جيل «واي فاي» تشرب الثورة الرقمية واستوعب ما فيها من قوة ناعمة

على النخب المثقفة استيعاب عالمية الجيل الجديد

من مظاهرات لبنان
من مظاهرات لبنان
TT

جيل «واي فاي» تشرب الثورة الرقمية واستوعب ما فيها من قوة ناعمة

من مظاهرات لبنان
من مظاهرات لبنان

توضح في نهاية العقد الأول من هذا القرن في عالمنا العربي جيلٌ جديدٌ استوعب العولمة، وما فيها من فضاءات رقمية، جاعلاً منها قوة ناعمة تعينه على الانفتاح والتحشيد باتجاه التغيير، مادياً ومعنوياً. فكانت ثورات الربيع العربي تجسيداً ميدانياً لما استوعبه هذا الجيل من أنساق متغايرة جديدة، لكنه ظل مبهوراً بالشعارات غير متحصنٍ من تراكمات حقب التحرير والاستقلال السابقة، وفي مقدمة تلك التراكمات السعي الحالم نحو مشاريع أصولية وطوباوية ذات تطلعات وردية، لم يتحقق منها ما هو مهم على صعيدي التحرر والتغيير.
والنتيجة أن مشروع الربيع العربي أُجهض، ومعه وئدت براعم جيلٍ كان لها أن تفيد من العولمة ومتاحات العالم الرقمي، غير أن الذي حصل جعل الأزمات تتفاقم أكثر، فاستعرت نار التطرف والطائفية، وأخذت أمارات التفرقة والتمزق تزداد ضراوة، والأخطر أن أنظمة الحكم الاستبدادية صارت أكثر منعة وتحكماً في مصائر شعوبها.
ورغم ذلك الانتكاس، فإن جيلاً جديداً ظهر في العقد الثاني من هذا القرن، وُصف بأنه «جيل واي فاي» الذي تشرب الثورة الرقمية، واستوعب ما فيها من قوة ناعمة، عارفاً أنها وحدها القادرة على قهر القوة الخشنة، وجعل التطلعات المنشودة في التحرر والتغيير واقعاً حياً ملموساً.
وكان من تبعات ذلك كله أن شهدت المدن العربية، في بغداد وبيروت والجزائر وتونس والخرطوم، منذ العام الماضي انتفاضات وثورات واحتجاجات واعتصامات ومسيرات ومظاهرات مستمرة بلا هوادة، وهي بمجموعها من صنع قاعدة شعبية جماهيرية، فيها للمهمشين دور كبير، ومن ضمنهم المرأة التي تشكل الجزء المهم من الجيل الجديد المتطلع للإفادة من العولمة، وما فيها من ممكنات التنامي والفاعلية.
وفي مقدمة تلك الممكنات وسائط التواصل الافتراضي التي صارت تمد الانتفاضات والثورات بالحيوية والزخم، وبسببها أمسك هذا الجيل زمام المبادرة مقلقلاً أنظمة الحكم، ومؤكداً أنه بفتوته وانفتاحه قادر على الانفلات من عقال التبعية، ومتمكن من أن يكون جيلاً عابراً للحدود والحواجز، يتجاوز الانغلاق والتعصب، وقد استند إلى أسمنت التعدد والتنوع والاندماج، متبرماً من الحزبية، ماقتاً المحاصصة والمحسوبية، ينظر نحو آفاق متسعة بلا توجس من لبرلة أو انبهار بدمقرطة، يفهم المواطنة على أنها نبذ الأقنعة والتزييف، لا بالشعارات الحالمة وإنما بالعمل المعقلن المقدام والممارسة الحية. وله في جريتا تونبرغ، الناشطة البيئية السويدية ذات الستة عشر عاماً، مثال ساطع على القوة الناعمة التي بها خرجت الحشود الشعبية الفتية من قمقم عزلتها، محطمة طوق الطائفية والفئوية، غير مكتفية بإصلاحات جزئية وقتية، متطلعة إلى التغيير الشامل والإصلاح التام الذي به تتوكد الحقوق والحريات، وبلا خشية من أنظمة سلطوية استبدادية ولا جبروت دساتير وقوانين وأحكام.
ولأن الانتفاضات الشعبية الراهنة ابنة شرعية للعولمة وما بعدها، فإنها لا تعتمد في نيل مطالبها أسلحة عسكرية وذخائر حربية، كما أنه ليس من خططها الانخراط في تدريبات قتالية وتنظيمات جهادية، بل الذي معها هو قوتها الناعمة المشروعة التي تجعل هذا الجيل فاعلاً رقمياً، سلاحه الكلمة وفضاؤه العالم وعماده العقل الذي به سيخلع هذا الجيل عباءة التبعية، مستشرفا عالماً جديداً سيكون هو فيه جزءاً فاعلاً حقيقياً.
وليس الفعل الذي تؤديه الثورات والانتفاضات ناعماً وأنثوياً فحسب، بل الزمن فيه زمن سيال واحتوائي، تتغير فيه التسميات والأولويات، فبدل مصطلح المناضل حل مصطلح الناشط الذي لا ترفعه الجماهير ليهتف ويهتفوا من بعده، بل هو الذي يحمل طوابير العاطلين عن العمل وأصحاب الكفاءات من حملة الشهادات وأفواجاً بشرية هائلة من الفقراء والمعدمين على كتفي حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، صانعاً الصور والأيقونات، معضداً هذا الفعل بالتفاعل الميداني.
