تركيا... رفاق إردوغان القدامى ينقلبون عليه

الأزمات مع أوروبا وأميركا و«الناتو» مرشحة للتصعيد في 2020... والتقارب مع روسيا رهن برؤية موسكو

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلوح لأعضاء حزبه {العدالة والتنمية} في البرلمان في المؤتمر الوطني العام بأنقرة في أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلوح لأعضاء حزبه {العدالة والتنمية} في البرلمان في المؤتمر الوطني العام بأنقرة في أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
TT

تركيا... رفاق إردوغان القدامى ينقلبون عليه

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلوح لأعضاء حزبه {العدالة والتنمية} في البرلمان في المؤتمر الوطني العام بأنقرة في أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلوح لأعضاء حزبه {العدالة والتنمية} في البرلمان في المؤتمر الوطني العام بأنقرة في أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)

يحل عام 2020 على تركيا حاملاً ملامح مرحلة سياسية جديدة عنوانها «التغيير» و«تعديل المسار»... أبطال هذه المرحلة هم مجموعة من رفاق الطريق الذين صاحبوا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في رحلة بناء وصعود حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، لكنهم اضطروا للافتراق عنه بعد أن بدا لهم أن كل شيء لم يعد كما كان، وأن التغيير وتعديل المسار أصبحا حتمية تفرضها حالة النكوص عن المبادئ الأساسية التي بني عليها الحزب، فضلاً عن قيم الجمهورية التركية كدولة قانون وديمقراطية.
كانت الانتخابات المحلية التي شهدتها تركيا في نهاية مارس (آذار) 2019 نقطة فاصلة في تفجير حالة الغضب التي بدأت تتفاعل في صفوف حزب «العدالة والتنمية» قبل الاستفتاء على تعديل الدستور في 16 أبريل (نيسان) 2017 والانقسام على تغيير النظام البرلماني الذي حُكمت به الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك، إلى النظام الرئاسي الذي تمسك به إردوغان وكان سبباً رئيسياً للخلافات الحادة بينه وبين رفاقه من مؤسسي الحزب، وفي مقدمهم رئيس الجمهورية السابق عبد الله غل ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو ونائب رئيس الوزراء الأسبق علي بابا جان ومجموعة كبيرة من القيادات التي رفضت النظام الرئاسي ورأت أنه محاولة لتكريس حكم الفرد والقضاء على ما تبقى من ديمقراطية وحريات.
جاءت النتائج غير المسبوقة في تراجعها بالنسبة إلى حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في الانتخابات المحلية وخسارته أكبر المعاقل التقليدية في إسطنبول ومعها أنقرة وإزمير وأضنة ومرسين لتؤكد أن رفاق إردوغان القدامى كانوا على حق. فبدأت أصواتهم تتعالى في انتقاده وتحميله المسؤولية عن الانسداد الذي وصلت إليه البلاد على جميع الأصعدة، سواء من إشاعة مناخ الاستقطاب وخنق الحريات والتناحر الاجتماعي إلى تردي الوضع الاقتصادي، إلى التخبط في السياسة الخارجية، أو بتعبير نائب رئيس الوزراء علي بابا جان، الذي يستعد لإطلاق حزب سياسي جديد منافس لحزبه الأصلي (العدالة والتنمية) بدعم من رئيس الجمهورية السابق عبد الله غل، «دخول البلاد في نفق مظلم بسبب تعاظم الأزمات في كل المجالات كل يوم».
يُجمع رفاق إردوغان القدامى على أن تركيا باتت في حاجة إلى روح جديدة وفكر جديد ورؤية جديدة تقودها إلى المستقبل بعد أن أثبت حزب «العدالة والتنمية» عجزه عن التعامل مع مشكلات البلاد وشعبها.
بين وقت وآخر كان رفاق إردوغان القدامى يرفعون أصواتهم بانتقاد بعض سياساته وقراراته في السياسة الداخلية والخارجية وبالنسبة للوضع الاقتصادي أو لحملات الاعتقالات التي لم تتوقف منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15 يوليو (تموز) 2016، ولكن عقب الانتخابات المحلية، تحولت هذه الانتقادات إلى تحركات في إطار مسيرة جديدة يخوضها رفاق إردوغان لإنقاذ البلاد وإعادتها إلى مسارها تحت شعار التغيير.
تُرجمت هذه التحركات في انشقاق كل من نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الأسبق ومهندس الطفرة الاقتصادية في تركيا في عهد «العدالة والتنمية» قبل بدء مرحلة التراجع الأخيرة، علي بابا جان، الذي استقال من الحزب الحاكم في 9 يوليو الماضي، معلناً أن البلاد باتت بحاجة إلى رؤية جديدة تلبي طموحات الأجيال الجديدة إلى التغيير وإلى مستقبل أفضل.
أعقب ذلك، في 13 سبتمبر (أيلول) الماضي، استقالة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، مهندس السياسة الخارجية في مرحلة «صفر المشاكل مع دول الجوار»، ثم اتخذ الخطوة الأولى الأكبر في تحدي إردوغان، بإطلاقه حزباً سياسياً جديداً باسم «حزب المستقبل»، في 13 ديسمبر (كانون الأول)، ليحسم الجدل الذي تصاعد في الأشهر الأخيرة حول نيته إطلاق هذا الحزب بعد استقالته من «العدالة والتنمية».
