فرنسا ودول الساحل... نحو تدويل الحرب على الإرهاب

في ظل المتغيرات الأمنية والاعتبارات السياسية

فرنسا ودول الساحل... نحو تدويل الحرب على الإرهاب
TT

فرنسا ودول الساحل... نحو تدويل الحرب على الإرهاب

فرنسا ودول الساحل... نحو تدويل الحرب على الإرهاب

حاولت «قمة بو»، يوم الاثنين الماضي، فتح صفحة جديدة من التعاون بين فرنسا ودول الساحل الأفريقي، يضمن معها الفرنسيون لقواتهم الموجودة على الأرض (4500 جندي) حماية وشرعية أقوى، في ظل تصاعد موجة الرفض الشعبي للوجود العسكري الأجنبي في مالي وبوركينا فاسو.
وللعلم، هاتان الدولتان هما الأكثر معاناة من تصاعد الهجمات الإرهابية، والصعود القوي لتنظيم «الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى» (داعش الصحراء)، إلا أن القمة التي انعقدت في ظروف أمنية وسياسية استثنائية لم تخرج عن التوقّعات، فظلت حبيسة الاستراتيجيات «التقليدية» لمواجهة خطر الإرهاب، باستثناء محاولتها «تدويل» الحرب على الإرهاب في هذه المنطقة.
ثلاث ساعات من النقاش في اجتماع مغلق، بمدينة بو الواقعة في جنوب غربي فرنسا، بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وقادة دول الساحل الخمس (موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو)، أسفرت عن بيان مشترك، تضمن الاتفاق على «تعزيز التعاون العسكري» بين فرنسا ودول الساحل الخمس. لكن الأهم بالنسبة لفرنسا هو أنها حصلت على «موقف واضح» من قادة دول الساحل بخصوص الوجود العسكري الفرنسي، حين أعربوا عن رغبتهم في استمرار هذا الحضور العسكري، بل وتعزيزه، من خلال تشكيل «ائتلاف من أجل الساحل»، هو عبارة عن تحالف دولي واسع النطاق لمحاربة الإرهاب في الساحل سيصار إلى إطلاقه قريباً.

في حين كان قادة دول «منطقة الساحل» (ساحل الصحراء الكبرى) يحضرون «قمة بو» على الأراضي الفرنسية، كانت مظاهرات تجوب بعض المدن في مالي وبوركينا فاسو، رافعة شعارات مناهضة للوجود العسكري الفرنسي، رافضة بشكل مسبق نتائج هذه القمة التي يعتقدون أن قادة دول الساحل «استدعوا بطريقة مهينة». وهذه نقطة سبق أن أثارت كثيراً من الجدل في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وتسببت في تصريحات غاضبة من روش مارك كابوري، رئيس بوركينا فاسو، الذي يتولى الرئاسة الدورية لمجموعة دول «الساحل» الخمس.
كان المحتجّون وهم يجوبون شوارع العاصمة المالية باماكو، متوجّهين نحو «نصب الحرية» في قلب المدينة، ساعات قبيل انعقاد «قمة بو»، يردّدون شعارات مناهضة للوجود العسكري الفرنسي، من قبيل: «نعم لرحيل القوات الفرنسية!»، و«لترحل فرنسا»، و«نعم لرحيل القوات الأجنبية!»، بينما يرفع أكثر المحتجّين تطرّفاً شعارات تقول: «أوقفوا المجازر الفرنسية في مالي».
بدأ هذا الرفض الشعبي منذ عدة أسابيع في بوركينا فاسو (أعالي الفولتا سابقاً)، الدولة الشيوعية السابقة التي حكمها المناضل الأفريقاني المعروف توماس سانكارا في ثمانينات القرن الماضي، قبل اغتياله في انقلاب عسكري، مخلفاً وراءه حركات سياسية ونقابية «أفريقانية» توصف بأنها مناهضة لفرنسا. وهذه الحركات ما زالت تعتبرها قوة استعمارية، وأن جنودها الموجودين في الساحل مهمتهم الأولى الحفاظ على المصالح الفرنسية، وليس محاربة الإرهاب أو حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة.
ولكن هذا التيار الشعبي الذي أثار وجوده استياء الفرنسيين لا يزال محدود الانتشار في بلدان بلا جيوش. ويدرك معظم سكانها أنهم يعتمدون في أمنهم بشكل شبه كامل على القوات الفرنسية الموجودة في المنطقة (4500 جندي)، وقوات حفظ السلام في دولة مالي (مينوسما)، البالغ قوامها 15 ألف جندي، بالإضافة إلى قوة عسكرية مشتركة شكلتها دول الساحل الخمس منذ سنوات، ويبلغ قوامها 5 آلاف جندي، ما تزال ضعيفة التدريب والتجهيز.
هذا وسبق أن انتقد الفرنسيون بشكل صريح صمت الحكومات في دول الساحل حيال التيار الشعبي الرافض للوجود العسكري الفرنسي في المنطقة، وهو ما دفع ماكرون إلى أن يطلب منهم موقفاً واضحاً في هذه النقطة، مشيراً إلى أنه لن يقبل أن يضحي الجنود الفرنسيون بأرواحهم (قُتل 41 جندياً منذ 2013) في مناطق لا ترحب بهم.
وقال ماكرون في نهاية القمة: «لم يكن من المقبول السماح ببروز مغالطات وأكاذيب وتوهّمات حول الوجود الفرنسي في بلدان الساحل، وترك ذلك من غير رد». وحُسمت هذه النقطة في البيان الختامي للقمة، حين أشارت إحدى الفقرات إلى أن قادة دول الساحل «أعربوا عن تمنيهم استمرار الالتزام العسكري الفرنسي في الساحل».

