السياب... مبتكر الأنهار العظيمة وعابر الأزمنة

بقي في الثامنة والثلاثين من عمره لم يكبر ولم يهرم

بدر شاكر السيَّاب
بدر شاكر السيَّاب
TT

السياب... مبتكر الأنهار العظيمة وعابر الأزمنة

بدر شاكر السيَّاب
بدر شاكر السيَّاب

مرَّت علينا قبل أيام الذكرى الخامسة والخمسون لرحيل شاعر الحداثة العربية بدر شاكر السيَّاب، ذلك الرحيل المبكر الذي فتح باباً كبيراً لم يكن يخطر ببال السيَّاب. فمنذ رحيله حتى هذه اللحظة، لم تستطع الشعرية العربية وهي تتحدث عن مشروعها التحديثي أنْ تتجاوز السيَّاب، أو تغض النظر النقدي عن مشروعه الحقيقي. وحين نتأمل السنوات الخمس والخمسين التي طوت السيَّاب، سنرى أنَّها سنوات طويلة، فالأطفال الذين ولدوا في ذلك التاريخ ها هم قد أصبحوا أجداداً، وابيضت لحاهم وشاخوا، ولكن السيَّاب بقي في الثامنة والثلاثين من عمره، لم يكبر ولم يهرم، بل فتح غيابُه المبكر شهية النقاد للنبش بهذه التجربة العظيمة، حتى وصل مرحلة كبرى في أنْ يحظى «السيَّاب» بأكبر القراءات النقدية، وأكثرها كماً ونوعاً، بل لا تكاد تظهر دراسة نقدية عن الشعر الحديث إلَّا وكان «السياب» محورها الرئيس، فأي مجدٍ ممكن أنْ يحظى به الشاعر أكثر من هذا المجد؛ أنْ تبقى صالحاً للتداول رغم تغير الأزمنة والأحوال.
إنَّ واحدة من أجمل خصائص شعر «السياب» أنَّه يكبر، أي أنَّ شعره يكبر مع القارئ شيئاً فشيئاً، بمعنى أنَّ القارئ البسيط الذي يقرأ «السياب» سيجد ضالته في بدايات السياب ورومانسيته، وغنائيته العالية:
يا ليتني قد صرتُ ديواني
لأفـرَّ مــن صــدرٍ إلى ثـانِ
حتى قصيدته التي افتتح فيها المشروع الحداثي «هل كان حباً»، وهي قصيدة غنائية تنتمي في روحها للتجربة الكلاسيكية، وليست للتجربة الواقعية أو الحداثية. وبمرور الوقت ونمو عقل القارئ، وتفتح مداركه، واتساع أفقه، سيجد في الوقت نفسه نصوصاً للسيَّاب تلبَّي جوع القارئ الفكري والمعرفي والثقافي (أتعلمين أي حزنٍ يبعث المطرْ - وكيف تنشج المزاريب إذا انهمرْ - وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع - بلا انتهاء كالدم المراق كالجياع - كالحب كالميلاد كالموتى هو المطر). وبهذه الزاوية البسيطة، يتحقق شيءٌ مهمٌ في شعر السيَّاب، وهو أنَّه يكبر كلَّما كبر قارئه، وأقصد بكبر القارئ تمرين عقله على المعارف والثقافات التي كلَّما هضمها كان متلقياً منتجاً، وكأنَّه شريكٌ للسياب في كتابته، ولو بعد موته بخمسة وخمسين عاماً.
وهنا، نتساءل ما الذي يمكن أنْ نكتب عن السيَّاب بعد هذا الكم الهائل الذي كتب عنه، نقداً وتحليلاً وتشريحاً واحتفاءً؟ هل بقيت زوايا معتمة لم يضئها النقد أو لم يكتشفها النقاد الماهرون؟ بالتأكيد، فإنَّ معظم مساحة السيَّاب الشعرية مرَّت عليها عربات النقد، وحرثت أرضها، وأتت أُكلها في أنْ تصدَّرَ للعالم العربي أحد أهم قاماته الشعرية التي فتحت باب الحداثة عريضاً، ليدخل من بعده أفواج الشعراء، مضيفين لهذه التجربة المهمة كثيراً من مفاصل الحداثة التي لم تطأها أقدام السيَّاب.
