أسئلة الشعر على هامش مهرجان الشارقة

هل يمكن أن نعده وإدارته ضمن المشروعات الخدمية؟ أو ما يُشبه المنتخبات الرياضية؟

أسئلة الشعر على هامش مهرجان الشارقة
TT

أسئلة الشعر على هامش مهرجان الشارقة

أسئلة الشعر على هامش مهرجان الشارقة

عدتُ قبل أيام من الشارقة مدعواً في مهرجانها للشعر العربي الدورة 18 بمشاركة أكثر من 30 شاعراً وشاعرة من العرب، وفيهم أيضاً شاعر من جمهورية مالي، يكتب الشعر الفصيح بأصفى ما يمكن أنْ يوصّف به الشعر الصافي، وهو الشاعر عبد المنعم حسن. بقينا أسبوعاً كاملاً، في كل ليلة أمسية شعرية، تُقام في قصر الثقافة لخمسة شعراء، ومن ثَمَّ نعود إلى الفندق؛ حيث ابتكرت إدارة المهرجان مكاناً أطلقت عليه اسم «المجلس» تُقيم فيه حفلاتٍ غنائية طربية، وتتخللها قراءاتٌ شعرية لعدد من الضيوف، والجمهور، ما يجعلنا مخمورين بالشعر لمدة أسبوع كامل، حيث يدور معنا أينما دارت حركتنا، فهو يحضر في مجالسنا الخاصة، ويحضر فوق موائد الطعام، ويحضر حين ندخن سجائرنا في باب الفندق، ويحضر في كل شيء.
والحقيقة إنَّ مثل مهرجانات كهذه تمنح، فضلاً عن اللقاءات مع الأحبة، ومتابعة ما استجد من مشروعات، فإنَّها تمنح فرصة للتأمل في جوهر الشعر نفسه، وهل يستحق الشعر أنْ تُخصص له الدول جزءاً من ميزانياتها للصرف عليه، حاله حال بناء المستشفيات، وتبليط الشوارع، وبناء البيوت؟ فهل الشعر حين تصرف عليه الدول سيأتي بنتيجة تخدم الناس؟ أو تضيف لهم شيئاً مهماً قد افتقدوه؟ في الشارقة التي كنَّا ضيوفها مثلما يوجد مستشفى لعلاج الناس، توجد هناك دائرة حكومية اسمها «بيت الشعر» يترأسها الشاعر محمد البريكي، وهذا البيت فرَّخ بيوتاً في عدد من العواصم العربية، كمراكش والقيروان والأقصر والخرطوم ومقديشو، تهتم كلها بالشأن الشعري فقط، ولها موظفون يديرون هذا الشأن.
فهل نعدُّ الشعر وإدارته ضمن المشروعات الخدمية؟ أو ما يُشبه المنتخبات الرياضية؟ والجدوى من الصرف عليها لإمتاع الناس، ومن ثم تكون مشروعات تجارية تدر الأموال، ولكن هل نجد شعراء محترفين تشتريهم الدول، وتُغدق عليهم كاللاعب المحترف؟ لا أظن أنَّ هذه المقاربة ناجحة.
ولكن بقي هذا السؤال (جدوى الشعر) والاهتمام به يدور في ذهني، وأنا أراقب حركة الشعراء القادمين من معظم الدول العربية، والبعض الآخر شعراء عرب، ولكن يقيمون في دول أوروبية، ليأتوا إلى الشارقة، ويقيموا في قلبها لمدة أسبوع كامل، ما الذي يدفع مثل هذه المدن لتحمل كل هذا التعب؟ وصرف الأموال؟ وإشغال عدد كبير من الموظفين طيلة فترة إقامتنا؟ هل يستحق الشعر كل هذا التعب؟ وما الذي يمكن أنْ يُضيفه الشعر وقائلوه لمثل هذه المدن؟ لكي تخصص له أياماً محددة من كل عام يحتفلون بها بكل أريحية؟
