مناخ المطاعم في نيويورك هو الأكثر تنافسية، ليس فقط لتنوعها الذي يضم تقريباً كل المذاقات العالمية، وإنما أيضاً لكثرتها. ويضم مشهد مطاعم نيويورك تعددية غير متاحة في أي موقع آخر داخل أميركا، من مطاعم صينية ويابانية وهندية وإيطالية إلى وجبات أميركية سريعة ومطاعم شرق أوسطية يتخفى بعضها تحت اسم مطاعم البحر المتوسط.
ونظراً لوجود جالية يهودية كبيرة في نيويورك، تنتشر أيضاً مطاعم تخدم هذه الجالية وتوفر لهم وجبات «كوشر». ولا يخلو المشهد كذلك من مطاعم عربية ولبنانية توفر الوجبات «الحلال» لزبائنها.
ولكن الجديد في مشهد مطاعم نيويورك هو مطعم فلسطيني جديد يفتخر بالهوية الفلسطينية، ويقدم أطباقاً من المطبخ الفلسطيني. والمثير في المطعم أنه من الصعب الحجز فيه لأنه يبدو محجوزاً بالكامل كل ليلة. المطعم اسمه «كانون»، وهو اسم الموقد الفلسطيني التقليدي، ويملكه شاب فلسطيني اسمه طارق كان يعمل في الأصل محاسباً، وتحول قبل فترة إلى الاستثمار في المطاعم. ويملك طارق مطعمين آخرين في ضواحي نيويورك، ولكنهما يقدمان أكلات إيطالية تقليدية من جزيرة صقلية.
ويقع «كانون» في منطقة تشيلسي (في مانهاتن)، واعتبر البعض أنها مخاطرة أن يبدأ مطعم فلسطيني في مدينة نيويورك، نظراً لتكوينها الديموغرافي الذي قد يكون معادياً للفكرة. ولكن طارق نجح في التحدي، بل إنه غير المفاهيم السائدة عن المطاعم العربية السائدة في المدينة التي تتبع أطعمة الشوارع، ولا يقبل عليها إلا العرب، وتقدم أطعمة رخيصة.
«كانون» جاء إلى المشهد حديثاً، وسرعان ما انتشرت شهرته بصفته مطعماً فاخراً يقدم وجبات شهية. وهو يضرب الفكرة السائدة التي كانت جامعة نيويورك تحاول نشرها في بحث عن مطاعم المدينة، حيث أشار البحث إلى أن سكان المدينة لديهم استعداد لدفع أكثر من ضعف الثمن لتناول طعام يهودي في المدينة، بدلاً من الطعام العربي.
المطاعم الفلسطينية السابقة في نيويورك كانت تبدو مندسة بين المطاعم الشرق أوسطية، ولم تكن تعلن عن هويتها بصراحة، بل اكتفت بتقديم وجبات شرق أوسطية أو بحر متوسطية. وكان من النادر العثور على مطعم عربي يعلن أنه فلسطيني، إلا في أطراف المدينة ربما، مثل مطعم «تامورين» الذي يقع في الحي الشعبي بروكلين.
وفي بروكلين أيضاً اشتهر مطعم آخر، اسمه «شيفز تيبل»، يملكه فلسطيني من يافا اسمه مو عيسى، ولكنه اختار أن يقدم وجبات فرنسية ويابانية، ويتخلى عن المطبخ الفلسطيني. وهذا يعزز شجاعة طارق في اختياره تقديم الوجبات الفلسطينية في مطعمه من قلب مانهاتن. وهو لا يقدم مطعمه على أنه من النوع الفاخر، وإنما يترك نوعية الطعام تتحدث عن نفسها بصفته مطعماً يقدم نوعية شيقة من الوجبات بأسعار لا تقل عن المطاعم اليهودية المنتشرة في المدينة.
وحاول بعض الإسرائيليين التقصي عن هذا المطعم الذي يقدم نفسه بهوية غير معهودة في نيويورك، ولكن طارق شرح لهم ببساطة أن الأمر لا يتعلق بهوية أو أهداف سياسية، فهو يستقبل زبائن من جميع الجنسيات، ومن بينهم يهود وعرب، وأكد طارق أن تناول الطعام في «كانون» هو بعيد تماماً عن السياسة.
