نابولي... الوجه المتمرد لإيطاليا

مهد البيتزا والموتزاريلا وجارة شواطئ أمالفي

منظر بانورامي لمدينة نابولي
منظر بانورامي لمدينة نابولي
TT

نابولي... الوجه المتمرد لإيطاليا

منظر بانورامي لمدينة نابولي
منظر بانورامي لمدينة نابولي

منذ قرون، يردد أهلها: «حرام أن تموت قبل أن ترى نابولي». قول مأثور ذكره «غوتيه» في مؤلفه الشهير «رحلة إلى إيطاليا»، واستعاره كثيرون عنواناً إما لفيلم سينمائي أو لأغنية، أو لنقشة على كل ما يخطر على البال من تذكارات. لكن ليس هناك ما يستدعي الاستعجال والموت، ففي هذه المدينة دائماً جديدٌ يستحق المشاهدة، وقديم تحنّ إليه الذاكرة ويستحضره الخيال.
في بدايات القرن الثامن عشر، كانت نابولي، إلى جانب باريس ولندن، ثالثة الحواضر الأوروبية من حيث الأهمية في المعالم المعمارية، والتأثير في الحركات الثقافية والفنية، ومقصداً لسياحة النُخب الاجتماعية التي كانت تتهافت على زيارتها أو الإقامة فيها.
لكن نابولي اليوم تبدو نقيض كل ما كانت عليه في الماضي من أناقة التنظيم وأرستقراطية العيش، وتجسد كل الأفكار السائدة عن الفوضى والعنف والعبث في الشخصية النمطية الإيطالية. ولعل هذه الصورة عن المدينة المتهالكة في العمران والبنى التحتية، المتلاحمة بفضل شبكتها الاجتماعية الوطيدة، هي التي تجذب اليوم ملايين الزوّار الذين يبحثون عن الوجه المتوحش المتمرد في إيطاليا. كما تجذب أيضا أعداداً متزايدة من الفنانين والمبدعين الشباب الذين يبحثون فيها عن مصادر إلهام بديلة.
نابولي هي عاصمة إقليم «كامبانيا»، وثالثة أكبر المدن الإيطالية بعد ميلانو وروما. تنام عند سفح «فيزوف»، البركان الضخم الرابض فوق خليج المدينة، الذي يذكّر فورانه من حين لآخر بأنه في عام 97 قبل الميلاد طمرت حممه الثائرة مدينة «بومبيي» بأهلها ومبانيها. وهي أيضا المحطة الرئيسية على شاطئ «أمالفي» الذي يعد من أجمل المناطق الساحلية وأشهرها في العالم.
قبل بداية التجول السياحي في نابولي، من المستحسن تخصيص يوم على الأقل للتسكع في المدينة ومعاينة هذه الفوضى المنظمة التي تسيّر كل مرافق الحياة فيها. إنه السبيل الأسرع لكي ندرك أننا في مدينة إيطالية لا تشبه أي مدينة أخرى في إيطاليا، وأنه لا بد من التكيّف مع قواعدها للتمتّع بما يمكن أن تقدّمه لنا من مفاجآت ومتعة.
عندما كانت الإمبراطورية الرومانية في أوج عزّها، كانت العائلات الأرستقراطية في روما تتنافس في بناء القصور الفخمة على طول الخليج الذي يزنّر نابولي، تقضي فيها إجازاتها وتقيم الاحتفالات الصاخبة، كما يتبيّن من الآثار الكثيرة التي يُكشف عنها منذ سنوات، وينطلق منها أهل المدينة لاستعادة التقاليد القديمة، واستنباط الجديد منها.
كثيرة هي الكنوز الفنية والأثرية التي تنتظر السائح في هذه المدينة، من الوسط التاريخي الذي وضعته منظمة اليونيسكو تحت رعايتها بعد وضعه على قائمة التراث العالمي، إلى القصور المذهلة التي يعود معظمها إلى الحقبة التي كانت فيها نابولي خاضعة للتاج الإسباني طوال القرنين السادس عشر والثامن عشر، والكاتدرائيات التي تزخر بروائع فنية لا تحصى. ومن المباني التي تستحق أن تخصص لها زيارة منفردة مسرح دار الأوبرا «سان كارلو» الذي كان أوّل مسارح الأوبرا في القارة الأوروبية، والنموذج الذي اقتدت به المسارح الأخرى، وهو اليوم أقدم دار للأوبرا ما زالت ناشطة في العالم.
ومتحف الآثار هو محطة أخرى لازمة في زيارة المدينة، إلى جانب القصر الملكي والمباني المحيطة به بكثافة التي كان الهدف منها تأمين الحماية له. وفي قصر «كابو دي مونتي» توجد مجموعة من اللوحات الكلاسيكية التي يقل نظيرها في العالم.
لكن نابولي التي ما زالت تجد صعوبة في الحفاظ على تراثها الفني والتاريخي القديم الذي يتهاوى جزء كبير منه، أقدمت على تنفيذ مشاريع عمرانية حديثة استحقت الثناء والإعجاب، مثل مدينة العلوم التي استعادت مجموعة من المباني الصناعية القديمة، وقصر الفنون، ومتحف الفن المعاصر الفريد من نوعه في العالم الذي يقصده طلاب الهندسة المعمارية من كل صوب. ومن المواقع التي تشهد على حيوية الحركة الإبداعية في نابولي محطات المترو التي تحوّلت إلى صالات فنية لعرض أعمال الرسّامين والنحّاتين الشباب. وقد صنّفت جريدة «الدايلي تلغراف» البريطانية، مؤخراً، هذا المترو على أنه الأجمل في العالم، لما يحويه من أعمال فنّية لكبار الفنانين المعاصرين في المدينة.
وهناك أيضاً مدينة تحت المدينة في نابولي، يعود حفرها إلى بدايات القرن السادس عشر لاستخراج الصخور البركانية لبناء القصر الملكي، ثم راحت الحفريات تتسّع لبناء خزّانات للمياه ودهاليز وممرات غالباً ما كان يستخدمها المهرّبون، ولعبت دوراً مهماً خلال الحرب العالمية الثانية في تخزين أسلحة الجيش الأميركي ومعدّاته بعد نزوله على شواطئ نابولي، ليبدأ منها حملة استعادة إيطاليا من القوات النازية.
ومن الزيارات المشّوقة في نابولي الأسواق الشعبية التي يتبضّع منها يومياً أهل المدينة بأسعار في متناول الطبقة المستورة. فهي تعطي فكرة دقيقة عن نبض المدينة ومزاج أهلها، وتعرض أمام الزائر المأكولات والأطباق التقليدية التي اشتهر بها مطبخ المدينة. ومن بين المتاحف الكثيرة التي يزيد عددها على الثلاثين في هذه المدينة، لا بد من تخصيص زيارة للمتحف الوطني الذي يضمّ مجموعة من التماثيل الرخامية الفريدة من نوعها في العالم، إلى جانب مجموعة من المنحوتات الجريئة من «بومبيي»، تحتاج إلى إذن خاص وتحديد موعد لزيارتها.
ومع مرور الوقت، يدرك الزائر أنه رغم الصعاب والتناقضات التي تعاني منها كل المدن الكبرى، تبقى نابولي حالة خارجة عن المألوف، تنادينا كي نعيشها ونتمتع بها بكل حواسنا: الآثار والروائع الفنية التي تطالعنا عند كل زاوية، والصخب الذي يرافق أنشطتها المسرحية والموسيقية ومهرجاناتها طوال العام، والهوس الذي تجاوز كل الحدود بكرة القدم حتى رفع مارادونا إلى مرتبة القداسة، ناهيك من كونها مهد أشهر طبقين في المطبخ الإيطالي والعالمي: البيتزا والموتزاريلا المصنوعة من لبن الجاموسة.
نابولي هي أيضاً منطلق لزيارة مواقع كثيرة من أجمل ما يمكن أن تقدمه إيطاليا للسائح في منطقة ذائعة الصيت برومانسيتها ومناظرها الطبيعية الخلابة. مواقع على مسافة قصيرة من نابولي، مثل جزيرة كابري التي تغنّى بها الشعراء وغنّى لها المطربون وكانت مسرحاً لغراميّات شهيرة في التاريخ... أو قرية «بوزيتانو» التي تتدلّى كالعقد فوق الشاطئ، ويعدها كثيرون أجمل قرية في العالم... أو مدينة «بومبيي» التي تنام تحت رماد البركان الذي قذفها بملايين الأطنان من الحمم اللاهبة في القرن الأول قبل الميلاد، والتي ما زالت جوهرة أثرية تكشف لنا أسرار حياة الطبقة الأرستقراطية في الإمبراطورية الرومانية، وأنماط العيش فيها.
وعندما يتجول الزائر في شوارع «بومبيي»، ويرى منازلها ومبانيها الرسمية، يشعر بأن الزمن قد توقف يوم انفجر البركان، وطمرت حممه المدينة بمن فيها، وبقي كل ساكن في الوضع الذي كان عليه عندما فاجأته الكارثة. أجساد وأدوات مفحمة، وفسيفساء ورسوم جدارية ملونة، كأن السنين لم تمرّ عليها. وتشرف منظمة اليونيسكو حالياً على مشروع لصيانة الموقع الذي يتعرض منذ سنوات للتداعي بسبب الإهمال، وتقوم بنقل القطع الأثرية النفيسة إلى المتحف الوطني، حيث توجد مجموعات من الأدوات المذهلة بإتقانها وفخامتها، مثل الأثاث المنزلي ولوازم الطهي والمعدات الجراحية.
ونختم زيارتنا بنزهة مسائية على الطريق البحري في حي «سانتا لوتشيّا» الذي يربطه جسر بالقصر البحري الذي يعرف بقصر البيضة، إذ يقال إن الشاعر فيرجيل دفن في أساساته علبة سرية، وضع فيها بيضة يُعتقد أن سلامتها من سلامة القصر والمدينة. لكن المهم في هذا القصر المطاعم الممتازة التي تقدم أطايب الأطعمة البحرية في نابولي، وحيث نتذكر أنه ليس بالبيتزا وحدها يحيا الإنسان.