- منعطف تاريخي!
خلال الجلسة المغلقة، كان ماكرون يجلس إلى طاولة مستديرة، عن يمينه الرئيس التشادي إدريس ديبي، وهو عسكري وقائد سابق لأركان الجيش في تشاد يتولى حكم بلاده منذ 3 عقود، ويسعى للتمديد. أما عن يسار ماكرون، فجلس الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، وهو جنرال متقاعد وقائد سابق لأركان الجيش الموريتاني، تولى الحكم في بلاده قبل 6 أشهر فقط، في حين جلس على بقية مقاعد الطاولة، قبالة الرئيس الفرنسي، رؤساء النيجر ومالي وبوركينا فاسو «المدنيون» الذين لا يحملون وراءهم أي خلفية عسكرية، وتعاني دولهم من عمليات إرهابية تكاد تكون يومية.
وكان واضحاً أن الملف العسكري سيستحوذ على الجزء الأكبر من النقاش، خاصة أن التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل كان من أهم النقاط المدرجة على جدول أعمال القمة التي لم تزد على عدة ساعات فقط؛ ذلك أنه سبق للفرنسيين أن أعربوا عن رغبتهم في مراجعة استراتيجيتهم العسكرية والأمنية لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل، لكنهم كانوا يحتاجون في البداية إلى ضرورة إعادة تحديد قواعد الشراكة مع دول المنطقة.
هذا ما أعلن عنه ماكرون، خلال المؤتمر الصحافي الذي أعقب القمة، حين قال إنها «شكلت منعطفاً تاريخياً مهماً، إنها منعرج في المنهج والمقاربات، إذ تمكنا من أن نعيد تحديد الإطار السياسي، ونعيد بوضوح تحديد الأهداف، وشروط تنظيم تدخلنا المشترك، وتدخل شركائنا».
وأكد ماكرون أن الإشكال المتعلق بالوجود العسكري الفرنسي في المنطقة أمكن تجاوزه، مما يعني أن فرنسا ستبقى اللاعب الأول في تلك المنطقة التي طالما شكلت حديقة خلفية بالنسبة للفرنسيين الذين دخلت جيوشهم هذه المنطقة نهاية القرن التاسع عشر كقوة استعمارية، وخرجت منتصف القرن العشرين، مخلّفة إرثاً ما زال يلقي بظلاله على العلاقة بين فرنسا وهذه المنطقة من العالم.
ومع هذا، كان الفرنسيون بحاجة لإعادة صياغة قواعد التعاون والشراكة العسكرية والأمنية مع دول الساحل، بعد 7 سنوات من التدخل العسكري، وهو ما كان قد بدأ بشكل عاجل في شهر يناير (كانون الثاني) من عام 2013، بدعوة وطلب رسمي من الرئيس المالي السابق ديونكوندا تراوري. وكان وراء الطلب الحاجة لوقف زحف مقاتلي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» نحو العاصمة باماكو، بعد 6 أشهر من سيطرتهم على ثلثي مساحة البلاد في الشمال. آنذاك، أطلق الفرنسيون عملية «سيرفال» التي أرغمت الإرهابيين على الانسحاب من شمال مالي، ثم تحولت عملية «سيرفال» عام 2014 إلى عملية «برخان» التي توسّعت لتشمل محاربة الجماعات الإرهابية في دول الساحل الخمس، بالتعاون والتنسيق مع الجيوش المحلية.

