العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران

قراءة في عملية تصفية قاسم سليماني وتداعياتها

العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران
TT

العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران

العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران

نام رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال في العراق عادل عبد المهدي في وقته المعتاد كل يوم في الساعة التاسعة والنصف مساء. ومع أن اليوم التالي يوم جمعة، وهو عطلة اعتيادية في العراق، فإن عبد المهدي كان على موعد في الساعة الثامنة والنصف صباحاً مع ضيف من نوع مختلف ووزن مختلف؛ كان ذلك الضيف المنتظر هو الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني.
سليماني كان آتياً من دمشق على متن رحلة طيران عادية لشركة طيران «أجنحة الشام». وحطت الطائرة في مطار بغداد متأخرة ساعة عن موعد وصولها المعتاد. وكان أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي»، بانتظار ضيفه «مهندس» معظم التحولات في المنطقة في غضون الأربعين سنة الماضية.
إلا أن الرجلين لم يصلا إلى بغداد التي تبعد عن المطار مسافة 20 كم تقريباً، وبالسيارة يمكن قطعها في غضون 10 دقائق، إذ كانت «الدرون» -التي بدت من نوع مختلف هذه المرة- تترصّد الصيد الثمين بعد مغادرته المطار في موكب من سيارتين عاديتين غير مصفّحتين. وتوقفت الرحلة إلى الأبد عند تخوم بغداد بعد مقتل سليماني والمهندس ومرافقيهم، وتغيّر في الحال ليس جدول مواعيد عادل عبد المهدي فحسب، بل جداول كل المواعيد أيضاً. وظهرت على الفور جداول جديدة ومواعيد جديدة على طاولات «الكبار»، خصوصاً بين واشنطن وطهران.

مع تصفية قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وجدت بغداد صعوبة في استيعاب كل هذه التحوّلات، وهي التي تعيش منذ ثلاثة شهور أزمة حادة، تتمثّل في الانتفاضة الشعبية الواسعة التي أدت إلى إقالة الحكومة وعجز الكتل السياسية عن المجيء برئيس وزراء بديل لعبد المهدي.
وهنا نشير إلى أن العراق كان يعيش على وقع عدة صدمات طوال أسبوع، بدأت مع قصف قاعدة الـ«كي 1» في كركوك بنحو 30 صاروخاً من قبل الفصائل المسلحة، أدت إلى مقتل متعاقد أميركي (ظهر فيما بعد أنه عراقي الأصل)، ثم شهدت قصف الطائرات الأميركية النفاثة «اللواء 45» التابع لـ«الحشد الشعبي»، وبالذات لـ«كتائب حزب الله» (في غرب البلاد)، الذي راح ضحيته أكثر من 70 شخصاً بين قتيل وجريح، وبعد ذلك اقتحام مجمّع السفارة الأميركية وسط «المنطقة الخضراء» في بغداد.

- سياسة السيادة
في أعقاب قتل سليماني، وكما كان متوقعاً، تصاعدت حدة المواجهة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. وما كان المسرح المرتقب للمواجهة سوى العراق المشكوك في سيادته من كلا الطرفين العدوين المتخاصمين؛ ذلك أن إيران ترى أن العراق سيبقى منقوص السيادة ما دام الجند الأميركان على أراضيه، وأميركا ترى أن العراق منقوص السيادة ما لم يتخلص من نفوذ طهران وأذرعها، ممثلة في الفصائل المسلحة الموالية لها.
لقد كان الصيف الماضي، حتى مقتل قاسم سليماني، هو الأسخن على صعيد المواجهة بين طهران وواشنطن على الأرض العراقية، إذ استهدفت طائرات «الدرون» على مدى أشهر الصيف كثيراً من معسكرات «الحشد الشعبي» في مناطق مختلفة من العراق، واتهمت فصائل «الحشد» إسرائيل، مع الإشارة إلى أن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ذكر أن الأميركيين أبلغوه أن إسرائيل هي من تولى قصف تلك المعسكرات، ولكن عملياً «قُيدت العملية ضد مجهول».
ومن جهة ثانية، انهالت على مدى شهور الصيف حتى اليوم صواريخ «الكاتيوشا» على «المنطقة الخضراء»، في محاولات لاستهداف السفارة الأميركية. ومع أن الاتهامات توجّه دائماً إلى الفصائل المسلحة الموالية لإيران في التورط بمثل هذه العمليات، فإن أياً منها لم تعترف بتنفيذ مثل هذه العمليات. وهكذا، بين القصف بـ«الدرون» إسرائيلياً و«الكاتيوشا» والهواوين من قبل الفصائل المسلحة المؤيدة لإيران... ظلت السيادة العراقية محل انتقاد بين واشنطن وطهران، وتبادل اتهامات بين العاصمتين، إذ تتهم كل منهما منافستها بخرق السيادة العراقية، إلى أن وقعت الواقعة بقتل قاسم سليماني.