مقالات ذات صلة

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

الاقتصاد سياح صينيون يزورون مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (رويترز)

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

أعلنت وزارة السياحة المغربية، الاثنين، أن عدد السياح الذين زاروا المغرب منذ بداية العام وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بلغ 15.9 مليون سائح.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)

جولة على أجمل أسواق العيد في ألمانيا

أسواق العيد في ميونخ (الشرق الاوسط)
أسواق العيد في ميونخ (الشرق الاوسط)
TT

جولة على أجمل أسواق العيد في ألمانيا

أسواق العيد في ميونخ (الشرق الاوسط)
أسواق العيد في ميونخ (الشرق الاوسط)

الأسواق المفتوحة تجسد روح موسم الأعياد في ألمانيا؛ حيث تشكل الساحات التي تعود إلى العصور الوسطى والشوارع المرصوفة بالحصى، المسرح المثالي للاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة.

تنطلق هذه الأسواق في أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) وتستمر حتى 24 ديسمبر (كانون الأول)، وأحياناً حتى شهر يناير (كانون الثاني)، وتنبض بسحر محلي خاص، حيث تقدم الزينة اليدوية الصنع، المعجنات الموسمية، والهدايا الحرفية، إلى جانب الموسيقى التقليدية، مما يغمر الزوّار في أجواء رائعة من التقاليد العريقة والبيئة الاحتفالية.

اسواق العيد مناسبة للعائلات (الشرق الاوسط)

تنتشر في ألمانيا أسواق كثيرة تتميز بتنوع حيوي إليكم أجملها:

سوق أعياد كريسكنيدل ميونيخ

تقع سوق الأعياد البافارية في قلب ساحة مارينبلاتز، وتعد نموذجاً للأجواء الاحتفالية البافارية، حيث تجمع بين التقاليد التي تعود إلى قرون مضت والروح الاحتفالية لمدينة ميونيخ. هنا، يمكن للزوار استكشاف صفوف من الأكشاك الخشبية التي تعرض الحرف اليدوية المحلية والزخارف الدقيقة والمأكولات الموسمية اللذيذة، مثل خبز الزنجبيل والمكسرات المحمصة. كما يمكن للعائلات الاستمتاع بمجموعة متنوعة من الأنشطة الخاصة، بما في ذلك العروض الموسيقية و«ورشة العمل السماوية»، حيث يمكن للأطفال صنع الحرف اليدوية الخاصة بموسم الأعياد.