وهل الشعر ما زال محتفظاً بوهجه لكي يبقى منافساً يحظى باهتمام الدولة، وحاكمها الشيخ سلطان القاسمي، لكي يحضر افتتاح المهرجان، ويجلس مع الشعراء متحدثاً عن أهمية الشعر ورعاية الشعراء الشباب، والاهتمام بالنقد وتوجيهه لتجارب الشباب، علماً بأننا نعرف أن بعض الدول تقيم مهرجانات شعرية بوصفها جزءاً من التعبئة الشاملة للتغني بالقائد الضرورة، وهذا ما لم يحدث في الشارقة، فضلاً عن رعايته الشاملة للشاعر الكبير مظفر النواب، حيث خصص له جناحاً خاصاً في المستشفى الجامعي، وأنا شخصياً زرتُ مظفر النواب، وقبلته على جبينه، رغم أنه كان في شبه غيبوبة في المستشفى ليلة الخامس من يناير (كانون الثاني) 2020، ويرعى أيضاً أسماء أدبية كثيرة أخرى، صحياً واجتماعياً، وقد علمت من مقربين منه أنه يرفض أن يعرف عنه أنه يمد يده البيضاء لهذه الشرائح من المجتمع، ما يستدعي أن نتأمل الشعر وجدواه وأهميته لمثل هذه البلدان وحكامها.
أعود وأسأل لماذا هذا الاهتمام في زمن لا تهتم المؤسسات الحكومية وحكامها إلَّا بما هو مثير، كالصراعات السياسية، وجدلها، وتنازع القوى الكبرى، وأهمية الاصطفاف لجهة من الجهات.
أسئلة عديدة تراودني وأنا أشاهد حفاوة الأصدقاء في الشارقة، واهتمامهم بالشعر في أيام معدودات، كطقسٍ سنوي مقدسٍ لديهم، ولا يمكن أنْ أعود بالشعر وبطقوسه السحرية للماضي، الذي يكتنف بداياته، أو أن الشاعر يُحتفى به بوصفه لسان القبيلة والمعبر عنها، حيث انتهت هذه المهمة، وأصبح الإعلام له أساليبه الخاصة، في التعبير والدفاع عن الحكومات، والأشخاص، أما الدفاع عن الحكومات حالياً، فلا أظنُّ أنَّ الشعر بإمكانه أنْ يوقف أصوات الرشاشات، ولا باستطاعته أنْ يُعيد العوائل النازحة لبيوتها، ولا يسدُّ رمق جائع أكلته الحروب.
ولكن ما أحسبه أنَّ هذا الاهتمام نابعٌ من تصور متحكم بأرواح وقلوب القائمين على تلك النشاطات، من أن الأموال التي تُدفع لعلاج الأبدان، ولراحة الأجساد، تقابلها أموال يجب أنْ تُدفع لعلاج الأرواح، وطمأنتها، وإنْ بكلفٍ أقل بكثير من تلك الأموال المدفوعة للجسد، لهذا فإنّ هذا الوعي يتضخم لدى الشارقة منطلقاً من حاكمها الذي يبدو أنَّه يراهن على القوى الناعمة، التي يعدُّها بديلاً للقوى الخشنة، كالسلاح، والحروب، والمؤامرات، فيستعيض عنها بقوى ناعمة، تبدأ ببناء الأرواح المتهالكة، وترممها شيئاً فشيئاً، لذلك فإنَّ الجدوى واضحة هنا في أنْ تكون واجهة هذه المدينة هي الواجهة الثقافية، وبالنتيجة حين يقرر الحاكمون بأن خيار الثقافة هو الخيار الأول لهذه الإمارة، فقطعاً ستدخل الثقافة طريق التنمية البشرية، وبهذا يتحول الشعر إلى وجهٍ آخر يُنتفعُ منه في تهذيب الأرواح، ونقد التطرف، وبث ثقافة السلام، وهذه العوامل - كما أعتقد - فإنَّ الدول الكبرى تصرف الكثير من الأموال لغرض صناعة بيئة صالحة للعيش، فيها من التنمية البشرية ما فيها، إيماناً بالإنسان، وبحقوقه، وحرياته، وقد تخصص مراكز بحوث ومؤسسات كبرى لهذا الغرض، بينما مهرجان من الشعر بإمكانه أنْ يُسهم بصناعة بيئة صالحة للحوار والحرية. لقد كان المهرجان فرصة مهمة للاطلاع على تجارب شعرية تنبئ بأصوات مغايرة في الشعرية العربية، وتشير إلى أن نهر الشعري بإمكانه أن يتدفق أكثر فأكثر، ولا يمكن له أن ينحسر في يوم من الأيام ما دام هناك حزن يتحول إلى موسيقى وإيقاع ولغة، تختمر كلها لتنتج حزناً موزوناً، أو حتى غير موزون.
تحية للشعر الذي جمعنا من كل الدول، فأقمناه مقام الوالد حين اختلفت أنسابنا كما يقول أبو تمام العظيم:
إنْ يختلفْ نسبٌ يؤلفْ بيننا
أدبٌ أقمناه مقام الوالدِ



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.