«البابا الشيوعي» فرنسيس في مواجهة المحافظين

مصادر الفاتيكان تستبعد أن يتراجع عن برنامجه الإصلاحي وتتوقّع تصعيداً ضد المتشددين

البابا فرنسيس خلال اللقاء الأسبوعي في الفاتيكان (رويترز)
البابا فرنسيس خلال اللقاء الأسبوعي في الفاتيكان (رويترز)
TT

«البابا الشيوعي» فرنسيس في مواجهة المحافظين

البابا فرنسيس خلال اللقاء الأسبوعي في الفاتيكان (رويترز)
البابا فرنسيس خلال اللقاء الأسبوعي في الفاتيكان (رويترز)

يشهد الفاتيكان منذ أيام فصلاً جديداً من «الحرب العقائدية» التي يشنّها التيّار المحافظ في الكنيسة الكاثوليكية على البابا فرنسيس، اليسوعي الأوّل الذي يتربّع على كرسي بطرس، والذي تثير مواقفه وتصريحاته تحفظات وانتقادات قاسية في الأوساط الكنسيّة المتشدّدة، كما بين القوى السياسية اليمينية المتطرفة التي ذهب بعضها مؤخراً إلى المطالبة بتنحّيه عن السدّة البابوية ووصفته بـ«البابا الشيوعي». وكان الهجوم الجديد على البابا قد بدأ مطلع هذا الأسبوع مع الإعلان عن صدور كتاب وضعه الأسقف الغيني المحافظ روبرت سارا، والبابا السابق بنيديكت السادس عشر الذي تنحّى منذ سنوات ويعيش معتزلاً في المقرّ البابوي الصيفي في بلدة «كاستيل غاندولفو» القريبة من روما، والذي يتضمّن انتقادات لما اقترحه البابا فرنسيس مؤخراً حول جواز رسم المتزوجين كهنة في بعض المناطق النائية، خصوصاً في أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تواجه الكنيسة الكاثوليكية صعوبة في استقطاب كهنة عازبين لخدمة أتباعها. ويأتي صدور الكتاب في العاصمة الفرنسية قبل أيام من القرار المنتظَر للبابا فرنسيس حول هذا الموضوع الذي يثير جدلاً واسعاً في الأوساط الكاثوليكية، خصوصاً منذ الكشف عن فضائح التحرّش الجنسي على نطاق واسع في الكنيسة.
لكن بعد الضجّة الإعلامية التي أثارها الإعلان عن نشر هذا الكتاب، والاستغراب شديد اللهجة الذي صدر عن الفاتيكان، طلب البابا بنيديكت السادس عشر سحب اسمه من الكتاب بعد أن أعلن مساعده الأسقف جورغ غانزواين، أن البابا الفخري، الذي بلغ الثانية والتسعين من العمر، لم يكن على بيّنة من الشكل الذي ستتخذه آراؤه حول هذا الموضوع. وقال غانزواين، الذي يُعد صلة الوصل بين البابا راتزينغير والعالم الخارجي، أن بنيديكت السادس عشر وضع في تصرّف سارا نصّاً حول موضوع عزوبيّة الكهنة، ولم يكن يعرف شيئاً عن الكتاب.
الكاردينال روبرت سارا من جهته ردّ بالقول إن راتزينغير كان قد اطّلع على النصّ النهائي ووافق على استخدامه وفقاً للمحادثات التي سبق ودارت بينهما. وأضاف سارا، الذي يرأس «مجمع العبادة الإلهيّة» ويدعمه التيّار المحافظ في الكنيسة لخلافة البابا فرنسيس، أن راتزينغير كان مطّلعاً على مشروع الكتاب ومضمونه وتاريخ صدوره، ووافق على غلافه الذي تظهر عليه صورته إلى جانب سارا. وأكد الكاردينال الغيني الذي يقود الحملة المحافظة ضد البابا فرنسيس، أنه زار رازينغير في الثالث من الشهر الماضي وأبلغه أن الكتاب سيصدر في الخامس عشر من هذا الشهر.
لكن بعد اللغط الذي أثاره الموضوع في الأوساط الكنسية والضجّة في وسائل الإعلام، وبعد البيان الذي صدر عن الفاتيكان معتبراً أن الكتاب هو مساهمة من «أبناء الكنيسة في طاعة الأب»، ومشيراً إلى أن البابا راتزينغير قد يكون تعرّض لخدعة، طلب الكاردينال سارا من دار النشر الفرنسية شطب اسم البابا بنيديكت السادس عشر من على غلاف الطبعات المقبلة كمؤلف، والاكتفاء بنشر اسمه كمساهم في وضعه. وفيما يدعو بعض المقرّبين من البابا فرنسيس إلى استقالة الكاردينال سارا من منصبه لأنه «كذب وخان أمانة راتزينغير»، يزداد القلق في دوائر الفاتيكان من الـظروف المحيطة بالبابا الفخري والخشية من استغلال آرائه وتصريحاته لأغراض مشبوهة. وتجدر الإشارة أن تنحّي بنيديكت السادس عشر في عام 2013، والمساكنة مع بابا آخر، يشكّل سابقة في تاريخ الكنيسة الحديث، وليس واضحاً كيف يُفترض به أن يتصرّف. أوساط الفاتيكان تعتقد أن التيّار المحافظ في الكنيسة الكاثوليكية، الذي لم يوفّر مناسبة إلا وانتقد فيها مواقف البابا فرنسيس من الهجرة وكشف المتورطين في الفضائح الجنسية والإصلاح الإداري والمالي في إدارة الكنيسة، قد انتقل إلى مرحلة أكثر تصعيداً في المواجهة مع البابا الحالي، وتوقّعت فصولاً جديدة في هذا الصراع الذي «رغم أنه كان موجوداً دائماً داخل الكنيسة، لم يبلغ أبداً هذه الدرجة من التعبئة». ويقول مسؤول رفيع في الفاتيكان «إن الحملة على البابا فرنسيس انطلقت بعد أسابيع من انتخابه في عام 2013 من أوساط سياسية محليّة ودولية واسعة النفوذ ووافرة الموارد، ولجأت بعد ذلك إلى استخدام التيّار المتشدّد داخل الكنيسة لإجهاض البرنامج الإصلاحي الذي وضعه البابا برغوليو». وأضاف المسؤول، الذي تولّى مناصب حسّاسة في الفاتيكان منذ أكثر من عقدين: «إن الحملة على فرنسيس نجحت إلى حدّ ما في عرقلة برنامجه الإصلاحي، خصوصاً في الإدارة المالية والإجراءات التأديبية»، لكنه استبعد أن يتراجع البابا عن مساره الإصلاحي، وتوقّع تصعيداً من طرفه ضد التيّار المتشدّد في المرحلة المقبلة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