذاتها من قبل.
نافس واكين فينكس هذه المرّة ممثلون أشداء. لدينا كريستيان بايل عن «فورد ضد فيراري»، وليوناردو ديكابريو عن «ذات مرة في هوليوود»، وأدام درايفر عن «حكاية زواج»، وتارون إيغرتون عن «روكمان». وما هو جدير بالذكر هنا هو أن فينكس وإيغرتون فازا بـ«الغولدن غلوبز» قبل أسابيع قليلة. الأول في مجال أفضل تمثيل رجالي درامي أول، والثاني في نطاق أفضل تمثيل رجالي كوميدي أو موسيقي أول.
نسائياً، فازت رينيه زيلويغر عن دورها في «جودي»، وهي التي فازت كذلك بجائزة «غولدن غلوبز» كأفضل ممثلة أولى في فيلم كوميدي أو موسيقي. وهي بذلك تجاوزت مرشحات جيدات هن تشارليز ثيرون (عن «بومبشل»)، ولوبيتا نيونغو (نحن)، وسكارلت جوهانسن (حكاية زواج)، وسينثيا إريفو عن «هارييت».
لورا ديرن كانت كذلك فازت بـ«غولدن غلوبز» أفضل ممثلة مساندة عن دورها في «حكاية زواج»، وها هي تعيد الكرّة في جوائز «نقابة الممثلين».
منافساتها كن سكارلت جوهانسن (عن دورها المساند في «جوجو رابت»، وبذلك تكون خسرت مرتين في ليلة واحدة)، ونيكول كيدمان، ومارغوت روبي (كلاهما عن «بومبشل») وجنيفر لوبيز (عن «هسلرز»).
رجالياً، براد بت قاد بطولة الفائزين في سباق أفضل ممثل مساند، كما كان فعل قبل حين قريب عندما مُنح جائزة أفضل ممثل مساند في حفل «الغولدن غلوبز». جايمي فوكس (رحمة عادلة)، وتوم هانكس (خسر أكثر من مرّة مؤخراً عن «يوم جميل في الجوار»)، وآل باتشينو وجو بيشي (تلازما في أكثر من مناسبة عن «الآيرلندي» وخسراً معاً كذلك).
ما تقدّم يشي بأن جوائز «غولدن غلوبز» أشبه بمشعل يدوي في صالة معتمة يقود الداخلين إليها لمقاعدهم. نور يكشف عن الجوائز الكبيرة التي سيحصدونها فيما بعد. فالجميع ممن وردت أسماؤهم من الفائزين بجوائز النقابة وقفوا على منصة «غولدن غلوبز»، وتسلموا جوائزهم فرحين: براد بت، لورا ديرن، تارون إيغرتون، واكين فينكس، ورينيه زيلويغر. كلهم باستثناء أوكافينا عن «الوداع» التي لم ترشح لجوائز النقابة‪.‬
أهم ما تبقى من جوائز تكمن في «البافتا» البريطانية و«الأوسكار». ولدينا وقفات للمتوقع والمفترض والقابل للنقاش خلال ما تبقى من أيام فاصلة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)