ويتجنب طارق المواجهات، خصوصاً مع الإعلام الإسرائيلي الذي يتابعه، ويقول إنه لا يتقصى كثيراً من أخبار المنطقة لأنها «توجع القلب»، على حد قوله. فالجميع يعتقد أن لديه حلولاً للصراع في فلسطين، ولكن الاستماع لهم يؤكد أن الأزمة سوف تراوح مكانها، ولذلك اختار طارق أن يركز على الطعام الذي لا يختلف عليه اثنان، ويرفض الخوض في القضايا السياسية.
ومن أسباب النجاح لمطعم مثل «كانون» أن الأميركيين بوجه عام اكتشفوا أن الأكلات العربية ليست فقط لذيذة الطعم، وإنما أيضاً صحية. والموجة السائدة في نيويورك الآن هي البحث عن الطعام الصحي. وكان افتتاح كثير من مطاعم الشرق الأوسط في المدينة وراء التعرف على وجبات عربية، وتزايد الإقبال عليها.
كما أن نيويورك الآن تعد مدينة كونية مصغرة بها كل أجناس العالم، وتربط الإنترنت بينها وبين العالم. وتعرف سكان نيويورك منذ أكثر من 3 عقود على سندويتشات الفلافل والشاورمة، ويعتبرونها المنافس الأفضل للبرغر السريع و«الهوت دوغز» التي تشتهر بهما المدينة تقليدياً.
ولكن هذه المواصفات العالمية في وجبات المدينة تقدمت خطوات أخرى في السنوات الأخيرة، كما يقول طارق، إلى درجة أن البعض يطلب الزعتر الفلسطيني من جنين وطولكرم، ويجده متاحاً في نيويورك.
ويعرف طارق أن الوجبات الفلسطينية أكثر تعقيداً من مجرد وجبات الشوارع التي يعرفها أهل نيويورك، وهي تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد لتحضيرها. وكل محتويات هذه الوجبات يجب أن تكون طازجة، كما أن اللحوم المستخدمة يجب أن تكون من أفضل النوعيات.
ولذلك يرتفع مستوى أسعار مطعم «كانون» عن أسعار المطاعم الأخرى التي تقدم الفلافل والشاورمة كوجبات يومية.
ويبلغ ثمن وجبة رئيسية ومقبلات بين 40 و50 دولاراً، وتشمل التكلفة العمل من موقع أرستقراطي مثل تشيلسي ترتفع فيه الإيجارات. ومنذ افتتاح «كانون» في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي والموقع محجوز بالكامل يومياً. ويرى طارق أن أفضل دعاية للمطعم هي شهادة زبائنه، وأنه لا يتكلف أي دعاية أو علاقات عامة خاصة بالمطعم.
ومن مزايا العمل في نيويورك أن زبائن المطاعم يريدون تجربة وجبات جديدة. ويقول طارق إن المطعم الفلسطيني يشتهر في نيويورك، بعكس لو افتتح مطعماً صينياً في قريته الفلسطينية، فهناك لن يدخل أحد إلى المطعم الصيني. في نيويورك، يبحث البعض دوماً عن مطاعم ومذاقات جديدة لتجربتها.
العناية بالتفاصيل أيضاً من أسباب نجاح المطعم الفلسطيني «كانون»، حيث يذهب طارق يومياً إلى سوق منتجات الفلاحين في ميدان «يونيون سكوير» في نيويورك، ويختار بنفسه الخضراوات التي يحتاج إليها المطعم. ويتذوق أحياناً بعض الخضراوات بنفسه قبل التعاقد عليها للتأكد من نكهتها ونوعيتها، وهو يقوم بالمهمة بنفسه لعدم وجود العمال الذين لديهم الخبرة الكافية بوجبات الشرق الأوسط، وهي من الصعوبات التي تعترض نشاطه في افتتاحه لأكثر من مطعم. ومن بين فريق العمل معه لا يوجد إلا عامل واحد فقط من أصل فلسطيني من رام الله.
ولكن ما الذي دعا طارق إلى الذهاب والإقامة في نيويورك؟ يؤكد في أكثر من تعليق إعلامي أن التفرقة في إسرائيل ضد الفلسطينيين هي السبب، فهو من عائلة تضم 4 أشقاء و4 شقيقات تعيش في قرية في شمال إسرائيل، وتعمل بالزراعة على مساحة 50 دونماً تملكها.