- ترمب يفتخر وينتظر
طوى الليل ساعاته التي بدت سريعة، وحل الصباح باكراً في بغداد، حيث أيقظ عبد المهدي على غير العادة، ليعلم بأن ضيفه الذي كان ينتظره في ساعة مبكّرة من صباح الغد توقفت رحلته في منتصف المسافة بين بغداد ومطارها. وأيضاً جرى الأمر نفسه مع المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي. أما اللاعب الأساسي الوحيد الذي كان مستيقظاً في حينه، فكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بسبب فارق التوقيت.
وكما شاهد العالم، أعلن ترمب أنه هو مَن أمر بتنفيذ العملية، من دون أن يتطرّق إلى مسألة السيادة العراقية. ليس هذا فحسب، بل افتخر الرئيس الأميركي بأنه قضى على ما عدّه «الشخص المسؤول عن كل مشاريع إيران التوسعية في المنطقة»، حين أمر بتنفيذ العملية التي أدت إلى مقتله، والتي أطلق عليها اسم «البرق الأزرق».
بطبيعة الحال، هنا أسقط في يد بغداد التي لم يعد أمامها سوى انتظار رد الفعل الإيراني الذي لن يكون إلا في الأرض العراقية، بحجة وجود القواعد العسكرية الأميركية في العراق. كذلك بات واجباً عليها انتظار رد الفعل الأميركي على رد الفعل الإيراني، بينما أعلن البرلمان العراقي عن التوجه لعقد جلسة طارئة، جدول أعمالها فقرة واحدة، هي إخراج القوات الأميركية من العراق. وعند هذه النقطة، توحّدت القوى الشيعية الرئيسة المختلفة فيما بينها عند هذا الهدف، بينما اتخذ الكرد والعرب السنة موقفاً مناقضاً لموقف قوى الشيعة. ومع نجاح النواب الشيعة في التصويت على قرار يطالب الحكومة بإخراج الوجود الأجنبي من البلاد، لم يصوّت معهم نواب الكرد والسنة.

- تداعيات وتوقعات
بين كون التصويت مُلزماً أو أنه مجرد توصية غير ملزمة للحكومة، التي هي أصلاً باتت «حكومة تصريف أعمال»، مضى تصويت البرلمان العراقي بإخراج القوات الأجنبية من البلاد من دون أن يخلف تداعيات كبيرة، لا سيما مع بدء انتظار الرد الإيراني على تصفية سليماني الذي لم يوارَ الثرى إلا بعد خمسة أيام من التشييع الجماهيري بين المدن العراقية والإيرانية. وكما هو معروف، راح ضحية التدافع في أثناء مراسم التشييع أكثر من 60 قتيلاً وعشرات الجرحى في مدينة كرمان الإيرانية، مسقط رأس القائد القتيل.
وعلى صعيد آخر، فإن التداعيات التي خلفها قتل الجنرال سليماني أربكت الأجواء السياسية في العراق والمنطقة، لا سيما أن العملية غيّرت قواعد اللعبة والاشتباك معاً. وفي هذا السياق، فإن للخبراء والمعنيين رأيهم في الحدث وتداعياته الآنية والمستقبلية، إذ توقّع الدكتور إحسان الشمري، رئيس مركز التفكير السياسي في العراق، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، أنه «ستكون لمقتل سليماني وأبو مهدي المهندس تداعيات على كل المستويات، ليس فقط على مستوى الأرض العراقية، بل على مستوى المنطقة. وإن الرد الإيراني سيكون حاضراً على أرض العراق كأرض هشة، وكذلك المناطق الأخرى مثل سوريا ولبنان واليمن، فضلاً عن الدول الأوروبية، عن طريق خلايا تابعين لـ(الحرس الثوري) الإيراني».
وتابع الشمري أنه «قد لا يكون له (أي الرد الإيراني) هدف المضي بالحرب الشاملة التقليدية، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى إسقاط النظام في إيران التي لا تمتلك القدرة على هذه الحرب الشاملة المفتوحة، بعكس أميركا وحلفائها»، وبيّن أن «التداعيات الأقوى ستكون داخل الأراضي العراقية التي تحوّلت من أرض احتكاك إلى أرض اشتباك، وهذا سيكون له عواقب على المستوى الأمني، خصوصاً إذا استمر استهداف المصالح الأميركية... وبالذات مع وجود القوات الأميركية في العراق».
أما رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية، الدكتور معتز محيي الدين، فرأى في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «هناك عدة تداعيات مهمة ستظهر على السطح خلال الفترة المقبلة، لا سيما مع وجود تعزيزات أميركية جديدة لحماية المصالح الأميركية التي بدأت تتهدد بشكل واضح، الأمر الذي سيغير من قواعد اللعبة والاشتباك معاً»، وأضاف أن «القوة الجديدة الأميركية ستكون لها مهمات محدّدة من بين مهمات أخرى، وهي استهداف قيادات في الحشد، وبالأخص تلك التي شاركت في عملية اقتحام السفارة الأميركية والمظاهرات، والتي أشار إليها الرئيس الأميركي، وكذلك وزير الخارجية».
وتوقّع محيي الدين أن «تستهدف قيادات الفصائل المسلحة القواعد والمصالح الأميركية، سواءً قرب مطار بغداد أو أماكن أخرى، وهو ما يعني أن رد الفعل الأميركي سيكون أقوى مما حصل على طريق المطار، وعُرف بـ(البرق الأزرق)، إذ يمكن أن تكون هناك عمليات تصفية حتى لسياسيين ليس لديهم فصائل مسلحة، ولكنهم محسوبون على إيران بشكل أو بآخر». كذلك توقّع محيي الدين أن «تطال قائمة الاستهدافات الأميركية مصالح أخرى لهذه القيادات، كالمصارف وغيرها، من أجل إضعاف قدراتها، لا سيما أن الخزانة الأميركية قد فرضت بالفعل عقوبات على شخصيات، وهو ما يعني متابعة ما تملكه من أموال في دول كثيرة».