- تعزيز قوة «برخان»
لم تعلن تفاصيل القواعد الجديدة للشراكة بين فرنسا ودول الساحل، فيما أعلن الرئيس الفرنسي أنه سيعزّز قوة «برخان» بقوة عسكرية جديدة، تتشكل من 220 جندياً، وقال: «قررت استخدام قدرات قتالية إضافية؛ 220 جندياً سيعززون قوة (برخان)»، وهو ما يعني ارتفاع عدد الجنود الفرنسيين في الساحل إلى 4720 جندياً، في حين أشار رئيس بوركينا فاسو روش مارك كابوري إلى أنه يجب تركيز العمل العسكري في منطقة المثلث الحدودي الرابط بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الذي بات «الخاصرة الرخوة» لمنطقة الساحل، إذ تنفذ فيه النسبة الأكبر من الهجمات الإرهابية.

- هواجس سياسية
كابوري، الذي يتولى الرئاسة الدورية لمجموعة دول الساحل الخمس، كان يشعر بالخطر المُحدق ببلده الهش بوركينا فاسو، وجيشه العاجز عن مواجهة التنظيمات الإرهابية التي طورت خلال السنوات الأخيرة من أساليب عملها وقدراتها القتالية، إلا أنه في حديثه أمام الصحافيين كان يستحضر الرأي العام المحلي في منطقة الساحل، قائلاً: «خلاصة نقاشاتنا (في القمة) هي أن نصل إلى نتائج ملموسة وبسرعة، لأن مصداقيتنا كدول مرتبطة بذلك».
ولكن الغضب الشعبي من الوجود العسكري الأجنبي، الذي يتنامى في بوركينا فاسو، واتسع ليشمل دولة مالي، قد يتحوّل في أي لحظة إلى غضب شعبي ضد أنظمة الحكم. وللعلم، شهدت الدولتان انتفاضات شعبية دامية نجحت في قلب أنظمة الحكم (2015 في بوركينا فاسو، و1991 في مالي). ولا تسمح الظروف الأمنية الهشة في أي منهما بأي نوع من التأزيم لأنه سيصب الزيت على النار، ويعقد الوضع في منطقة مشتعلة منذ عدة سنوات.
لذا يبحث رئيس بوركينا فاسو عن «صدقية» مبنية على إنجاز ميداني، كضامن لاستقرار نظام الحكم في بلاده وبقية دول الساحل. بيد أن كابوري، وهو يتكلّم باسم قادة دول الساحل، كان صريحاً حين قال إن «النتائج التي تحققت على الأرض لا تسمو إلى مستوى تطلعات السكان» للقضاء على الجماعات الإرهابية. وأضاف أنه من أجل تحقيق نتائج مُرضية «لا بُد من تكثيف مستوى التنسيق الأمني والعسكري بين مختلف القوى العسكرية على الأرض، وتعزيز قدرات الجيوش الوطنية، ومنحها الوسائل التي تمكنها من القيام بمهمات قتالية ناجحة». وخلُص إلى التأكيد على أن «تبادل المعلومات الاستخباراتية هو حجر الزاوية لتحقيق النجاح الميداني».
من جهة أخرى، ناقش القادة الستة المشاركون في القمة قضية تعزيز سيادة دول الساحل، وحضورها في المناطق النائية، وذلك من خلال إعادة توطين السكان في مناطقهم الأصلية، وفتح المدارس والمستشفيات التي أغلقت بسبب الإرهاب، وتوفير الخدمات الضرورية. غير أن هذا لن يتحقق من دون تحقيق الأمن أولاً، وتوفر تمويلات سبق أن تعهد بها المانحون الدوليون خلال مؤتمر بالعاصمة الموريتانية نواكشوط نهاية 2018. ولا تزال دول الساحل غير راضية عن الوفاء بالالتزامات التي وصلت آنذاك إلى أكثر من ملياري يورو من أجل تمويل 40 مشروعاً تنموياً، أغلبها في المناطق الحدودية بين الدول التي تغيب عنها الدولة.

