الأبعاد الجيوسياسية للصراع على الغاز والنفط في شرق المتوسط

وليد خدوري
وليد خدوري
TT

الأبعاد الجيوسياسية للصراع على الغاز والنفط في شرق المتوسط

وليد خدوري
وليد خدوري

تحول الصراع على ثروات النفط والغاز في البحر المتوسط إلى مادة ملتهبة، تزيد من أسباب النزاعات والخلافات على المصالح. من الصراع المائي والنفطي قديم العهد بين لبنان وإسرائيل إلى الصراع المنفجر حديثاً بين تركيا من جانب، وكل من اليونان وجمهورية قبرص من الجانب الآخر، إذ تجاهلت تركيا، في طريقها للتوسع السياسي للوصول إلى الشواطئ الليبية، أن شواطئ جزيرة كريت هي أراضٍ يونانية، وصولاً إلى الصراع الثالث، حديث العهد، القائم بين تركيا ومصر؛ الدولتين الكبريين في منطقة شرق المتوسط، نظراً إلى ارتفاع عدد السكان في كل منهما من جهة، وإلى تقدمهما الصناعي من جهة أخرى، ما يتطلب استهلاكاً عالياً من الطاقة لتغذية هذه الصناعات.

تشكل تركيا نقطة عبور مهمة لنفط وغاز روسيا ودول بحر قزوين إلى أوروبا. إلا أنها تفتقد الاحتياطات البترولية وهي بحاجة إلى زيادة وارداتها السنوية البترولية، نظراً لضخامة وتطور صناعاتها. ولهذا انتهز الرئيس التركي رجب طيب إردوغان فرصة التنقيب عن النفط في شرق المتوسط للمشاركة في ثروات المنطقة.
وهكذا دخول الجانب التركي على خط المواجهة في الإقليم من البوابة الليبية سبب مباشر في تأجيج الصراع، ودخوله مرحلة جديدة على المستوى السياسي والعسكري معاً، ما دفع دول المنطقة إلى إنشاء «منتدى غاز المتوسط» (مقره القاهرة)، ويضم مصر واليونان وقبرص وإيطاليا والأردن وفلسطين وإسرائيل، فيما استبعدت منه تركيا لحسابات سياسية واستراتيجية.
هنا عرض لجوانب الصراع على الثروات بين الدول المحاذية للبحر المتوسط، شارك فيه الخبير الاقتصادي وليد خدوري والدكتور طارق فهمي المتخصص في العلاقات الدولية.

شاركت العوامل الاقتصادية والجيوسياسية في اكتشاف البترول (النفط والغاز) بمعظم الأقطار المنتجة. ازداد الصراع الجيوسياسي في بعض الأحيان ليشمل منافسات حادة بين الشركات الدولية، اشتدت النزاعات أحياناً للحصول على شروط مفضلة لتتطور وتشمل نزاعاً بين دول الشركات المتنافسة (الدول الصناعية الكبرى).
امتدّت أوجه النزاعات هذه طوال القرن العشرين لتبرز مؤخراً في الصناعة الغازية الفتية في شرق البحر الأبيض المتوسط؛ إذ شجع اكتشاف الغاز في المياه المصرية شمال ميناءي الإسكندرية وبورسعيد، الدول والمناطق المطلّة على شرق المتوسط (فلسطين، وإسرائيل، وقبرص، ولبنان، وسوريا، وتركيا) التي تشكو من شح مصادر الثروة البترولية في أراضيها، على محاولة الاستفادة من الاكتشافات المصرية لبدء المسوحات الزلزالية في مناطقها الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط، للتعرف على جيولوجية مناطقها البحرية، وإمكانية اكتشاف حقول بترولية فيها.
الصراع العربي ـ الإسرائيلي

شكّل الصراع العربي - الإسرائيلي أول الخلافات الجيوسياسية لغاز شرق المتوسط، حين منحت السلطة الفلسطينية في 1999 عقداً للاكتشاف والإنتاج في بحر غزة لشركة «بريتش غاز» وشركائها، شركة اتحاد المقاولين المًوجودة في أثينا، وذات الملكية الفلسطينية، وصندوق الاستثمار الفلسطيني التابع للسلطة الوطنية الفلسطينية. اكتشفت «بريتش غاز» في 2000 حقل «غزة مارين» باحتياطي غازي محدود بنحو 1.4 تريليون قدم مكعب. ورغم مرور عقدين من الزمن، لا يزال هذا الحقل الفلسطيني البحري دون تطوير، وذلك بسبب رفض إسرائيل المستمر لتطويره. وقد اشترت مؤخراً شركة «رويال دتش شل» أصول شركة «بريتش غاز»، ومن ضمنها حقل «غزة مارين». لكن ارتأت «شل» عدم تطوير الحقل والإنتاج منه، وبادرت بعرض حصتها في «غزة مارين» للبيع. ويعمل الشريكان العربيان، شركة اتحاد المقاولين وصندوق الاستثمار الفلسطيني، على إيجاد شركة نفطية للعمل معهما في الحقل، وإيجاد الطرق المناسبة لاستغلال ثروته الغازية.
احتكرت إسرائيل تزويد الضفة الغربية بالوقود وبالأسعار وبالكميات التي تحددها. كما هيمنت إسرائيل على تزويد غزة بالوقود، مع إتاحة نافذة صغيرة لمصر للمساهمة أيضاً.
شكّل إيقاف تطوير الحقل وقطع الإمدادات عن الضفة وغزة في الوقت الذي ترتئيه إسرائيل أول نزاع بترولي في شرق المتوسط.
عدم رسم الحدود البحرية قبل الاهتمام بالاكتشافات البترولية

أما النزاع الثاني، فهو يشمل مشكلة عدم رسم الحدود البحرية للمناطق الاقتصادية الخالصة ما بين الدول المجاورة قبل الاهتمام بالثروة البترولية، لاحتمال تداخل هذه المناطق القريبة من بعضها. وبالإضافة إلى الصراع العربي - الإسرائيلي فقد توصل لبنان وقبرص في 2007 إلى رسم الخط الوسطي بين البلدين. لكن لم يتم تحديد النقطة الجنوبية أو الشمالية لهذا الخط. إذ كان يتطلب تحديد النقطة الجنوبية عقد اجتماع ثلاثي بين قبرص ولبنان وإسرائيل. لكن، بما أن لبنان في حال حرب مع إسرائيل، فلا يمكن عقد اجتماع كهذا. أما بالنسبة للنقطة الشمالية، فترفض سوريا التفاوض لرسم الحدود البحرية مع لبنان، ومن ثم تحديد النقطة الشمالية بين لبنان وسوريا وقبرص.
اضطر لبنان إلى رسم هاتين النقطتين على بعد قليل من النقاط المفروضة للمضي قدماً في رسم الخط الوسطي مع قبرص. وأودع مذكرة دبلوماسية وخرائط لحدوده البحرية مع الأمين العام للأمم المتحدة بغض النظر عن النقطتين الشمالية والجنوبية.
من جانبها، أكدت الاتفاقية البحرية الحدودية بين قبرص ولبنان عدم قيام أي من الطرفين بالاتفاق مع طرف ثالث دون العودة إلى الطرف الثاني للحصول على موافقته المسبقة. كان هذا الحل هو الخيار الوحيد المتوفر للبنان في رسم الخط الوسطي مع قبرص. لكن بادرت نيقوسيا لاحقاً إلى الاتفاق مع إسرائيل ثنائياً، والإعلان عن رسم حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة مع إسرائيل دون إعلام الجانب اللبناني، الأمر الذي أدى إلى وضع يد إسرائيل على مناطق مهمة وموعودة بترولياً في أقصى المياه الجنوبية اللبنانية. حاولت الولايات المتحدة لعب دور الوسيط لحل الخلاف، لكن دون جدوى؛ إذ طالب المفاوض الأميركي شروطاً سياسية على لبنان تقديمها، الأمر الذي أدى إلى تعثر المفاوضات وعدم التوصل إلى نتائج إيجابية لرفض لبنان المطالب الأميركية.
من المتوقع أن تثير مشكلة وضع إسرائيل اليد على جزء مهم من المياه الجنوبية اللبنانية تحديات للشركات العاملة في الجنوب اللبناني في القريب العاجل، رغم إمكانية هذه الشركات بالتنقيب عن الغاز على بُعد عدة كيلومترات شمال المناطق المتنازع عليها.

النزاع التركي ـ المصري ومحاولات أنقرة للتوسع

الصراع الثالث، حديث العهد، يتعلق بالدولتين الأكبر في منطقة شرق المتوسط (تركيا ومصر)، نظراً إلى ارتفاع عدد السكان في كل منهما من جهة، وإلى تقدمهما الصناعي، مما يتطلب استهلاكاً عالياً من الطاقة لتغذية هذه الصناعات.
تشكل تركيا نقطة عبور مهمة جداً لنفط وغاز روسيا ودول بحر قزوين إلى أوروبا. إلا أن تركيا تفتقد الاحتياطات البترولية وهي بحاجة إلى زيادة وارداتها السنوية البترولية نظراً لضخامة وتطور صناعاتها.
تبنى الرئيس رجب طيب إردوغان سياسة ذات هدفين: التوسع في المناطق المجاورة، وتأييد الحركات الإسلامية. انتهز فرصة التنقيب البترولي في شرق المتوسط للمشاركة في ثروات المنطقة. كما يؤيد إردوغان سياسات جماعة «الإخوان المسلمين»، لكن رغم ذلك يُسمح بالتصدير عبر ميناء جيهان التركي إلى ميناء عسقلان الإسرائيلي مئات الآلاف من براميل النفط يومياً من نفط إقليم كردستان العراق إلى إسرائيل.
في الوقت ذاته، يتطلب أن تبذل مصر جهوداً مستمرة للعثور على احتياطات بترولية جديدة لتلبية ازدياد الاستهلاك السنوي للنفط، في حين أن احتياطاتها النفطية لا تزال محدودة نسبياً. وكذلك العمل السنوي لزيادة احتياطات الغاز، وهي وإن ازدادت مؤخرا، خصوصاً بعد اكتشاف شركة «إيني» لحقل «ظهر» العملاق في 2015، الذي يُعتبر أضخم حقل غاز في البحر المتوسط، فإن زيادة الاستهلاك الداخلي، واعتماد نحو 85 في المائة من توليد الطاقة الكهربائية المصرية حالياً على الغاز، بالإضافة إلى محاولة مصر الاستفادة القصوى من منشآتها الغازية من أنابيب الغاز الدولية ومحطات تسييل الغاز لأجل التصدير، تدفعها إلى زيادة الاكتشافات للعثور على حقول جديدة سنويّاً، منها المحاولات الحالية للاستكشاف والإنتاج من المناطق الغربية في المتوسط القريبة من المياه الليبية، التي ستتأثر سلباً بالاتفاق الحدودي التركي - الليبي.
تُعتبر مصر دولة نفطية وغازية في الوقت ذاته، مما يجعلها في وضع أفضل من تركيا التي تفتقد الاحتياطات البترولية، إلا أن مشكلة مصر أنها تعاني عجزاً في الإنتاج النفطي مقارنة باستهلاكها الداخلي. وبالنسبة للغاز الطبيعي، فقد تم تزويد معظم المحطات الكهربائية بالغاز، مما يعني استهلاكاً داخلياً عالياً ومتزايداً سنوياً للغاز، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة اكتشاف حقول غاز جديدة لتعويض ما يتم استهلاكه، ولتلبية زيادة الاستهلاك السنوي.

تركيا وقبرص
انتهزت أنقرة الاكتشافات الغازية في شرق المتوسط لمحاولة بسط نفوذها. وكانت الخطوة الأولى الضغوط والتهديدات لمحاولات الاكتشاف القبرصية. ادعت أنقرة أن المنطقة الاقتصادية الخالصة القبرصية تابعة للمياه التركية. وأرسلت طائراتها الحربية لتحلق على مستوى منخفض فوق الحفارات العاملة في المياه القبرصية، إلا أن قبرص، العضو في الاتحاد الأوروبي، استمرت في استكشافاتها، رغم التهديدات التركية. كما رفضت نيقوسيا، ومعها الشركات النفطية الدولية، تهديداً تركياً ثانياً، وهو مقاطعة أي شركة تعمل بإذن من السلطات القبرصية. وبادرت أنقرة فعلاً بتهديد شركة «إيني» بإيقاف أعمالها في تركيا، لكن رفض الاتحاد الأوروبي هذا التهديد، ومعه شركة «إيني». ثم تحدت تركيا الاتفاقات الحدودية البحرية بين مصر وجمهورية قبرص، الأمر الذي استدعى من وزارة الخارجية المصرية إصدار مذكرة شديدة اللهجة تهدد بردود فعل قوية، في حال تدخل تركيا بالاتفاق الحدودي القبرصي - المصري.
بادرت مصر في منتصف يناير (كانون الثاني) 2019 إلى عقد اجتماع في القاهرة لوزراء الطاقة في الدول المنتجة والمستهلكة والعابرة في شرق المتوسط (مصر، وفلسطين، والأردن، وإسرائيل، وقبرص، واليونان، وإيطاليا) لتأسيس منتدى غاز شرق المتوسط. ساندت الولايات المتحدة تأسيس المنتدى الذي يُلاحَظ عدم دعوة تركيا وروسيا للمشاركة فيه.
أبدى المنتدى ترحيبه بمشروعين قيد التنفيذ. الأول التصدير المشترك للغاز المسال المصري والقبرصي والإسرائيلي من محطات تسييل الغاز المصرية. وهذا التصدير المشترك يعمل لمصلحة الدول الثلاث، حيث إن الكميات المكتشفة من الغاز في قبرص وإسرائيل لا تزال محدودة، ولا تُعتبر اقتصادية بما فيه الكفاية للتصدير. إلا أنه بالتصدير المشترك للغاز المسال يمكن تلبية الإمدادات لسوق كبيرة، كالسوق الأوروبية.
كما رحّب المنتدى في الوقت ذاته بتشييد خط أنابيب بحري للغاز يبدأ من حيفا، فقبرص، واليونان، وحتى إيطاليا مستقبلاً. ويتم من خلال هذا المشروع دمج الغاز الإسرائيلي بالقبرصي وتصديرهما في مشروع منفصل إلى السوق الأوروبية. ودعمت السوق الأوروبية دراسات المشروع الذي تبلغ تكلفته نحو سبعة مليارات دولار. ووقّع رؤساء الدول المعنية مؤخراً على اتفاقية المشروع. إلا أن هناك ثغرة كبيرة؛ إذ لم يتم حتى الآن توقيع عقد بيع وشراء مع أي شركة أوروبية لشراء الغاز. وهذا يثير الاستغراب، إذ في العادة يتم الحصول على عقد بيع وشراء للغاز من قبل الشركة المستهلكة قبل تشييد مصانع التسييل أو أنابيب التصدير التي تكلف عادة مليارات الدولارات.
من الواضح أن المنتدى أرسى خريطة طريق لصادرات غاز شرق المتوسط تستبعد منها تركيا كما أرسى دور مصر المركزي لصناعة غاز شرق المتوسط. ومما وفر لمصر هذا الدور الريادي هو الاكتشافات الضخمة للغاز في مياهها.
ردَّت تركيا على هذه المشروعات بزيادة ضغوطها حول شرعية الدول المجاورة في التنقيب عن الغاز في «مياهها»، ثم أعلنت عن رسم حدود بحرية جديدة غير مسبوقة بينها وبين ليبيا. استنكرت اليونان التي تمر هذه الحدود بالقرب من مياهها المحاذية لجزيرة كريت اليونانية، وتنتهي في الغرب من ليبيا، ليس بعيداً عن الحدود المصرية، حيث تعمل مصر حالياً على اكتشاف البترول في المياه المجاورة. استنكرت مصر الإعلان عن الحدود البحرية الجديدة ما بين تركيا وليبيا، رغم أن الدولتين غير متجاورتين.
أثار الإعلان المشترك لغطاً واسعاً في ليبيا نفسها نظراً للخلافات بين طرابلس وبنغازي، حول صلاحية رئيس الحكومة للتوقيع على اتفاقية دولية دون مشاركة جميع أعضاء مجلس الوزراء على التوقيع أيضاً. واستنكر وعارض رئيس مجلس النواب الاتفاق الذي ينص على إمكانية إرسال تركيا مستشارين عسكريين إلى ليبيا نظراً إلى خطورة الوضع الأمني المضطرب في البلاد. ولا يُستبعد حصول اشتباكات بين القوات المصرية والتركية مستقبلاً؛ إذ أعلنت مصر أن الوجود العسكري التركي في ليبيا يشكّل خطراً على أمنها القومي.

مخططات إسرائيل لتصدير النفط والغاز
وجهت إسرائيل أنظارها منذ بدء اكتشافاتها الغازية في العقد الأول من الألفية الثانية إلى استغلال الغاز داخلياً، ومن ثم التوجه نحو التصدير. وتم الاتفاق على الحفاظ على 60 في المائة من الاحتياطي الغازي للسوق المحلية و40 في المائة للتصدير. وبدأت إسرائيل في الاعتماد على الغاز لتغذية محطات الكهرباء.
أما بالنسبة للتصدير، فكان الاهتمام الأولي لإسرائيل التصدير للسوق الأوروبية الضخمة والقريبة نسبياً، مقارنة بالسوق الآسيوية. فاتجهت الأنظار في السنوات الأولى بعد الاكتشافات في حقلي «تامار» و«لفيتان» للتصدير إلى أوروبا. ونظراً إلى التكاليف الباهظة لتطوير الحقلين (نحو 20 مليار دولار)، وجهت إسرائيل اهتمامها للتصدير إلى الدول العربية المجاورة التي عقدت معاهدات سلام معها. وحاز الأمر على اهتمام الشركات المنتجة أيضاً نظراً لقصر مسافة الأنابيب، ومن ثم تقليص تكاليف التشييد. لذا اتجهت إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، إلى تبني مشروعات تصديرية للأردن ومصر، وهناك مفاوضات لتصدير الغاز من حقل «غزة مارين» للضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أن هذه المفاوضات لا تزال في مراحلها الأولية.
* كاتب عراقي متخصص
في شؤون الطاقة



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».