بواعث الهجرة في الأدب العراقي وأسبابها

رواية «تحت سماء داكنة» لجهاد مجيد نموذجاً

جهاد مجيد
جهاد مجيد
TT

بواعث الهجرة في الأدب العراقي وأسبابها

جهاد مجيد
جهاد مجيد

نستطيع القول إنّ الرواية الواقعية هيمنت على الواقع الأدبي في حقبة السبعينات، وأخذت حيّزاً مرموقاً على مستوى النتاج الأدبي والنقدي.
ويعد الكاتب الروائي جهاد مجيد من الذين استهواهم منهج التجريب فبرع فيه، وأجاد كما في رواية «تحت سماء داكنة» على سبيل المثال.
ولأننا بصدد دراسة بواعث الهجرة وأسبابها والظروف التي دفعت المثقفين والمفكرين ومعتنقي الفكر الحر خاصة إلى هجرة أوطانهم، فنجد أن الأسباب تتنوع بتنوع الزمان والمكان، وإذا كنا نتحدث عن الحالة العراقية فإنّ فترة الستينات والسبعينات وما تلاها من أحداث وأنماط حكم سياسية واجتماعية أجبرت الكثيرين على الهجرة.
ويمكن القول إنّ الأسباب السياسية احتلت الصدارة في مسببات الهجرة، إذ أدى التفرّد بالسلطة، والحكم الديكتاتوري، وأساليب العنف إلى هجرات متنوعة في أزمنة وأماكن مختلفة ولكل منها قصة ورواية.
بينما نجد أن الأسباب تغيرت كما تغيّرت الأماكن التي هاجر ونزح ولجأ لها الناس، ففي القرن الحادي والعشرين وفي العقدين الأوليين منه نجد أن سبب الهجرة الرئيس هو ما سمي بحرب الخليج الثانية والثالثة التي أدت إلى احتلال العراق من قبل الغزو الأميركي عام 2003 وكان من نتائجها هجرة مئات الآلاف بل الملايين بسبب أعمال الحرب وأعمال العنف التي تلت الحرب.
الألفاظ ودلالاتها في الرواية
لو تأملنا في رواية «تحت سماء داكنة» نجد أنّ الإيحاءات التي رسمها المبدع ركّزت على الجوانب القاتمة بدءاً من العنوان (تحت سماء داكنة) الذي يرسم صورة للقارئ للولوج إلى العمل والدخول إليه بوصفه بنية استهلالية، إذ إنّ العنوان يمنح المكان والمكين موضعاً تحتياً، كما أنّ إضافة صفة «داكنة» إلى السماء يعطي صورة قاتمة لما يجول في النفس إذ إنّ الدُّكنة توحي بحالة اليأس والحزن التي تملكت حياة المُبدع. والأصل أنّ السماء ولونها وانفتاحها على الأفق يعطي مساحة للرفعة والسمو، إلا أنّ الأجواء التي خيّمت على نفس الكاتب وما هدف إليه عبّر عنها بهذا الرمز السماوي.
من خلال استعراض الرواية نجد أنّ الروائي جهاد مجيد انتقى معجمه بعناية فائقة، ولانتقاء هذه الألفاظ دلالات كامنة لم يفسّرها الروائي، تاركاً المجال للقارئ كي يفسّرها بنفسه ويستجلي المغزى الكامن فيها. وقد برع في ذلك حينما رمز إلى قوى الحزب الحاكم وسجونه بـ«المصيدة»، وحينما وصف أجهزة النظام بـ«الجلادين»، وهو وصف ينم عن براعة بالغة فالجلاد لا يعي ما يفعل وإنما ينفذ أوامر الحاكم والسلطة ولا يهمه مَن يجلد ولماذا يجلده!
وباستعراض الرواية نجد أن الروائي استعار من معجمه اللغوي الألفاظ التي تصف النظام ورجاله وأجهزته ووسائله في التعذيب والاعتقال، وانتزاع الاعترافات، فهو يصفهم بالقتلة عندما يتحدث مع نفسه «مونولوج داخلي» في مطلع الرواية؛ «سيستقبل صدري الرصاص وصوتي يهدر بهتاف يغيض القتلة...»!، ويصور لنا بطل الرواية (سعدي) حالة فريدة من الصمود عندما يقول محدثاً نفسه، ولا يخفى أنّ حديث النفس يكون صادقاً وعفوياً؛ «قد ينهار جسدي ولكن هيهات أن ينالوا من قناعاتي»، فهنا البطل سعدي لا يخشى وسائل السلطة وإنما يخشى انهيار الجسد. ويحسن أن نشير إلى أنّ لفظة «انهار» واشتقاقاتها تكرر كثيراً في الرواية، ذلك أنّ الكثيرين انهاروا تحت وسائل التعذيب الرهيبة التي استخدمها رجال الأمن في تعذيب الرافضين للمساومة والاستسلام للحزب الحاكم ونظامه، فكلمة «انهار» في المعجم تدل دلالة عميقة على السقوط والخَوَر والضعُف.
ولم يترك (سعدي) فرصة إلا وبيّن حال السلطة الحاكمة التي تطارده ورفاقه واصفاً وسائلهم بالوحشية، بل إنه يصفهم بالحيوانات الهائجة، «إنهم حيوانات هائجة تنطح من تراه أمامها ولا تلتفت لأحد»، والعلاقة الدلالية العميقة بين هذا الوصف لأجهزة النظام بأنها حيوانات هائجة، فالهيجان يطلق على حالة من الاضطراب التي تكتنف الحيوانات الذكور وفي هذا الوصف الدقيق علاقة بين ما يقوم به النظام الحاكم ضد سعدي ورفاقه.
إنّ لمصطلح «الهروب» دلالة عظيمة الأثر، فهي تُنبئ عن معنى انتفاء الأمن ومحاولة اللوذ إلى ناحية آمنة، قد تكون بقصد العمل أو حفظ الحياة أو حفظ الكرامة والعيش تحت مظلّة المساواة والعدل وغيرها من الدوافع، ولم يفصح الكاتب على لسان بطل الرواية سعدي عن رغبته في الهرب إلا بعد أن وصل لدرجة الاستحالة بالبقاء في هذا الجو الذي يخيم عليه الخوف والرعب، فلم يفصح عن هذه الرغبة إلا بعد أن خشي الانهيار بسبب التعذيب الذي كان يرى رفاقه يتعرضون له وبعضهم انهار، وحيث لم يعد الاختفاء ممكناً فقد بثّ النظام العيون في كل مكان، ولم يشأ أن يقترض الروائي لفظة الهرب أولاً فجاء بلفظة السفر مرادفاً للفظة الهرب عندما جاءت التعليمات له ولرفاقه «من يستطع السفر فليسافر».
بعد ذلك يبدأ سعدي بالتفكير جدياً بالهرب من البلاد ونجد أن لفظة «الهروب» ومشتقاتها أخذت حيّزاً كبيراً في الرواية وفي حديث سعدي، وإذا كان كلمة الهروب ترادفها كلمة الفرار إلا أن كلمة الهروب بوقعها الصوتي تدل على حالة فزع شديد، ومن خلال حديث سعدي مع زوجته هدى يشي بما يمكن أن يكون عليه الحال عندما يقول: «سنعيش كحيوانات مذعورة». ولك أن تتخيل لفظة «مذعورة» ودلالاتها في هذا السياق. لكن سعدي متشبث بالبقاء وربما أراد أن يصور حالة من حالات الصمود فهو لم يرد الهرب ولكنه فضل الاختفاء، يظهر ذلك بجلاء من خلال حديثه مع نفسه: «سأختفي في أي بيت، في أي مكان، في كشك، في كهف، في حقل ولن أستسلم لهم...، لكن الخوف يسيطر على سعدي ولم يستطع إخفاء هذا الخوف رغم محاولات عدم إظهاره، فنجده يصف بيته وصفاً ينبئ عن حالة الخوف تلك التي تتملكه، «من ثقل اللحظات في هذا الحيز المظلم الموحش، في هذا الكهف المخيف الذي تتربص به الوحوش. فالبيت هو المسكن الذي يشعر فيها الناس بالأمان إلا أنه لم يعد كذلك بالنسبة لسعدي، بل أصبح كهفاً مخيفاً مرعباً تراقبه الوحوش لكي تنقضّ على سعدي.
كما نلحظ في ثنايا الرواية وصف توغّل السلطة في الظّلم واستخدام الوسائل البشعة والمكر من خلال مشاهد تعذيب رفاقه في البصرة التي يصفها أخوه «ستار»: «المدينة تبكي أبناءها...حلقوا رأس جليل وأركبوه على حمار وطافوا به شوارع البصرة... وعدنان حين رفض الاستسلام أذاقوه ألوان العذاب، ولما شارف على الموت ألقوه في الصحراء..... وتنبئ هذه الدلالة والصورة المتراكبة في بكاء المدينة أبناءها بحقيقة ما رمز إليه الروائي من ألوان القهر والتعذيب.
ويلاحظُ في لغة الكاتب أنّها لغة واضحة في تركيبها، إذ يعتمد الجمل القصيرة المتّسمة بقلّة أدوات الرّبط، مما سهّل على المتلقّي الفهم وسرعة الاسترسال بالقراءة دون توعُّرٍ أو حاجة إلى إعادة القراءة بُغية الفهم.
لا شك أنّنا من خلال هذه الألفاظ ودلالاتها نستطيع أن نتبين حقيقة ما يشعر به هؤلاء المثقفون والأدباء في مثل هذه الظروف والأحوال، فتنساب المعاني لتعبّر بجلاء عما كان يجري آنذاك، وهو يبرز حالة فنية نادرة يعطي من خلالها الأدب صورة الأحداث التي جرت خاصة أنّ المبدع عاش لحظاتها.
ولو غُصنا باستعراض الألفاظ يتجلّى لنا ذلك الكم الهائل من المشاعر الممزوجة بالخوف والحذر والترقّب من المجهول: «إنك لترتعدُ عند ذكر ما حلّ ببعض رفاقك الذين وقعوا في المَصيدة» فلو أمعننا النظرَ في لفظة «ارتعد» لوجدنا فيها كمّاً هائلاً من المعاني التي توضّح حجم الخوف والوجل، وتوقّعَ المصيرِ بعد السقوط في أيدي جلاديه المتربصين به وبرفاقه، فلفظة «ارتعد» تطلق على مَن أَخذته رِعدة من بَرْد أو حُمَّى أَو خَوْفٍ أَو انْفِعال، فهو يرسم صورة قاتمة لما يمكن أن يحدث له حينما تمر الخواطر متذكّرا أصدقاءه وزملاءه الذين سقطوا في المصيدة! ولفظة «المصيدة» كما يصف الروائي رفاقه الذين سقطوا فيها وكأن تلك الأماكن وذلك المصير ما هي إلا مصائد وشراك تُسقِط في حبائلها المعارضين للسلطة ورموزِها.

- أكاديمي، جامعة إسطنبول. والمنشور مقتطفات من ورقة قدمت في مؤتمر عن الأدب العراقي.



احتفاء مصري بالذكرى الـ113 لميلاد «أديب نوبل» نجيب محفوظ

فعاليات متعددة في الاحتفال بذكرى ميلاد محفوظ (متحف محفوظ على فيسبوك)
فعاليات متعددة في الاحتفال بذكرى ميلاد محفوظ (متحف محفوظ على فيسبوك)
TT

احتفاء مصري بالذكرى الـ113 لميلاد «أديب نوبل» نجيب محفوظ

فعاليات متعددة في الاحتفال بذكرى ميلاد محفوظ (متحف محفوظ على فيسبوك)
فعاليات متعددة في الاحتفال بذكرى ميلاد محفوظ (متحف محفوظ على فيسبوك)

احتفت مصر بالذكرى الـ113 لميلاد «أديب نوبل» نجيب محفوظ، عبر فعاليات متنوعة في متحفه وسط القاهرة التاريخية، تضمّنت ندوات وقراءات في أعماله وسيرتيه الأدبية والذاتية، واستعادة لأعماله الروائية وأصدائها في السينما والدراما.

وأعلن «متحف نجيب محفوظ» التابع لصندوق التنمية الثقافية في وزارة الثقافة، أن الاحتفال بـ«أديب نوبل» يتضمّن ندوة عن إبداعاته ومسيرته، يُشارك فيها النّقاد، إبراهيم عبد العزيز، ومحمد الشاذلي، والدكتور محمود الشنواني، والدكتور تامر فايز، ويديرها الدكتور مصطفى القزاز. بالإضافة إلى افتتاح معرض كاريكاتير عن نجيب محفوظ، وشاعر الهند الشهير رابندراناث طاغور، ومعرض لبيع كتب نجيب محفوظ.

وأوضح الكاتب الصحافي والناقد محمد الشاذلي أن «الاحتفالية التي أقامها (متحف نجيب محفوظ) في ذكرى ميلاده الـ113 كانت ممتازة، وحضرها عددٌ كبير من المهتمين بأدبه، وضمّت كثيراً من المحاور المهمة، وكان التركيز فيها على السيرة الذاتية لنجيب محفوظ».

«متحف نجيب محفوظ» احتفل بذكرى ميلاده (صفحة المتحف على فيسبوك)

ولد نجيب محفوظ في حيّ الجمالية بالقاهرة التاريخية في 11 ديسمبر (كانون الأول) عام 1911، وقدم عشرات الأعمال الروائية والقصصية، بالإضافة إلى سيناريوهات للسينما، وحصل على جوائز عدة أهمها جائزة «نوبل في الأدب» عام 1988، ورحل عن عالمنا عام 2006.

حضر الاحتفالية بعض ممن كتبوا عن سيرة نجيب محفوظ، من بينهم إبراهيم عبد العزيز، الذي له أكثر من كتاب عن «أديب نوبل»، بالإضافة إلى الطبيب الدكتور محمود الشنواني الذي رافق الأديب لمدة 30 سنة تقريباً، وفق الشاذلي، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «تَحدّث كلُّ شخص عن الكتاب الذي أصدره عن نجيب محفوظ. وإبراهيم عبد العزيز كان مرافقاً له في ندواته، وتحدّث عن كتاب (أنا نجيب محفوظ)، الذي تضمّن ما قاله محفوظ عن نفسه، بيد أني أرى أن كتابه الأهم هو (ليالي نجيب محفوظ في شيبرد) لأنه كان عبارة عن كناسة الدكان، فقد رصد السنوات الأخيرة لنجيب محفوظ».

وعن كتاب الشاذلي حول نجيب محفوظ يقول: «تعرّفت عليه بصفتي صحافياً منذ بداية الثمانينات، وقد تحدّثت عن موضوعين تناولتهما في كتابي عنه (أيام مع نجيب محفوظ ذكريات وحوارات)، وهو ما أُشيع عن هجومه على العهد الناصري، خصوصاً في روايته (الكرنك)، وهذا ليس صحيحاً، وفي الحقيقة كان محفوظ يُركّز على حقوق الإنسان والحريات أكثر من أي شيء آخر، وقد أنصف عبد الناصر في كثيرٍ من كتاباته، خصوصاً شهاداته عن هذا العصر، والنقطة الثانية ما أُشيع حول الاتهامات التي وجّهها بعضهم لنجيب محفوظ بحصوله على (نوبل) بدعم إسرائيل، وهذا ليس صحيحاً بالمرّة، وكانت تُهمة جاهزة لمن أراد إهانة الجائزة أو النّيل ممّن حصل عليها».

وأشار الشاذلي إلى أن محفوظ كان له رأيُّ مهم في السينما، وقد ترأس مؤسسة السينما في إحدى الفترات، وكان يرى أنه أصبح كاتباً شعبياً ليس بفضل القراءات ولكن بفضل السينما، فكان يحترم كلّ ما له علاقة بهذه المهنة، ويعدّها مجاورة للأدب.

محفوظ وطاغور في معرض كاريكاتير (منسق المعرض)

وتحوّلت روايات نجيب محفوظ إلى أعمال سينمائية ودرامية، من بينها أفلام «بداية ونهاية»، و«الكرنك»، و«ميرامار»، و«ثرثرة فوق النيل»، وثلاثية «بين القصرين»، و«قصر الشوق»، و«السكرية»، وأيضاً «زقاق المدق»، و«اللص والكلاب»، بالإضافة إلى مسلسلات «الحرافيش - السيرة العاشورية»، و«أفراح القبة»، و«حديث الصباح والمساء».

وضمّ المعرض الذي أقيم بالتعاون بين سفارة الهند في القاهرة، ومتحف الكاريكاتير بالفيوم، ومنصة «إيجيبت كارتون»، 38 لوحة لفنانين من 12 دولة من بينها مصر والهند والسعودية وصربيا والصين ورومانيا وروسيا وفنزويلا.

وأشار الفنان فوزي مرسي، أمين عام «الجمعية المصرية للكاريكاتير» ومنسِّق المعرض إلى أن هذا المعرض اقتُرح ليُعرض في الاحتفال بذكرى طاغور في مايو (أيار) الماضي، إذ عُرض في المركز الثقافي الهندي، وكذلك في يوم الاحتفال بعيد ميلاد «أديب نوبل» المصري نجيب محفوظ.

وقال مرسي لـ«الشرق الأوسط»: «يُعدّ المعرض جزءاً من الاحتفالية التي نظّمتها وزارة الثقافة (لأديب نوبل) الكبير، واهتمّ معظم الفنانين برسم البورتريه بشكلٍ تخيُّلي، في محاولة لعقد الصلة بين طاغور ومحفوظ».

فنانون من 12 دولة رسموا الأديبين طاغور ومحفوظ (منسق المعرض)

وفي السياق، أعلنت «دار المعارف» عن إصدار كتابٍ جديدٍ عن نجيب محفوظ في الذكرى الـ113 لميلاده، وكتب إيهاب الملاح، المُشرف العام على النشر والمحتوى في «دار المعارف» على صفحته بـ«فيسبوك»: «في عيد ميلاد الأستاذ نُقدّم هدية للقراء ولكل محبي نجيب محفوظ وهي عبارة عن كتاب (سردية نجيب محفوظ) للناقد الدكتور محمد بدوي».