وكان طارق يعمل في المزرعة من الخامسة صباحاً حتى موعد المدرسة التي ذهب إليها في عمر الثامنة. وفي الجامعة، درس طارق الاقتصاد والمحاسبة في جامعة القدس، ثم عمل محاسباً في شركات، منها برايس ووترهاوس. وعمل طارق معيداً في الجامعة إلى أن حصل على ماجستير إدارة الأعمال. وتنقل طارق في عدة مدن فلسطينية، ولكن رغم رغد العيش، فإنه كان يشعر دوماً بأن المعاملة لم تكن بناء على قدراته وكفاءاته، ولكن بناء على عدم القبول له لأنه عربي.
«التفرقة موجودة (في إسرائيل)، وأنا عانيت منها في جوانب متعددة، حتى عندما أردت استئجار شقة». ومهما كانت درجة نجاح العربي، فهو سيظل «الآخر» في عيون الآخرين داخل إسرائيل. وقرر طارق الذهاب إلى نيويورك في أول رحلة له للمدينة التي صادف سفره إليها يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وتحولت رحلته إلى كندا، ليصل إلى نيويورك بعد ذلك بـ3 أيام.
وبعد وصوله، وتجربة المعيشة في المدينة، اكتشف طارق معنى أن يعيش الإنسان حراً، أن يتحدث بأي لغة يشاء، ويتحرك بحرية وبلا رقابة. وبلا تردد، قرر طارق أنها المدينة التي يريد أن يعيش فيها، وبدأ أعماله حتى انتهى به المطاف لافتتاح مطعمه الفلسطيني، بعد رحلة كفاح كان يعمل خلالها يومياً من الخامسة صباحاً حتى ساعات الليل المتأخرة.
- وجبات مطعم «كانون» بها لمسات مبتكرة
يقول طارق إن زبائن المطعم يطلبون وجبات تقليدية، ولكن بلمسات عصرية. فبدلاً من حشو أوراق العنب بالأرز أو الأرز واللحم، يقدم مطبخ «كانون» أوراق العنب المحشوة بالفريك الذي يعده أفضل من الناحية الصحية.
ويقدم المطعم أيضاً وجبة المجدرة التي يقدمها بشكل جديد يشبه كرات البطاطس المقلية، مع إضافة الجبن الأبيض. ولا تخلو طاولة في المطعم من الحمص الذي يصفه طارق بأنه الأفضل في نيويورك.
ومن الوجبات الأخرى «المحمرة» التي تحتوي على الفلفل والرمان والمكسرات. ويصنع المطعم اللبنة الخاصة به، وفق وصفة فلسطينية بالزعتر كانت تقدمها والدته الفلسطينية. ويضيف طارق أن التبولة التي يقدمها مطعمه تختلف عن الأنواع الأخرى لأنها تحتوي على نكهات الليمون وعلى حبوب الرمان.
ويقول طارق إن الوجبة المفضلة لديه على قائمة الطعام هي الكفتة التي يتم طهيها في الفرن، وتأتي بصلصة الطحينة. ومن الوجبات المشهورة الأخرى «المقلوبة» التي تتكون من أرز بسماتي ولحم ضأن وباذنجان وقرنبيط وجزر وطماطم وتوابل.
ويقدم طارق الوجبات التي تروق لزبائن نيويورك، ولا يملي عليهم أكلات غير معهودة، ولذلك فهو لا يقدم الملوخية التي لا يقبلها الأميركيون، على الرغم من أنها وجبة فلسطينية وشرق أوسطية مشهورة.
ومن الحلويات التي يشتهر بها مطعم «كانون» الكنافة، وهو يقدمها فردية لمن يطلبها، وليست جزءاً من صينية كبيرة، كما تفعل المطاعم الأخرى. وهو يقدم 3 أنواع من الكنافة، ومعها عسل السكر الذي يضيف منه الزبائن الكمية التي تروق لهم إلى أطباق الكنافة. والسبب كما يقول هو أن «أهل نيويورك يتبعون ريجيماً (حمية غذائية) طوال الوقت، ولا يفضلون كميات كبيرة من السكر».