تلِج فرنسا العام الجديد على وقع المظاهرات والإضرابات التي لم تخفِها احتفالات رأس السنة الضخمة. فالفرنسيون سيعودون سريعاً إلى الواقع المر الذي عنوانه استمرار الحركات الاحتجاجية على خطط الحكومة لإصلاح أنظمة التقاعد. وكان الجميع يترقب ما سيأتي به الرئيس إيمانويل ماكرون في الكلمة التقليدية للفرنسيين، عشية ولادة العام والعقد الجديدين. لكن ردود الفعل السياسية والنقابية عليها بينت أمرين متلازمين؛ الأول، وجود هوة واسعة بين ما قاله ماكرون وبين ما ينتظره كثيرون. والثانية، السير نحو استمرار الأزمة، بل إلى مزيد من التصعيد في هذه الحركة الاحتجاجية الأطول منذ 3 عقود، إذ إنها وصلت إلى عتبة الـ30 يوماً، فيما لا تبدو في الأفق علامات تؤشر إلى إمكانية التوصل إلى تفاهمات بين الحكومة والنقابات، في ظل تمترس كل طرف عند مواقفه.
في كلمته التي دامت 18 دقيقة ليل أول من أمس، جاء ماكرون مطولاً على الموضوع الخلافي. فمن جهة، شرح مجدداً الغرض المطلوب من إصلاح أنظمة التقاعد، وهو ضمان العدالة والمساواة للجميع. وفي نظره، هو «مشروع عادل وتقدمي من الناحية الاجتماعية، لأنه نظام موحد، الجميع سواسية أمام ما يقومون به، وهو أبعد ما يكون عليه النظام الحالي. يساوي أكثر بين الجميع». ومن جهة ثانية، أكد تمسكه بإنجازه رغم عوائق المظاهرات والإضرابات؛ خصوصاً في قطاع النقل العام. وقال ماكرون: «إن إصلاح أنظمة التقاعد الذي التزمت بتحقيقه أمام الفرنسيين، وتقوده الحكومة، سوف يتم السير به حتى النهاية». وبعد أن ندد ماكرون بـ«الأكاذيب» المروجة بشأنه، اعترف بأن «القرارات المتخذة قد تكون صادمة، وتثير مخاوف البعض، لكن لا يمكن التراجع عن التزاماتنا». وانطلاقاً من ذلك، طالب ماكرون رئيس حكومته بالتوصل إلى «تسوية سريعة مع المنظمات والنقابات التي ترغب في ذلك، مع احترام المبادئ العامة لمشروع الإصلاح، التي أشرت إليها». وهامش المناورة الوحيد الذي تركه ماكرون لإدوار فيليب يتناول مراعاة ظروف العاملين في الوظائف الصعبة، الذين يمكن أن تؤخذ أوضاعهم بعين الاعتبار، بحيث يتم «السماح لمن يقومون بها بالتقاعد بصورة مبكرة، ولكن دون أن يكون ذلك مرتبطاً بنظام خاص».
باستثناء ردة الفعل المؤيدة الصادرة عن ممثلي حزب ماكرون «الجمهورية إلى الأمام»، جاءت ردود الأفعال الأخرى، يميناً ويساراً، بالغة القساوة. فقد أعلنت مارين لوبن، رئيسة حزب «التجمع الوطني»، اليمني المتطرف، التي كانت منافسة ماكرون في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الماضية، في تغريدة مقتضبة، أن خطاب الرئيس الفرنسي «كلام فارغ». وعلى المقلب الثاني للخريطة السياسية، اعتبر جان لوك ميلونشون، رئيس حزب «فرنسا المتمردة» اليساري المتشدد، أن ما قاله ماكرون «إعلان حرب على ملايين من الفرنسيين الذين يرفضون خططه الإصلاحية، فيما بقية ما جاء في كلمته مصطنع وفارغ». وبرأي ميلونشون، فإنه خطاب شخص جاء «من كوكب آخر» للتشديد على أنه لا يأخذ بعين الاعتبار واقع الفرنسيين الحقيقي.