وأظنُّ أنَّ السيَّاب أصبح العقدة الأكثر والأكبر في الشعرية العربية، ذلك أنَّه رحل مبكراً، ولكنه أنتج الكثير، وكأنَّه كان يستشعر الغياب المفاجئ، فتسابق مع الزمن لينتج هذا «الكم النوعي» من الدواوين الشعرية التي قطع أغلب الطريق فيها على معظم التجارب التي تحاول أنْ تخرج من عباءة الرواد، وكان من أكثر الشعراء عقدة للجيل «الستيني»، الجيل الذي جاء بعد تجربة الرواد، وبالأخص لدى الشاعر الناقد سامي مهدي الذي دائماً ما كان يحاول أن يقدم البيَّاتي على السيَّاب شعرياً، فيقول في كتابه «ذاكرة الشعر»: «أكيد أنَّ المهم هنا ليس السبق في كتابة قصيدة تختلف أبياتها في عدد تفعيلاتها وتتنوع قوافيها، بل السبق في كتابة ما يصح وصفه بأنَّه شعر عربي حديث، وفي هذا المضمار قد يكون البياتي أسبق منهم جميعاً». ويقدم نازك الملائكة نقدياً وثقافياً على السيَّاب أيضاً، بقوله فيما كتبوه عن دواوينهم الأولى وتصوراتهم لما سيكون، فيقول سامي عن نازك: «أما الملائكة، فبدا وعيها أعمق وطموحها أبعد»، وواضح ما عُرف به سامي مهدي من مواقف وقراءات، تميل في أغلبها نحو إعلاء شأن مجايلي السيَّاب، ومحاولة إظهار السيَّاب بثقافة بسيطة متدنية مقارنة بمجايليه، وظهر هذا الأمر في مواضع كثيرة أوردها سامي مهدي في مقالات وكتب. ولسنا هنا بصدد هذا الموضوع، إنما بصدد السنوات التي مرَّت على رحيل السيَّاب، ولكنَّها أبقته مضيئاً، فما الوصفة التي استخدمها السيَّاب في كتابة شعره لكي يبقى مشعاً خالداً متداولاً؟
يقول البعض إن ذلك الاهتمام جاء بسبب التعاطف الذي حصل بعد وفاة السياب، والمرض الذي مر به، والموت المبكر؛ كل ذلك صنع جواً عاماً ألهب مشاعر الناس والنقاد في أنْ يتعاطفوا مع السياب. ولكن هذا الكلام مردود تماماً، فمن الممكن أنْ يتعاطف مجايلوه، أو القريبون منه، زمنياً ومكانياً، في أنْ يكتبوا عن شعره تعاطفاً مع مرضه وفقره وموته، ولكن كيف يمكن أنْ يبقى هذا التعاطف بعد أكثر من خمسين سنة، وكل الشهود ماتوا، ولم يبق إلَّا شعر السيَّاب عارياً أمام أجيالٍ قرأتْ وجربتْ أنواع الكتابات، ومناطق التجريب، لتعود في النهاية إلى النبع الذي حفره السيَّاب، فما هو هذا السحر؟
يرى البعض قدرة السياب اللغوية ومكنته العالية من التراث الأدبي، فيما يرى البعض الآخر قدرته التصويرية ومهارته في صناعة الصورة الشعرية، بينما يرى آخرون قدرة السيَّاب على استدعاء الأسطورة والميثولوجيا بصفته أول من استدعاهن، وإنْ كان بشكل بدائي، والبعض الآخر ينظر لتحولاته السياسية: فمرة شيوعي، ومرة قومي، وأخرى إسلامي ربما، والبعض تحدَّث عن مهارته في الأوزان وتطويعها، والموضوعات وجدتها، و... و... و...، وهناك كثير من الزوايا التي رصدها النقاد في عظمة شعر السيَّاب.
