رحلة من أبوظبي إلى بيروت تطلق دورة المهرجان الثامنة

انطلقت، أول من أمس (الخميس)، حفلة افتتاح الدورة الثامنة لمهرجان «أبوظبي السينمائي» وحشدت مجموعة كبيرة من الأفلام العالمية والعربية التي يتوق الموجودون لمشاهدتها، والتي يعول عليها المهرجان الكثير لتأكيد ما حققه حتى الآن من حضور محلي وعربي ودولي.
الكلمات التي ألقيت في حفل الافتتاح جاء معظمها قصيرا، كما ينبغي أن تكون، والاستثناء الوحيد كان في كلمة بدأها السينمائي بعبارة: «أعلم أنكم لم تأتوا إلى هنا لتسمعوا خطبا، لذلك سأختصر»، ويا ليته فعل.
بالنتيجة، وكما الحال في كثير من الافتتاحات العربية، أمضينا مع سهرة الافتتاح نحو ساعة، ولو أنها بدت أكثر من ذلك، كون المرء، على كثرة ما حضر، يعلم ما سيقع على المسرح قبل وقوعه، وما سيُقال قبل النطق به.

* قيادة ناجحة
* إنها الدورة الجديدة لمهرجان يرتفع تدريجا وباطراد في كل مرة يقام فيها. هذا هو التطور الذي وضعه المهرجان نصب عينيه في السنوات الأخيرة، بفضل عناية ورعاية وزارة الثقافة والحكومة، كما بفضل ثبات وعزم مديره العام علي الجابري على إنجاز مهرجان ناجح، منذ أن تسلم مهام إدارته قبل 3 سنوات.
أحد العاملين الإداريين يقول لي معجبا: «علي الجابري يصر على أن يُشعر كل العاملين بأن المهرجان له، أن له فيه نصيبا. يصل باكرا كل يوم، ويبقى حتى العاشرة ليلا، وتراه في أحيان يوصل الموظفين الذين سهروا معه إلى منازلهم في آخر الليل تقديرا لهم».
علي الجابري سينمائي قبل أن يكون مدير مهرجان. كان موظـفا دؤوبا في مؤسسة «كالتشيرال فاونداشن» لسنين طويلة، في الوقت الذي كان يمثل فيه في الأفلام الإماراتية القصيرة، ويخرج بعضها أيضا.
حين ترأس الأميركي بيتر سكارلت هذا المهرجان انتخب لإدارة مهرجان رديف خاص بالسينما الإماراتية عنوانه «أفلام من الإمارات» (أنشأه مسعود أمر الله حين كان يعمل في المؤسسة ذاتها) ضمن أعمال مهرجان أبوظبي الأساسي، وفعل ذلك واكتشف صعوبة إنجاح مبادرة أريد لها أن تبقى تحت جناح المهرجان.
عندما تم صرف سكارلت من مهمة إدارة المهرجان، تم انتخاب علي الجابري رئيسا له وكان اختيارا سليما. ها هو المهرجان، ومن دون تجاهل ما أنجزه بيتر سكارلت من مهام أسهمت في وضعه على خارطة سينمائية واضحة، يتقدم كل سنة باطراد. ومع أنه من المبكر جدا الآن الحكم على هذه الدورة بكاملها، فإن الإثارة التي تبثها الأفلام المشاركة والصيت الكبير الذي سبق بعضها إلى هنا يوحيان بأن الدورة ستكون واحدة من أفضل دوراته. ما البال فيما لو كانت أفضل دوراته فعلا؟

* على الطريق
* فيلم الافتتاح «من أ إلى ب» للإماراتي علي مصطفى هو أحد تلك الأفلام التي تنطلق بصيت حسن يسبق عرضها.
في الأساس، اختيار صحيح لافتتاح الدورة كونه إنتاجا إماراتيا يتبع مخرجا سبق له أن عمل في صرح هذه السينما (عندما حقق «مدينة الحياة» الروائي الطويل الذي عرضه قبل 4 أعوام مهرجان دبي) وكشف عن رغبته في إنجاز أفلام لا تحمل خطوط العمل المحلـي إلا من حيث قدرته على تجاوز المحلية باختياراته من المواضيع والشخصيات وأماكن التصوير.
إنها وسيلة حياكة عمل يؤمن مخرجه بأنه الطريق الصحيح للعمل. يترك الشؤون المحلية، صغيرة وكبيرة، ويؤم المنهج الذي يقربه إلى السائد التجاري عالميا. لذلك، فإن هذه الصلاحية لافتتاح المهرجان صلاحية إنتاجية في الدرجة الأولى، ليس لأن منتجيه الـ3 (علي مصطفى ومحمد حفظي وبول بابودجيان آتون من 3 دول؛ الإمارات ومصر ولبنان)، بل لأنه من أماني المهرجانات العربية أن تجد من بين الأفلام المرشحــة للافتتاح إنتاجا كبيرا مخالفا للحجم المعتاد (قياسا بالإنتاجات المحلية الأخرى) خصوصا إذا ما تحلـى بحكاية متعددة الشخصيات وأماكن التصوير ومزركشة الجوانب، تنطلق، كالحال هنا، من مكان لتحط في آخر ضمن تعددية جغرافية تنص عليها الحكاية المختارة.
هذا هو حال «من أ إلى ب» على صعيد هذا الجانب، فهو فيلم إماراتي يتجاوز عناصر الإنتاج المحلية المتواضعة، وتنتقل حكايته من أبوظبي في رحلة بالسيارة إلى بيروت مرورا بالمملكة العربية السعودية والأردن وسوريا وصولا إلى لبنان. حرف «أ» في العنوان يرمز إلى مدينة أبوظبي وحرف «ب» إلى مدينة بيروت، أسباب الرحلة شخصية حين تنطلق وحين تصل، لكن ما بين فعلي الانطلاق والوصول يتعرض الفيلم لجوانب ذات طبيعة سياسية.
إنهم 3 أصدقاء (سعودي ومصري وسوري) يلتقون، في دقائق الفيلم التمهيدية، لأول مرة منذ 5 سنوات، إثر وفاة صديق رابع لهم. السعودي شاب يعيش في أبوظبي مبتعدا عن أبيه الذي يبعث له مصروفه كل شهر، ويطلبه للعودة إلى الرياض ليشاركه العمل. لكن الشاب لا يريد العيش في الرياض، إن لم يكن لشيء فبسبب حريته الشخصية التي لا يستطيع ممارستها في المملكة على النحو ذاته، أو كما يقول لوالده المأزوم في أحد المشاهد: «يوم اتصلت بي كانت في شقتي فتاة».
المصري هو شاب آخر من سكان أبوظبي لكنه يعيش تحت كنف والدته التي تخاف عليه. سيوهمها أنه سافر البحرين في رحلة عمل بينما سيشترك مع صديقيه في الرحلة إلى بيروت. أما السوري عمر، فوالده (الذي لا نراه) هو سفير سوري. وهو (الشاب) من يقترح على صديقيه القيام بهذه الرحلة من أبوظبي إلى بيروت، حيث مرقد صديقهم هادي. طبعا كان يمكن للـ3 أن يركبوا الطائرة مباشرة، لكن صاحب الفكرة يصر على أن المتعة في الوقت الذي يمكن لهؤلاء تمضيته معا، وليس في المشوار ذاته.
في اليوم المحدد ينطلق، إذن، الـ3 في سيارة حمراء صغيرة. يتركون الإمارات التي تبدو للعين المكان الأقرب إلى الكمال من أي مكان آخر سيمرون به. بوصولهم إلى الحدود السعودية تبدأ مشاكلهم مع واقع مختلف. ضابط الحدود يفتش حقيبة واحدة للمسافر السعودي وهمه لوم المسافر على استحواذ «تي شيرت» أجنبي الكلمات عوضا عن «تي شيرت» يحمل اسم النادي الأهلي.
لاحقا، حين يحط الليل بظلامه ويشيد الثلاثي خيمة صغيرة في الصحراء تقع حادثة تقودهم إلى التحقيق بعدما فسرت حركاتهم (أقبل المصري على مص دم السعودي بعدما لدغه عقرب) بأنها منافية للأخلاق.
إلى الآن يتم كل شيء في معالجة كوميدية فيها قدر غير مؤذٍ من السخرية. صحيح أن خفـة التناول ستبقى سائدة، لكن ليس هناك من طروحات مهمـة إلى الآن وحتى دخول الأردن. والد الشاب السعودي يتقصـى الحقيقة من ابنه بعدما تدخل وأخرجه من الحجز. هو عين العقل في تلك العلاقة بين الاثنين، لكن باستثناء هذا اللقاء الجاد بينهما، فإن المادة المكتوبة والمصورة فيما يخص هذا الجزء من الأحداث داخل الأراضي السعودية تبقى كوميدية أكثر منها درامية تنتمي إلى الرغبة في معالجة نتوءات الفوارق في التقاليد على نحو فكه، وستبقى كذلك، لكن مع الدخول إلى الأردن يبدأ الفيلم برصد مسائل أكثر سخونة؛ فالـ3 يلتقون سائحتين شقراوين ليكتشف اثنان منهما (السعودي والمصري) أنهما جاءتا من إسرائيل. في حين لا يعني ذلك شيئا مهمـا للشاب السعودي (فهو يطلب التعرف ولا علاقة له بالسياسة، حسب الفيلم)، إلا أن المصري يأنف عن الاختلاط مثيرا بعض الضحك في الصالة. لا يذهب الفيلم هنا إلى تتويج الاتصال بأي علاقة ولا يدعو إلى التطبيع أو عدمه، بل يكتفي بملامسة المبدأ.