بين هذين الحدين، جاءت ردود الفعل الأخرى بمثابة «تنويعات». فقد اعتبر فابيان روسيل، أمين عام الحزب الشيوعي أن ماكرون اختار الصدام، ولذا فإن المطلوب «التعبئة العامة» لإسقاط مشروعه. وتجدر الإشارة إلى أن نقابة «كونفدرالية العمل العامة» القريبة من الحزب الشيوعي هي الأكثر جذرية في رفض المشروع. واللافت أن ماكرون أشار في كلمته إلى أنه يتعني على الحكومة التوصل إلى «تسوية» مع «النقابات التي ترغب في ذلك»، ما يعني ضمناً أنه يستبعد قبول النقابة المذكورة بالتسوية التي يدعو إليها. ومن جانبه، قال جوليان بايو، أمين عام حزب الخضر، إن ماكرون «تحدث 17 دقيقة، دون أن يقل شيئاً محسوساً». ومن جانبه، رأى النائب لوك كارفناس، عن الحزب الاشتراكي، أن ماكرون يدعي التهدئة، لكنه «اختار المواجهة، ولذا فإن المواطنين سيكونون أكثر قلقاً». ولم تختلف ردة فعل اليمين الكلاسيكي ممثلاً بحزب «الجمهوريون». فقد اعتبر النائب إريك سيوتي أن ماكرون قدم خطاباً «مطولاً، لكنه فارغ وفاقد الروح وغابت عنه أي رؤية».
أما على الجبهة النقابية، فلم تكن ردود الفعل أقل حدة، إذ اعتبر فيليب مارتينيز، أمين عام نقابة «الكونفدرالية العامة للعمل»، أن ماكرون «سجين برجه العاجي، ويعتبر أن الأمور كافة تسير بشكل جيد في البلاد». وكرر مارتينز مطلبه، الذي لا تحيد نقابته عنه، وهو «سحب المشروع» من التداول. وذهب إيف فيريه، أمين عام نقابة «القوة العاملة» في الاتجاه عينه، داعياً بالنزول بكثافة أكبر إلى الشوارع في التاسع من الشهر الحالي، يوم التعبئة الجماعية القادم. وحتى بعد ظهر أمس، لم يكن قد ظهر رد فعل من نقابة الكونفدرالية العامة للعمال، القريبة من الحزب الاشتراكي، التي ربطت استعدادها للخوض بخطة الحكومة بتراجعها عن رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً. وجعل لوران بيرجيه من هذه المسألة «خطأ أحمر». والحال أن ماكرون لم يأت على ذكر هذه المسألة، ما يعني أن الحكومة ستبقى متمسكة بها.
هكذا تبدو صورة الوضع في اليوم الأول من العام الجديد؛ كتلتان متواجهتان، وبينهما المواطنون الذين يعانون. واللافت أن ماكرون لم يأت بكلمة واحدة للتعبير عن تضامنه معهم. وثمة 3 استحقاقات متتالية في الأيام المقبلة، أولها يوم 7 الحالي، وهو موعد معاودة التفاوض بين رئيس الحكومة وممثلي النقابات، يليه بعد يومين يوم التعبئة العامة، ثم في العشرين من الحالي تقديم الصيغة النهائية للمشروع الإصلاحي لإقرارها في مجلس الوزراء. والتخوف أن تستمر عملية لي الذراع بين الحكومة والنقابات، ما يعني مزيداً من الصعوبات اليومية للمواطنين في تنقلاتهم بسبب الشلل الجزئي في وسائل النقل العامة والخسائر للقطاع الاقتصادي. وثمة من يعتبر أن الحكومة تراهن على انقلاب الرأي العام على المضربين، وتعب هؤلاء من حركة مطلبية دخلت يومها الثامن والعشرين.
يبقى أن ماكرون، وفق ما ظهر من كلمته، متمسك أكثر من أي وقت مضى، بصورته الإصلاحية وبالسير بمشروعاته، وقد يرى في تراجعه عن إصلاح أنظمة التقاعد مؤشر ضعف. ولذا فقد انتقد من سبقه من الرؤساء الذين تخلوا عن كل رغبة إصلاحية مع بدء النصف الثاني من ولايتهم، لأنهم كانوا حريصين على عدم إغضاب أحد لحسابات انتخابية، بينما هو مستمر في إصلاحاته.
ماكرون يؤكد السير بمشروع إصلاح أنظمة التقاعد... والنقابات ماضية في رفضه
ردود فعل سلبية على كلمة الرئيس... ويوم تعبئة جديد الخميس المقبل
ماكرون يؤكد السير بمشروع إصلاح أنظمة التقاعد... والنقابات ماضية في رفضه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة