18 بقرة مطلوبة أمنيا لإسرائيل.. للمخرجين عامر شومالي وبول كووان

كانت مفرحة للغاية مشاهدة الاكتظاظ الكبير على صالات السينما التي تعرض أفلام مهرجان أبوظبي السينمائي في اليوم الثاني بعد حفلة الافتتاح، يوم الخميس 23 من الشهر الحالي، عندما تم عرض فيلم «من أ إلى ب».
يحسب للمهرجان قدرته على جذب الجمهور صوب كافّـة خاناته وأقسامه، ويحسب للجمهور الإماراتي وللجمهور القاطن في أبوظبي من العرب وغير العرب تلهفهم للمعرفة وتوزّعهم على الأفلام كافة، بصرف النظر عن منابعها الثقافية وأنواعها السينمائية وما إذا كانت قديمة (فهناك قسم خاص لكلاسيكيات السينما) أو جديدة (كحال معظم العروض).
أحد الشبّان الإماراتيين الذي جاء مع والديه لمشاهدة الفيلم الفرنسي «ضربة المطرقة الأخيرة» للمخرجة أليكس ديلابورتي، قال، ونحن بانتظار فتح باب الدخول: «تحتار لأي فيلم تريد أن تتوجه. لكني أحاول أن أقرأ عن كل فيلم في المواقع الأجنبية، ووجدت هذا الفيلم جديدا في فكرته. والدي كان يريد مشاهدة «تلة الحرية» (فيلم كوري مشترك في المسابقة الرئيسة من إخراج هونغ سانغ - سو)، لكنه غير رأيه في آخر لحظة. إن شاء الله يكون هذا الفيلم جيّدا، وألا نكون أسأنا الاختيار».
لكن إساءة الاختيار أمر نسبي، ما يعجب شخص قد يثير عدم إعجاب الشخص الذي إلى جانبه. من ناحيته، فإن «ضربة المطرقة الأخيرة» فيه قدر من الإمعان في تناول حياة شخصياته الحائرة. بطله فكتور (رومان بول) الذي يعيش حياة مفككة بما فيه الكفاية. غاية المخرجة ديلابورتي التي وقّعت السيناريو مع آلن لو هنري، الانطلاق من ذلك التفكك الشخصي والعائلي والاجتماعي إلى محيط أوسع، لترى إذا ما كان بإمكان بطلها وضع نفسه على سكّة حياة جديدة ومثمرة، خصوصا أنه ضحية الظروف لا أكثر ولا أقل.
فكتور (ابن الـ13 سنة) لم يعرف أبيه جيّدا، بل لم يعرفه مطلقا. ذلك أن فكتور هو نتيجة علاقة غير شرعية تمّت بين قائد موسيقي معروف وبين امرأة هامت به حبّا ذات مرّة. الأب عرف كيف يغادر حياة الأم في الوقت المناسب غير مكترث لمآلها. وهي، لا يفوت الفيلم أن يذكر، منحت ابنها كل ما استطاعت من رعاية واهتمام، لكنها الآن مريضة، ومرضها الذي أفقدها شعر رأسها (لا يحدد الفيلم نوعه أو اسمه) أفقدها كذلك عملها. فكتور اليوم يعيش حالات متعددة: هو مراهق تلفت ابنة الجيران اهتمامه، وتلميذ نجيب في الرياضة إذا ما استمر، وفتى عليه أن يجد عملا يساعد فيه والدته التي تقف على حافة الإفلاس.
الموقع الذي اختارته المخرجة لفيلمها مثير للاهتمام، فالأم (كلوديت أزمي) وابنها يعيشان في بيت على عجلات (تريلر) على الشاطئ في ركن غير بعيد عن مدينة مونبلييه. ولتعقيد الأمور أكثر قليلا من دون إرباك سياق الفيلم الاجتماعي السهل، ها هو والد فكتور يصل إلى تلك المدينة ليبدأ التمارين على سيمفونية مولر السادسة. فكتور لديه فرصة يتيمة لملاقاة والده. لا يريد ملاقاته، لكن أي نوع من اللقاء سيتم؟ وما الذي سينتج عنه؟
«آخر ضربة مطرقة» دراما حانية مليئة بالنواحي الإنسانية إنما من دون خطب أو محاولات لفت الاهتمام. أليكس تدع الصورة والمعالجة تتحدث بنفسها عما تريد قوله. وتسند لمديرة التصوير كلير ماثون (التي صوّرت لديلابورتي سابقا «أنجل وتوني») تحريك الكاميرا في قدر من الحرية والرشاقة ملتقطة الأجواء المفتوحة على الاحتمالات كلّها.