هذه الملامسة لوضع سياسي (إسرائيليون في الأردن) وآخر يتعلـق بالشعور العدائي بين الجانبين العربي والإسرائيلي، هو عنوان أزمة أكبر لا يقصد الفيلم الحديث فيها بل مجرد نقرها لتظهر على الشاشة. ككل ما سبق وما سيلحق، كل عنوان لهذه الأزمة كان يمكن له أن يكون فيلما كاملا.
مع الدخول إلى سوريا، يزداد تقريب بؤرة الكاميرا من الواقع الحاصل.
في البداية، يوقف الجيش النظامي الأصدقاء الـ3؛ أحد أفراده يرفس ويعنف أحد الأصدقاء، في حين يتقرب آمر الفصيل من السوري عمر، بعدما عرف، من جواز سفره، أنه ابن سفير. تقرّبه يعفي الـ3 من الاعتقال أو التعذيب أو القتل (أو الـ3 على التوالي) لكن غاية الآمر هي أن يسعى عمر لدى أبيه لكي يخرجه من سوريا.
هناك سذاجة في تسديد هذا الطلب إذا ما فكـر به المرء من زاوية تحقيقه، لكنه ليس ساذجا كاحتمال حدوث. مهما يكن فإن حقيقة أن عمر ابن سفير ساعده ورفيقيه في البقاء سالمين ومواصلة الرحلة التي ما إن تصل إلى درعا حتى تقع في قبضة زمرة من الثوار لا يقصد الفيلم تحديدها. هذه تهدد حياتهم، لكن مرة أخرى يسهم جواز سفر عمر الدبلوماسي في نجاته وصديقيه. هذه المرة فإن السذاجة تتكرر على نحو آخر. في محاولة الفيلم الوقوف مع ثوار الربيع يعرض حقيقة ما قد يجري على أرض الواقع لمزيد من التناول السريع والساذج، واقع أن قلب الفيلم، ومعظم المشاهدين، مع هؤلاء المحاربين، ما كان يجب له أن يعني هذا التنميط الذي يسود شخصياتهم ولا حقيقة أن إخلاء سبيلهم ليس بالسهولة التي يوفرها الفيلم.
مع الوصول إلى بيروت، وتصوير أضوائها الليلية وجمالياتها الفاتنة، يعود الفيلم إلى حيث بدأ. فأبوظبي مدينة مرتاحة وتنعم بالحرية والأمان، وبيروت تسهر الليل مرتاحة ولو أنه ارتياح مصطنع وسط الأزمات. الصورتان تتلازمان في حين تبقى الصور الأخرى التي تؤلـف الطريق من «أ» إلى «ب» نافرة. وهي بالطبع تبدأ ضاحكة، تعبس قليلا ثم تعبس أكثر في الداخل السوري، لكنها لا تتخلى عن خفـة تناولها المطلقة.
لقطات المخرج علي مصطفى طويلة غالبا. في معظم المرات التي تكون فيها قريبة أو متوسـطة، فإن الشخص الواحد غالبا ما يحتل ثلث «الكادر» إلى اليسار ليبقى ثلثاه على اليمين شاغرا، مما يتيح للمخرج استكمال منظر أو إضافة صورة أخرى على الصورة الماثلة في فذلكة تقنية. لكن مشاهد الفيلم كلـها مصورة، وممنتجة، على نحو يعكس أن اهتمام المخرج هو توالي المشاهد تبعا لتوالي الحكاية ولتأمين سرد مستمر على الطريقة المنتشرة في كل فيلم جماهيري التوجه. ليس هناك من لقطات تنتمي إلى هم فني أو ذاتي التأطير، أسلوبي الغاية.
هذا الفيلم بكل تأكيد ليس مصنوعا لغاية فنية، تماما كما كان حال فيلم المخرج السابق، بل تنفيذا لسيناريو مثير للاهتمام كحكاية، وكعمل متوسـط المسافة، في أفضل الحالات، بين النزعة الكوميدية والغاية التعليقية المتسربة في طروحاته.
يتمنـى المرء لو أن الفيلم كان كوميديا كاملا حتى السوريالية، لأن الأوضاع في ذاتها كذلك، أو جادا، لأن هذه الأوضاع من السخونة والألم ما كان سيمنح هذه الجدية كثيرا من الوقود الإنساني المفقود. كما الحال الماثل، فإن من «أ» إلى «ب» هو رحلة فيلم بين نقطتين غير كافيتين لإشباع نهم المشاهد نحو ما هو أثرى.