ولكن أعتقد أنَّ ما يخلد الشعراء هو حجم النبوءة في قصائدهم، وليس طاقة الجمال التصويري أو اللغوي وحدهما، فالشعر الذي يحمل رؤية تخرق الزمان وتعبره هو شعر خالد بالنتيجة، ذلك أنَّه يستطيع أنْ يتكيَّف مع أجيال قادمة، وهذا ما دأب عليه شعر السيَّاب في (أنشودة المطر، وفي غريب على الخليج، وفي المومس العمياء، وفي الأسلحة والأطفال، وفي مدينة بلا مطر، وفي أغنية في شهر آب، وفي عشرات النصوص). فمثلاً، يقول في «مدينة بلا مطر»: «وسار صغار بابل يحملون سلال صبارِ - وفاكهة من الفخَّارِ قرباناً لعشتارِ - ويشعل خاطف البرقِ - بظلٍ من ظلال الماء والخضراء والنارِ - وجوههم المدورة الصغيرة وهي تستسقي - ورفَّ كأنَّ ألفَ فراشة رفّتْ على الأفقِ - نشيدهم الصغير - قبور أخوتنا تنادينا - وتبحث عنك أيدينا (...) ويختمها: ولكنْ خفقة الأقدام والأيدي - وكركرة وآهُ صغيرة قبضتْ بيمناها - على قمرٍ يرفرف كالفراشة، أو على نجمة - على هبة من الغيم - على رعشات ماءٍ قُطّرتْ همستْ بها نسمة - لنعلم أنَّ بابل سوف تغسل من خطاياها».
إنَّ طاقة الرؤية التي تكتنف معظم نصوص السيَّاب، وبالأخص تجاربه المتأخرة، هي التي تمنح طاقة الخلود لتلك النصوص، ذلك أن جغرافية التلقي تبقى حدودها مفتوحة إزاء نصوص كهذه، لا تُحدُّ بزمانٍ ولا بمكان. فمثلاً، في «أنشودة المطر» يقول: «أصيح بالخليج يا خليج - يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى - فيرجع الصدى - كأنَّه النشج - يا خليج - يا واهب المحار والردى - أكاد أسمع العراق يذخر الرعود - ويخزن البروق في السهول والجبال - حتى إذا ما فضَّ ختمها الرجال - لم تترك الرياح من ثمود - في الواد من أثر- أكاد أسمع النخيل يشرب المطر - وأسمع القرى تئن والمهاجرين - يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع - عواصف الخليج والرعود منشدين - مطر - مطر - مطر». فالطاقة التي حمَّلها السيَّاب لمفردة «لنعلم أنَّ بابل في مدينة بلا مطر» و«أكاد أسمع النخيل في أنشودة المطر» هي طاقة الرؤية العابرة للزمن الذي كان يعيشه السيَّاب، لذلك هي صالحة طازجة في عصرنا هذا، كما أنَّها ستبقى محمَّلة بهذه الحمولة الاستشرافية، لأنها صادرة من وعي استشرافي غير مؤمن بمحدودية الزمان والمكان.
وهنا، أتذكر أنه قبل أكثر من عام استضفنا في اتحاد الأدباء في العراق الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين، وقد تكفلتُ بتقديمه في تلك الأمسية بما يليق به، ومن ثم دعوتُه إلى المنصَّة ليقرأ شعراً، ولكنَّه تحدَّث في البداية عن أول مرة يأتي فيها إلى العراق، وكان ذلك في عام 1971 في المربد، وفي البصرة تحديداً؛ يقول شمس الدين: «ذهبتُ إلى البصرة وفي رأسي شيئان فقط: أنْ أرى نهر بويب العظيم، وشبَّاك وفيقة. وبعد أنْ وصلنا البصرة، ذهبنا بعد أيام لقضاء أبي الخصيب، ومن ثم لجيكور، لرؤية النهر العظيم بويب، وحين وصلنا رأيت شبَّاك وفيقة عبارة عن ثقبٍ في جدار، أمَّا نهر بويب العظيم، فوجدتُه خيطاً ناشفاً من الماء بين النخيل؛ عندها أدركت أنَّ الأنهار يبتكرها الشعراء، وأنَّ المدن يصنعها الخيال».



مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
TT

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف صرح لمعبد بطلمي في محافظة سوهاج (جنوب مصر). وذكرت البعثة الأثرية المشتركة بين «المجلس الأعلى للآثار» في مصر وجامعة «توبنغن» الألمانية أنه جرى اكتشاف الصرح خلال العمل في الناحية الغربية لمعبد أتريبس الكبير.

وعدّ الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، الدكتور محمد إسماعيل خالد، هذا الكشف «النواة الأولى لإزاحة الستار عن باقي عناصر المعبد الجديد بالموقع»، وأوضح أنّ واجهة الصرح التي كُشف عنها بالكامل يصل اتساعها إلى 51 متراً، مقسمة إلى برجين؛ كل برج باتّساع 24 متراً، تفصل بينهما بوابة المدخل.

ولفت إسماعيل إلى أنّ الارتفاع الأصلي للصرح بلغ نحو 18 متراً، وفق زاوية ميل الأبراج، ما يضاهي أبعاد صرح معبد الأقصر، مؤكداً على استكمال أعمال البعثة في الموقع للكشف عن باقي المعبد بالكامل خلال مواسم الحفائر المقبلة، وفق بيان للوزارة.

جانب من صرح المعبد المُكتشف (وزارة السياحة والآثار)

بدوره، قال رئيس «الإدارة المركزية لآثار مصر العليا»، ورئيس البعثة من الجانب المصري، محمد عبد البديع، إنه كُشف عن النصوص الهيروغليفية التي تزيّن الواجهة الداخلية والجدران، خلال أعمال تنظيف البوابة الرئيسية التي تتوسَّط الصرح، كما وجدت البعثة نقوشاً لمناظر تصوّر الملك وهو يستقبل «ربيت» ربة أتريبس، التي تتمثّل برأس أنثى الأسد، وكذلك ابنها المعبود الطفل «كولنتس».

وأوضح أنّ هذه البوابة تعود إلى عصر الملك بطليموس الثامن الذي قد يكون هو نفسه مؤسّس المعبد، ومن المرجح أيضاً وجود خرطوش باسم زوجته الملكة كليوباترا الثالثة بين النصوص، وفق دراسة الخراطيش المكتشفة في المدخل وعلى أحد الجوانب الداخلية.

وقال رئيس البعثة من الجانب الألماني، الدكتور كريستيان ليتز، إنّ البعثة استكملت الكشف عن الغرفة الجنوبية التي كان قد كُشف عن جزء منها خلال أعمال البعثة الأثرية الإنجليزية في الموقع بين عامَي 1907 و1908، والتي زُيّن جانبا مدخلها بنصوص هيروغليفية ومناظر تمثّل المعبودة «ربيت» ورب الخصوبة «مين» وهو محوط بهيئات لمعبودات ثانوية فلكية، بمثابة نجوم سماوية لقياس ساعات الليل.

رسوم ونجوم تشير إلى ساعات الليل في المعبد البطلمي (وزارة السياحة والآثار)

وأضاف مدير موقع الحفائر من الجانب الألماني، الدكتور ماركوس مولر، أنّ البعثة كشفت عن غرفة في سلّم لم تكن معروفة سابقاً، ويمكن الوصول إليها من خلال مدخل صغير يقع في الواجهة الخارجية للصرح، وتشير درجات السلالم الأربع إلى أنها كانت تقود إلى طابق علوي تعرّض للتدمير عام 752.

يُذكر أنّ البعثة المصرية الألمانية المشتركة تعمل في منطقة أتريبس منذ أكثر من 10 سنوات؛ وأسفرت أعمالها عن الكشف الكامل لجميع أجزاء معبد أتريبس الكبير، بالإضافة إلى ما يزيد على 30 ألف أوستراكا، عليها نصوص ديموطيقية وقبطية وهيراطيقة، وعدد من اللقى الأثرية.

وعدَّ عالم الآثار المصري، الدكتور حسين عبد البصير، «الكشف عن صرح معبد بطلمي جديد في منطقة أتريبس بسوهاج إنجازاً أثرياً كبيراً، يُضيء على عمق التاريخ المصري في فترة البطالمة، الذين تركوا بصمة مميزة في الحضارة المصرية». وقال لـ«الشرق الأوسط» إنّ «هذا الاكتشاف يعكس أهمية أتريبس موقعاً أثرياً غنياً بالموروث التاريخي، ويُبرز تواصل الحضارات التي تعاقبت على أرض مصر».

ورأى استمرار أعمال البعثة الأثرية للكشف عن باقي عناصر المعبد خطوة ضرورية لفهم السياق التاريخي والمعماري الكامل لهذا الصرح، «فمن خلال التنقيب، يمكن التعرّف إلى طبيعة استخدام المعبد، والطقوس التي مورست فيه، والصلات الثقافية التي ربطته بالمجتمع المحيط به»، وفق قوله.

ووصف عبد البصير هذا الاكتشاف بأنه «إضافة نوعية للجهود الأثرية التي تُبذل في صعيد مصر، ويدعو إلى تعزيز الاهتمام بالمواقع الأثرية في سوهاج، التي لا تزال تخفي كثيراً من الكنوز».