أسواق دريزدين (الشرق الاوسط)

سوق دريسدنر – دريسدن

يعود تاريخ سوق دريسدنر شتريزيلماركت إلى عام 1434، وهي أقدم سوق أعياد في ألمانيا ومن بين الأكثر شهرة فيها. تُقام السوق في ساحة التماركت بالمدينة، وتعرض الزخارف الخشبية المصنوعة يدوياً، وزخارف الزجاج المنفوخ في ساكسونيا، مع عروض وأنشطة للأطفال في قلعة القصص الخيالية ليستمتع بها الجميع.

أسواق العيد المفتوحة في برلين (الشرق الاوسط)

سوق الأعياد في ساحة ألكسندر - برلين

يُعد ميدان ألكسندر بلاتز من أشهر الساحات في برلين، وهو ذائع الصيت بعجلة فيريس الشهيرة التي توفر إطلالات بانورامية على معالم المدينة التاريخية، بينما تقدم حلبة التزلج وألعاب الترفيه أنشطة ممتعة لجميع أفراد العائلة. تضم السوق بائعين دوليين يعرضون أطعمة موسمية، مثل الكستناء المشوية، وخبز الزنجبيل، والوافل على الطراز البرليني، إضافة إلى هرم موسم الأعياد الشاهق المزدان بشخصيات تقليدية ليكون نقطة جذب مثالية للصور.

أسواق فرانكفورت (الشرق الاوسط)

سوق الأعياد في فرنكفورت

مع خلفية ساحرة تجمع بين ساحة رومربيرغ وساحة سانت بولس، تُعرف سوق الأعياد في فرنكفورت بزخارفها الاحتفالية وعروضها الموسيقية. تقدم السوق زينة يدوية الصنع، وألعاباً خشبية، وحلويات موسمية مثل بسكويت المارزيبان «بيتماينشن»، بينما تضفي الشجرة الضخمة المُزينة والموسيقى الاحتفالية من جوقات وأوركسترا محلية، المزيد من السحر والأجواء الاحتفالية.

سوق رايترلسماركت في مدينة روتنبورغ أوب در تاوبر (الشرق الاوسط)

رايترلسماركت - روتنبورغ أوب دير تاوبر

تقع سوق رايترلسماركت في مدينة روتنبورغ أوب در تاوبر التي تعود إلى العصور الوسطى، وتوفر أجواءً فريدة لقضاء العطلات في واحدة من أفضل مدن العصور الوسطى في ألمانيا. وبينما يتجول الزوار في شوارع المدينة المتعرّجة، يمكنهم الاستمتاع بالعطلات الفرنكونية والعروض التقليدية ورواية القصص، فضلاً عن جولات المشي على ضوء الشموع التي تسهم في إحياء تاريخ المدينة، مثل جولة روتنبورغ الأسطورية التي تُعد محور احتفالات رايترلسماركت.

أسواق دريزدين (الشرق الاوسط)

سوق نورنبيرغ الاحتفالية

تُعدّ سوق الأعياد في نورنبيرغ، المعروفة باسم «كريست كيندلس ماركت»، من أشهر أسواق العيد في العالم، وتُقام في ساحة «هاوبت ماركت»؛ حيث تقدم هدايا يدوية الصنع مثل خبز الزنجبيل التقليدي من نورنبيرغ، وكسّارات البندق الخشبية، وشخصيات «نورنبيرغ بلام بيبول» من نورنبيرغ التي ترتدي الأزياء التقليدية.

اسواق هامبورغ (الشرق الاوسط)

سوق هامبورغ للأعياد التاريخية

تشتهر سوق الأعياد التاريخية، التي تُقام أمام مبنى راتهاوس العريق في هامبورغ بـ«سانتا الطائر» الفريد من نوعه، الذي يقوم برحلات يومية فوق ساحة السوق، مما يُسعد الأطفال والكبار على حدٍّ سواء. هذا ويتم تسليط الضوء على تاريخ هامبورغ البحري في عروض العطلات والأكشاك الاحتفالية؛ حيث يمكن للزوار العثور على الهدايا ذات الطابع البحري والاستمتاع بالأطباق الإقليمية مثل الكستناء المحمصة ومعجنات العطلات، فيما تجعل قرية الأطفال والعربة الدائرية من السوق، وجهة مفضلة لدى العائلات.