وبسبب هذه الروحية المنفتحة المرنة، لم يعد الفعل البطولي دموياً، يتفرد به بطل شعبي أو آحاد، ليكونوا فيما بعد قادة يحملون فكراً نخبوياً، بينما يقبع المجموع قاعدة لهم، يمدهم بالتفرد والمركزية، وهو ما عاشته أغلب الشعوب العربية منذ منتصف القرن العشرين، وذاقت ويلاته في مختلف حقب الحكم وأنظمته الملكية والجمهورية، حتى في زمن التطبيع والديمقراطية.
البطولة بالمفهوم الجديد الذي تجسده الانتفاضات الشعبية جماعية، لا تعرف المركزية ولا تقر بالصفوة ولا بالتبعية. وهذا بالضبط هو ما أرادته، أو على الأقل زعمته، الآيديولوجيات الثورية، بيد أنها أخفقت في تحقيقه عند التطبيق.
وإذا كانت شرارة الربيع العربي تحفيزية فردية، مثّلها محمد بو عزيزي في مدينة سيدي بو زيد التونسية، فإن شرارة الانتفاضات الشعبية تأصلت جوهرياً في الفواعل المعروفة بجماعية احتجاجها الذي تطغي عليه «الشعبية والسلمية والمدنية والثورية والمرونة والتعددية» التي جعلت مشهد الانتفاضات ما بعد حداثي، لا هو بالربيعي ولا هو بالخريفي، بل هو فصول أربعة تتغير كل آن، آتية بالجديد، مستمرة بلا هوادة، تغلي سخطاً وغضباً، محتجة بلا نهائية، تتعالى على الأدلجة والقومية، معتمدة على العفوية واللاتنظيم والحدسية التي تضمن لهذه الانتفاضات مرونة التجدد وصيرورة الاستمرار.
وما دام «جيل واي فاي» هو الفاعل الرقمي المندرج ضمن فضاء عالمي فيه للعربي ما للصيني والأميركي والأوروبي، فإن أوار الانتفاضات -الذي يتساوى في تفعيله الرجل والمرأة، ولم يعد فيه للقوة العضلية التي كانت تتطلبها سوح النضال والمقارعات السابقة دور مهم- سيبقى متصلاً دائمياً إلى أن يحقق غاياته لا محالة.
ولعل الذي يضمن للانتفاضات ديمومة العزائم واستمرارية الهمم هو بعدها عن التهويم الطوباوي، وارتكانها إلى مرونة التفكير وإدامته بسلمية تتحرى الصدق والواقعية، متحصنة من المقاومة الوحشية والتلوث الفكري، وغايتها استقطاب الآخر وليس استئصاله.
وهو ما يجعل الانتفاضات العربية الشعبية كماشة تضيّق الخناق على ضيقي الأفق من المتواطئين والمشبوهين ومرضى الولع بالسلطة، أصحاب المشاريع الطائفية والبرامج المتطرفة والاستهلاكية، المتشبثين بسياسة العصا الغليظة. فالعالم العربي اليوم عالم متعولم، والإنسان فيه حر، كينونته متحاورة وميدانه منفتح على التثاقف قوة ومرونة، إفادة من الآخر الذي عليه أن يحتويه لا أن يعاديه بكونية عابرة على الموانع والحدود.
ولا مجال لتحقيق تطلعات هذه الانتفاضات، المتمثلة في السلم والتضامن والانفتاح، إلا بالقوة الناعمة التي بها يصبح العالم منفتحاً، يندمج فيه العراقي والتونسي والمصري في الركب العالمي، ضمن استراتيجية شراكة تتفهم معنى وحدة المصير البشري، بعيداً عن مكائد القوة الفائقة التي تعمل ماكينة الإعلام الضخمة على الترويج لها، هادفة لصنع مجتمعات متمزقة متناحرة.
وما على النخب المثقفة عمله اليوم هو استيعاب عالمية هذا الجيل الجديد الذي تجسده فواعل فتية صاعدة، تنظر لنفسها والآخر بمنظار رحب.
وما يجعل من المثقف فاعلاً رقمياً حقيقياً قبوله بالتعدد في الفكر، والتحول غير النمطي في الفهم الثقافي للزمن العالمي الذي هو زمن افتراضي، لا استنساخ فيه لسيناريوهات مضت هنا أو هناك.
ولم تعد مهمة المثقف التساؤل، وإنما الإجابة عن تساؤلات الآخرين، وبما يضمن الزخم للانتفاضات، ويعمل على تدعيم ما فيها من ممكنات الاحتجاج والتنديد، وبإرادة حرة لا تعرف كوابيس الاستبداد ولا دهاليز التستر والتخاذل، مطوعة القوة الناعمة في شكل فكري منفتح مركب تعددي يهشم الثالوث الاستبدادي (الفساد، والاستهلاك، والتمركز).
والمأمول أن تتشكل من الجيل المثقف منظومة لا مرئية، توازي في قوتها الفكرية القوة الإعلامية الصلبة للسلطات الرسمية، وبالشكل الذي يتيح للقاعدة الجماهيرية أن تكون دوماً متأهبة متيقظة لأن تغير وجه العالم كله.
ويظل التعايش مطلب الانتفاضات الشعبية التي تريد الاندماج بعالم جديد ونظام كوني تتجاوز فيه تراكمات حقب التبعية والاضطهاد، وعلل النرجسية والانغلاق، متجهة قدماً نحو عالم جديد مرقمن افتراضي، فيه الشعوب أمومية وأبوية تحمل صخرة سيزيف ولا تشعر بالعناء، كونها ليست متفرقة أو أحادية، بل هي متعددة، لا معطلة ولا مشلولة، تمتلك قوة ناعمة لكنها فاعلة قادرة على أن تفتح مصاريع المستقبل الذي لن يزلزل الحاضر فحسب، بل سيغير وجه التاريخ الذي يكتب.



شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.