* أبقار خطرة

* الفيلم الذي شهد الحشد الأكبر يوم أول من أمس، هو «المطلوبون الـ18» لعامر شومالي وبول كووان، إنتاج كندي في صلبه (تمويلا)، فلسطيني (موضوعا)، وتسجيلي (نوعا)، يقص حكاية حقيقية مثيرة جدّا للاهتمام، لأنها واقعية مأخوذة عن أحداث حدثت، وبسبب طريقة تنفيذه غير التقليدية.
في الفترة التي شهدت فيها الضفّـة الغربية الانتفاضة الأولى، سنة 1987، كانت مدينة بيت ساحور (البلدة الفلسطينية التي تبعد نحو كيلومتر واحد عن بيت لحم) تعيش وضعا مختلفا. لقد وجدت البلدة (التي تسكنها غالبية مسيحية) أن المنطق يقتضي أن يكون لديها بقرها الخاص بها عوض شراء الحليب يوميا من تجار يهود. قام بعضهم بشراء 18 بقرة ووضعوها في مزرعة خاصّـة وأخذوا يستثمرونها مصدرا لما تحتاجه البلدة من حليب يوميا.
في البداية لم يشعر الاحتلال أن هناك أي خطر من هذا الفعل، لكن لاحقا، عندما تبدّى أن هذا الفعل هو حجر أساس في نزعة بيت ساحور للاستقلال والاكتفاء الذاتي، سعى الجيش الإسرائيلي للتدخل بحثا عن تلك البقرات بعدما وجّـه إنذارا بتسليمها خلال 24 ساعة. مدّة كافية لإخفاء هذه البقرات عن أعين القوات التي - يقول الفيلم في لفتة ساخرة - باتت مطلوبة و«عوض البحث عن إرهابيين، أصبح البحث عن أبقار يريدون إلقاء القبض عليها».
دامت المواجهة على هذا الصعيد نحو 5 أيام سقط فيها قتيل من أقارب المخرج الفلسطيني تصدّى لقوّات الاحتلال التي كانت تبحث عن ولو بقرة واحدة. طبعا الأحداث كونها وقعت خلال فترة الانتفاضة، التي سميّـت بـ«ثورة الحجارة»، أتاحت للفيلم، من خلال لقطات وثائقية وبعض المشاهد المعاد تمثيلها، ومن خلال المقابلات مع عدد من الرجال والنساء الذين عايشوا الفترة، الدمج بين أحداث الانتفاضة وأحداث الأبقار المطلوب القبض عليها.
يبدو كما لو أن هذا الدمج يبتعد عن الخط الأصلي حول حكاية تلك الأبقار وكيف شكّلت أزمة حادّة وهددت حياة بعض سكان البلدة، لكن هذا الدمج يأتي طبيعيا كون الأحداث وقعت في فترة شملت أحداثها كل القطاع.
ما هو أهم، أن الوقائع على غرابتها، من ناحية، وعلى جدّيتها من ناحية أخرى (عندما تتأزم الأمور لدرجة أن الجيش الإسرائيلي نفسه يوجه 400 جندي للبحث عن تلك البقرات)، تقود إلى فيلم ساخر برمّته. يثير الحزن لواقع مر والضحك المشوب بذلك الحزن في الوقت ذاته.
مما يجعل هذا الفيلم مختلفا أيضا، هو الطريقة التي اختارها المخرجان اللذان جاءا إلى أبوظبي لتقديم الفيلم في عرض عالمي أول.
من جهة، هو فيلم تسجيلي ولو عمد فيه المخرجان، شومالي وكووان، إلى إعادة تمثيل بعض المشاهد (غالبا للقوات الإسرائيلية ورد فعل الفلسطينيين خلال المواجهة)، لكنه يستخدم الأنيميشن في مقاطع كثيرة. من جهة أخرى، هو فيلم ينتقل من الأبيض والأسود إلى الألوان أكثر من مرّة وفي منهج مدروس.
الرسوم المتحركة المستخدمة تحافظ على كوميدية الفكرة. التعليق المصاحب لها ليس ناجحا، في تأليفه، طوال الوقت، لكن من دونه سيكون من الصعب تحقيق المزج الصحيح بين الرسم والحي. كذلك، ونسبة لعدم وجود أبقار حيّة في الفيلم (باستثناء مشاهد قليلة)، فإنه من الأسهل تقديم الأبقار مرسومة، لكن ما يبدأ مضحكا يتحوّل سريعا إلى السخرية، والضحك غير السخرية، الأول ينتج عن موقف، والثاني ينتج عن معالجة، الانتقال من بداية كوميدية إلى منوال ساخر يواكب صعود الفيلم من عرض لحالة جديدة لا نعلم لماذا هي موضوع هذا الفيلم، إلى التشبّع بمفردات ونتائج تلك الحالة التي تحافظ على فرديتها وغرابتها بنجاح.
إلى كل ذلك، وإذ يبتعد الفيلم عن معظم ما توفره الأفلام الفلسطينية لمشاهديها من تصوير جاد لقضاياها، فإنه من المتجدد (إن لم يكن من الجديد فعلا) أن نقف على الإسهام المسيحي في ذلك الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو جانب قلّما تناولته أفلام سابقة.