- تدويل الحرب
الأمم المتحدة، في تقرير صدر يوم الأربعاء الماضي، وصفت الوضع في منطقة الساحل بأنه «ينذر بالخطر»، وأعربت عن استعدادها لتنفيذ «حلول أكثر إبداعاً واستباقية» لضمان وصول الدعم اللازم إلى القوة المشتركة لدول الساحل الخمس، مؤكدة أن القوات الدولية والمحلية تبذل جهوداً كبيرة في الحرب على الإرهاب، لكنها جهود يبدو أنها غير كافية.
وأمام تدهور الوضع الأمني في المنطقة، وانفجار الوضع في ليبيا المجاورة، أعلنت دول الساحل وفرنسا عن سعيها نحو تنسيق جهودها في «الائتلاف من أجل الساحل» الذي هو إطار سياسي واستراتيجي وعملياتي جديد، يشمل قوة «برخان» الفرنسية ودول منطقة الساحل، بالإضافة إلى مجموعة دول غرب أفريقيا والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، وعدد من الدول الشريكة، وهو ائتلاف مفتوح أمام كل طرف يرغب في الالتحاق به للمساهمة في الحرب على الإرهاب في هذه المنطقة من العالم، وفق ما أعلنه رئيس بوركينا فاسو.
إن الاتفاق على تشكيل هذا الائتلاف الجديد يؤكد رغبة فرنسا ودول الساحل في تدويل حربها على الإرهاب، كي لا تكون القوات الفرنسية بمفردها في مواجهة الجماعات الإرهابية التي بدا واضحاً أنها اكتسبت الخبرة، وعمقت حضورها على الأرض، وتغلغلت وسط السكان المحليين. ورغم حالة التفاؤل التي هيمنت على القمة بعد القرارات الصادرة عنها، فإن الرئيس ماكرون قال بحزم: «لننتظر ونرى ونقيم في الصيف المقبل ما سيجري على الأرض».
لقد حاولت «قمة بو» أن تعطي إشارة انطلاق جهد دولي ينقل الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي إلى مستويات جديدة، خاصة أن باريس تراهن بشكل كبير على تشكيل قوة خاصة أوروبية (تابوكا) ستكون بعد تشكيلها «قوة تدخل سريع»، مهمتها دعم الجيوش المحلية والقوات الدولية على الأرض في منطقة الساحل الأفريقي، لكن تشكيلها ما زال في مراحله الأولى. ومع أن 10 دول أوروبية عبّرت عن نيتها المشاركة فيها، فإن الأطر القانونية المشكّلة لهذه القوة العسكرية الأوروبية لم توضع بعدُ، وهي أطر يجب عرضها على البرلمان الأوروبي.

- صدمة من واشنطن
وفي حين يتحرّك الأوروبيون ببطء نحو تشكيل قوة «تابوكا»، جاءت الصدمة من الولايات المتحدة التي أعلنت نيتها تقليص حضورها العسكري في أفريقيا، بما في ذلك منطقة الساحل، وهو ما يفسد خطط دول الساحل الخمس وفرنسا نحو رفع وتيرة الحرب على الإرهاب في هذه المنطقة الشاسعة المترامية الأطراف.
وتشير بعض التقارير إلى أن الولايات المتحدة توفر 80 في المائة من الدعم اللوجيستي للقوات الفرنسية الموجودة في منطقة الساحل، خاصة فيما يتعلق بنقل الجنود والمعدات، هذا بالإضافة إلى الدعم الاستخباراتي عبر توفير وتسيير طائرات «الدرون» من قواعد عسكرية شيدها الأميركيون في النيجر، ومكّنتهم من أن يغدوا لاعبين أقوياء في هذه المنطقة الشاسعة التي تنتشر فيها شبكات التهريب والإرهاب، وتغيب عنها السلطة.
ولكن حضور الأميركيين، رغم الدعم اللوجيستي والاستخباراتي الذي يقدمونه لفرنسا ودول الساحل، ما يزال محدوداً جداً على الأرض في منطقة الساحل، وهو يقتصر على بعض وحدات القوات الخاصة التي تدرب قوات مكافحة الإرهاب في النيجر لدعمها في محاربة جماعة «بوكو حرام»، قرب بحيرة حوض تشاد.
وكانت دول الساحل تتطلع لأن يرفع الأميركيون من مستوى حضورهم العسكري الميداني، لدعم الفرنسيين والجيوش المحلية في حربها على الإرهاب، خاصة أن الأشهر الأخيرة شهدت دخول «داعش» على الخط في منطقة الساحل، وهو التنظيم الذي سبق أن ألحق به الأميركيون الهزيمة في العراق وسوريا، وهم أكثر خبرة من الفرنسيين في مواجهة عناصره.
وفي الوقت الذي تدرس فيه واشنطن تقليص عدد جنودها في أفريقيا، البالغ 7 آلاف جندي «أعربت دول المنطقة عن امتنانها للدعم المهم الذي قدمته الولايات المتحدة، وأكدت رغبتها في استمراره». وأعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي أنها ستتوجه إلى العاصمة الأميركية لبحث الدعم الأميركي العسكري للقوات الفرنسية في منطقة الساحل الأفريقي، وسط مخاوف متزايدة من انسحاب الأميركيين من المنطقة.