وأعلن داود أوغلو أن «حزب المستقبل» سيعمل على تعزيز القوة الدبلوماسية لتركيا في كل المحافل الدولية، وسيتبع سياسة الانفتاح على جميع قارات العالم، وسيكافح سياسة الانغلاق على الداخل التي تتبعها معظم بلدان العالم في الوقت الراهن، مشيراً إلى ضرورة إقامة علاقات بناءة مع جميع القوى الفاعلة.
بلورة رؤية جديدة للتغيير تلبي مطالب قطاعات واسعة من الشعب التركي ترى أن البلاد باتت رهينة لحكم الفرد الواحد والحزب الواحد لما يقرب من عقدين من الزمان، هو الدافع الحقيقي لهذا التحرك، ولتحرك بابا جان الذي أعلن أن حزبه الجديد الذي سيكون الحزب الثاني الذي يولد من رحم «العدالة والتنمية»، سيرى النور في بدايات عام 2020.
ظهر بابا جان مؤخراً، للمرة الأولى منذ ما يقرب من 5 سنوات، ليؤكد أن جهود إطلاق حزبه بلغت أمتارها الأخيرة، من المنطلق ذاته الذي تحرك في إطاره داود أوغلو رغم اختلاف المنهج بينهما.
قال بابا جان إنه استقال من «العدالة والتنمية» بعد خلافات عميقة «عندما وجد انحرافاً من الحزب في القيم، وليس في المبادئ فقط، فضلاً عن التعسف في اتخاذ القرارات داخل الحزب»، تماماً كما قال داود أوغلو من قبله. وأضاف أن «الأزمات تعاظمت في كل المجالات، وشعرنا أن البلاد دخلت نفقاً مظلماً مع تزايد مشاكلها في كل قضية كل يوم... وبالتالي بدأنا جهودنا لإنشاء حزب جديد».
ويرى مراقبون أن كل هذه التطورات - سواءً الداخلية أو الخارجية - ترتبط في الأساس بسياسات إردوغان وخطابه التصعيدي الحاد، الذي يتجاوز في كثير من المناسبات القواعد الدبلوماسية المتعارف عليها في علاقات الدول. بل إن هذا الخطاب يكلّف تركيا خسائر كبيرة سواء لناحية عزلتها في محيطيها الإقليمي والدولي أو لناحية استمرار الهزّات التي تعصف باقتصادها.
لم تستطع حكومة إردوغان فك عقد السياسة الخارجية، بل زادتها تعقيداً، فالتقارب مع روسيا من أجل الضغط على أميركا لم يقد سوى إلى مزيد من الأزمات، التي تجلت بشكل واضح في تبني لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي مشروع قانون لفرض عقوبات على تركيا بسبب اقتنائها منظومة «إس 400» الصاروخية الروسية التي تثير الخلافات بين أنقرة وواشنطن وحلفاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) بسبب عدم التوافق بينها وبين الأنظمة الدفاعية للحلف، وكذلك بسبب العملية العسكرية التركية في شمال شرقي سوريا المسماة «نبع السلام» التي قبلت بها واشنطن في بدايتها ثم ضغطت بعد أسبوع واحد لإنهائها.
وتصاعد التوتر أكثر وأكثر مع موافقة مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع في 13 ديسمبر (كانون الأول) على مشروع قرار تعترف فيه الولايات المتحدة، للمرة الأولى، بالأحداث التي شهدتها منطقة شرق الأناضول في عام 1915 في زمن الحرب العالمية الأولى على أنها «إبادة جماعية» للأرمن على أيدي العثمانيين.
وإذا كانت تركيا تتقارب اقتصاديا، وكذلك في الملف السوري، مع روسيا، فإن الواضح أن روسيا تتحرك في سوريا بأجندتها الخاصة، وتضغط على تركيا بملف الجماعات الإرهابية، وفي مقدمتها «جبهة النصرة» في إدلب، فضلاً عما يبدو من أنه محاولة روسية غير معلنة لسحب تركيا بعيداً عن حلف «الناتو»، وهو ما أثمر في الأشهر الماضية على شكل دعوات من العديد من دول «الناتو» لإخراج تركيا من الحلف عقاباً لها على التقارب مع روسيا، وكذلك على التحرك المنفرد في سوريا.
ومن أزمة إلى أخرى، تتنقل السياسة التركية بما يشبه الإصرار على إبقاء التوتر مشتعلاً على جبهات مختلفة، فيما يشبه - في نظر بعض المراقبين - استعراضا للعضلات من جانب تركيا التي اهتز اقتصادها بعنف بسبب التوتر مع واشنطن في 2018، لكنها تصر على استمرار التوتر، ملوحة بإنهاء الوجود العسكري الأميركي في قاعدتي إنجرليك وكورجيك.
كما تلتزم تركيا نهج التصعيد في منطقة شرق البحر المتوسط، بعد أن أطلقت في مايو (أيار) الماضي عمليات بحث وتنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحل قبرص أدت إلى توتر مع دول المنطقة والاتحاد الأوروبي، الذي أقر عقوبات «تحذيرية» على تركيا بسبب ما اعتبره انتهاكاً للقانون الدولي بالتنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص الدولة العضو فيه.
وفي خطوة أخرى تصعيدية، أغضبت الاتحاد الأوروبي وأثارت توتراً إقليمياً ودولياً، وقّعت تركيا قبل أسابيع مذكرتي تفاهم مع حكومة الوفاق الوطني الليبية برئاسة فائز السراج إحداهما في مجال التعاون العسكري والأمني والثانية في مجال تحديد مناطق السيادة البحرية. وصبّت المذكرتان مزيداً من الزيت على النار المشتعلة في شرق المتوسط، وتسببت في مزيد من العقبات في طريق مساعي تركيا للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي والتي لم تشهد تقدماً منذ سنين ولا يتوقع أن تشهد أي جديد خلال عام 2020.


مقالات ذات صلة

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.