- ضربة بضربة
لقد تصاعدت ردود الفعل الغاضبة بانتظار ما يمكن أن تفعله القيادة الإيرانية، وما إذا كان رد الفعل الأساسي سيوازي حجم خسارة جنرال بحجم قاسم سليماني بكاه بحرقة المرشد الإيراني علي خامنئي.
حتى مراجع الدين الكبار في العراق، وفي مقدمهم المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني، نعوا سليماني والمهندس، وأدانوا العملية. كذلك كان آية الله محمد رضا السيستاني، نجل المرجع الأعلى، على رأس مستقبلي الجثمان عند وصوله إلى مدينة النجف، بينما كان آية الله بشير النجفي -وهو أحد المراجع الأربعة العظام في النجف- هو مَن أمّ المصلين عليه.
عموماً، في العراق، يمكن القول إن ردود الفعل تراوحت بين ضبط النفس والتصعيد. فقد حث على ضبط النفس كل من المرجعية الدينية، ورئيس الجمهورية برهم صالح... وحتى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي سرعان ما رمى الكرة في ملعب البرلمان، على صعيد تنظيم الوجود الأجنبي في البلاد. أما الاتجاه نحو التصعيد، فتبنّته دعوات الفصائل المسلحة المدعومة من إيران للردّ والانتقام مما حصل.
أما في إيران، فقد بدا المشهد مختلفاً، حيث تصاعدت الدعوات إلى الثأر، بينما أصدر كاظم الحائري، المرجع الديني العراقي المقيم في مدينة قُم بإيران، فتوى تقضي بـ«تحريم الوجود الأجنبي في العراق». ومع أن البرلمان العراقي استجاب لهذه الدعوة، عبر تصويت الكتل الشيعية، في غياب ومعارضة الكتل السنّية والكردية، فإن الرد الأميركي جاء واضحاً صريحاً، وهو تعزيز الوجود العسكري الأميركي في العراق.
وسط كل هذا، كان الجميع ينتظر الرد الإيراني الذي حبس الأنفاس لعدة أيام. وفي تفسير ذلك، يرى الدكتور حسين علاوي، رئيس مركز «أكد» للدراسات والرؤى المستقبلية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «لحظات صعبة تمرّ على العراق والمنطقة. وعمليات التصعيد واضحة، والانتقال الأميركي من استراتيجية الاقتراب المباشر، بدل استراتيجية الاقتراب غير المباشر، غيّر المعادلة الآن»، وتابع أن «تغيير قواعد اللعبة الآن من قبل الجانب الأميركي أعطى فرصة للقوى السياسية، ووفّر هامش حركة أمام الإيرانيين الضاغطين بقوة من أجل تثبيت مصالحهم وإرثهم في المعادلة السياسية الجديدة للبلاد».
وأوضح علاوي أن «الوجود الأميركي أمام تحدّ نتيجة انهيار قدرة السلطة العراقية، وعجز مؤسسات الحكومة التنفيذية على الصعيد السياسي عن تحقيق إجماع على أن الوجود الأميركي مفيد، وهذا ما دفع الفصائل المسلحة (الشيعية) إلى أن تدفع نحو خيار عدم الفائدة من الوجود الأميركي، وهو ما ولد تحد أمام اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين».
وفي المقابل، عد السياسي العراقي أثيل النجيفي، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن «القوة الإيرانية تراجعت كثيراً بعد مقتل المهندس وسليماني، وما كانت الفصائل تعوّل عليه من دفع الشعب العراقي كدريئة لصراعها مع الولايات المتحدة الأميركية ضعف كثيراً». وأردف النجيفي أن «الفصائل المسلحة يمكن أن تهدّد وتتوعّد، وقد تضرب للحفاظ على وضعها، وقد تتملّص من المسؤولية، ولكنها بينما تريد أن تجعل من محاربة الأميركان قضية عراقية... فإن معظم الشعب العراقي لا يراها معركته».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.