- الفرع الصحراوي لـ«داعش»... العدو الصاعد في منطقة الساحل
منذ قرابة عقدين من الزمن ومنطقة الساحل الأفريقي، وتحديداً شمال مالي، مرتعاً لتنظيم «القاعدة» والجماعات الإرهابية التابعة له. إلا أن الوضع على ما يبدو قد تغير في ظل الصعود القوي لتنظيم داعش، عبر فرع أسس قبل قرابة 5 سنوات يحمل اسم «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى». ووصفت «قمة بو» الأخيرة هذا التنظيم بأنه بات العدو الأول في منطقة الساحل، ويطرح تحدياً كبيراً على القوات الوطنية والدولية.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال أمام الصحافيين في مدينة بو إن مكافحة هذا التنظيم باتت أولوية، لكونه شنّ خلال الأشهر الأخيرة هجمات إرهابية غير مسبوقة في المنطقة، من حيث الجرأة والقوة والدموية. وحقاً، تركزت هذه الهجمات في المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وهي المنطقة التي يتحرك فيها مقاتلوه الذين تشير بعض التقارير إلى أنهم لا يزيدون على 300 مقاتل.
هجمات التنظيم خلال الشهرين الماضيين تسببت بمقتل أكثر من 300 شخص، جلّهم من أفراد قوات الأمن وجنود الجيوش المحلية. وكان أحدث هجوم له يوم الخميس 9 يناير (كانون الثاني) الحالي، في منطقة شينيغودار بالنيجر، وخلّف 89 قتيلاً في صفوف الجيش النيجري. وقبله، في نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، شن التنظيم هجوماً دامياً على أربيندا في بوركينا فاسو، وخلف 42 قتيلاً، من ضمنهم 35 مدنياً. وفي العاشر من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، شن هجوماً على ثكنة عسكرية في إيناتس بالنيجر، خلف 71 قتيلاً في صفوف الجنود النيجريين. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، استهدف منطقة تبانكورت في مالي، وقتل 43 جندياً من جنود الجيش المالي، وغير بعيد عن المنطقة، في أنديليمان، قتل 49 جندياً مالياً.
ويشير الخبراء إلى أن التنظيم يعتمد أسلوب عمليات شبيه بذلك المعتمد من طرف مقاتلي «بوكو حرام» في نيجيريا، إذ يهاجم العشرات من سائقي الدراجات النارية ثكنات عسكرية معزولة، ويدمرون وسائل الاتصال فيها، ويقصفونها بقذائف الهاوين، ويقتلون الجنود، ثم يهربون إلى الأدغال. ويفسر الخبراء هذا التطور في الأسلوب بوجود اتصالات وتعاون وتنسيق بين الجماعات الإرهابية في القارة الأفريقية، سواء في منطقة الساحل أو منطقة بحيرة تشاد أو جنوب ليبيا.
ثم إن بعض التقارير تتحدث عن وصول مقاتلين فارين من جبهات أخرى هزم فيها تنظيم داعش، وتولوا مناصب قيادية بارزة في «داعش الصحراء»، ونقلوا إليه تجاربهم التي اكتسبوها في الحروب السابقة، كما يستعين التنظيم الإرهابي بمرتزقة ومأجورين ينتمون للمنطقة ولديهم دراية واسعة بمسالك الأرض الوعرة.


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.