* غياب المنهج

* تصوير «المطلوبون الـ18» جيّد ولافت (قام به جرمان غويتريز ودانيال فينيوف) كذلك الحال في فيلم تسجيلي آخر هو «ملح الأرض»، لكن في هذا الإنتاج الفرنسي (الناطق بالبرتغالية والفرنسية والإنكليزية) يحتل التصوير صلبا أساسيا كونه مقصودا لذاته، فالموضوع يدور حول المصوّر الفوتوغرافي سيباستيو سالغادو الذي تشارك والمخرج الألماني فيم فندرز في تحقيقه.
الفيلم عن هذا المصوّر وعن صوره. عن الفنان وإبداعه. سالغادو برازيلي المولد درس أولا الاقتصاد قبل أن يهاجر إلى فرنسا سنة 1969. هناك التقى بزوجته وباشر منذ عام 1973 هواية جديدة ما لبثت أن تحوّلت إلى حرفة.
الفيلم ليس بيوغرافيا أو سيرة حياة. صحيح أنه يأتي بمعلومات مستقاة من حياة شخصيّته الرئيسة، إلا أنه ليس العمل الذي يجلس وإياك ليحكي لك حكاية حياة على نحو متسلسل. ينطلق، مثلا، من الحديث عن بعض الصور ذات الدلالات التاريخية والاجتماعية ثم يعود إلى الوراء ثم يستعرض أوضاعا مستجدة (مثل اتهام بعض النقاد للمصوّر بأنه يستغل أوضاع البؤس الاجتماعي ليجني عبرها المكانة والثراء. أمر لا يؤيده الفيلم (بطبيعة الحال) ولا يبت به، لكنه يثير الإعجاب بشخص سالغادو الذي وجد نفسه، في السنوات الأخيرة، يشرف على مشروع باسم «برنامج الأرض». كان عاد إلى البرازيل ووجد أن أملاك والده المحيطة أصيبت بالإهمال، وباتت على حافّة التصحر البيئي والبشري فانطلق في محاولته إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإصلاح ما سببه الإهمال، وحقق بذلك نجاحا ملحوظا.
«ملح الأرض» مثير للاهتمام لكنه ليس الفيلم الذي يستطيع المرء ضمّه إلى أعمال فندرز الأفضل. ما يغيب عنه هو الحديث عن منهج المصوّر الفني الذي يقف هناك ويلتقط الصور، لكن ماذا عن منهجه في العمل، عما يكوّن فن اللقطة؟ ولماذا على هذا النحو وليس ذاك؟