تركيا... رفاق إردوغان القدامى ينقلبون عليه

الأزمات مع أوروبا وأميركا و«الناتو» مرشحة للتصعيد في 2020... والتقارب مع روسيا رهن برؤية موسكو

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلوح لأعضاء حزبه {العدالة والتنمية} في البرلمان في المؤتمر الوطني العام بأنقرة في أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلوح لأعضاء حزبه {العدالة والتنمية} في البرلمان في المؤتمر الوطني العام بأنقرة في أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
TT

تركيا... رفاق إردوغان القدامى ينقلبون عليه

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلوح لأعضاء حزبه {العدالة والتنمية} في البرلمان في المؤتمر الوطني العام بأنقرة في أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلوح لأعضاء حزبه {العدالة والتنمية} في البرلمان في المؤتمر الوطني العام بأنقرة في أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)

يحل عام 2020 على تركيا حاملاً ملامح مرحلة سياسية جديدة عنوانها «التغيير» و«تعديل المسار»... أبطال هذه المرحلة هم مجموعة من رفاق الطريق الذين صاحبوا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في رحلة بناء وصعود حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، لكنهم اضطروا للافتراق عنه بعد أن بدا لهم أن كل شيء لم يعد كما كان، وأن التغيير وتعديل المسار أصبحا حتمية تفرضها حالة النكوص عن المبادئ الأساسية التي بني عليها الحزب، فضلاً عن قيم الجمهورية التركية كدولة قانون وديمقراطية.
كانت الانتخابات المحلية التي شهدتها تركيا في نهاية مارس (آذار) 2019 نقطة فاصلة في تفجير حالة الغضب التي بدأت تتفاعل في صفوف حزب «العدالة والتنمية» قبل الاستفتاء على تعديل الدستور في 16 أبريل (نيسان) 2017 والانقسام على تغيير النظام البرلماني الذي حُكمت به الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك، إلى النظام الرئاسي الذي تمسك به إردوغان وكان سبباً رئيسياً للخلافات الحادة بينه وبين رفاقه من مؤسسي الحزب، وفي مقدمهم رئيس الجمهورية السابق عبد الله غل ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو ونائب رئيس الوزراء الأسبق علي بابا جان ومجموعة كبيرة من القيادات التي رفضت النظام الرئاسي ورأت أنه محاولة لتكريس حكم الفرد والقضاء على ما تبقى من ديمقراطية وحريات.
جاءت النتائج غير المسبوقة في تراجعها بالنسبة إلى حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في الانتخابات المحلية وخسارته أكبر المعاقل التقليدية في إسطنبول ومعها أنقرة وإزمير وأضنة ومرسين لتؤكد أن رفاق إردوغان القدامى كانوا على حق. فبدأت أصواتهم تتعالى في انتقاده وتحميله المسؤولية عن الانسداد الذي وصلت إليه البلاد على جميع الأصعدة، سواء من إشاعة مناخ الاستقطاب وخنق الحريات والتناحر الاجتماعي إلى تردي الوضع الاقتصادي، إلى التخبط في السياسة الخارجية، أو بتعبير نائب رئيس الوزراء علي بابا جان، الذي يستعد لإطلاق حزب سياسي جديد منافس لحزبه الأصلي (العدالة والتنمية) بدعم من رئيس الجمهورية السابق عبد الله غل، «دخول البلاد في نفق مظلم بسبب تعاظم الأزمات في كل المجالات كل يوم».
يُجمع رفاق إردوغان القدامى على أن تركيا باتت في حاجة إلى روح جديدة وفكر جديد ورؤية جديدة تقودها إلى المستقبل بعد أن أثبت حزب «العدالة والتنمية» عجزه عن التعامل مع مشكلات البلاد وشعبها.
بين وقت وآخر كان رفاق إردوغان القدامى يرفعون أصواتهم بانتقاد بعض سياساته وقراراته في السياسة الداخلية والخارجية وبالنسبة للوضع الاقتصادي أو لحملات الاعتقالات التي لم تتوقف منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15 يوليو (تموز) 2016، ولكن عقب الانتخابات المحلية، تحولت هذه الانتقادات إلى تحركات في إطار مسيرة جديدة يخوضها رفاق إردوغان لإنقاذ البلاد وإعادتها إلى مسارها تحت شعار التغيير.
تُرجمت هذه التحركات في انشقاق كل من نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الأسبق ومهندس الطفرة الاقتصادية في تركيا في عهد «العدالة والتنمية» قبل بدء مرحلة التراجع الأخيرة، علي بابا جان، الذي استقال من الحزب الحاكم في 9 يوليو الماضي، معلناً أن البلاد باتت بحاجة إلى رؤية جديدة تلبي طموحات الأجيال الجديدة إلى التغيير وإلى مستقبل أفضل.
أعقب ذلك، في 13 سبتمبر (أيلول) الماضي، استقالة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، مهندس السياسة الخارجية في مرحلة «صفر المشاكل مع دول الجوار»، ثم اتخذ الخطوة الأولى الأكبر في تحدي إردوغان، بإطلاقه حزباً سياسياً جديداً باسم «حزب المستقبل»، في 13 ديسمبر (كانون الأول)، ليحسم الجدل الذي تصاعد في الأشهر الأخيرة حول نيته إطلاق هذا الحزب بعد استقالته من «العدالة والتنمية».
وأعلن داود أوغلو أن «حزب المستقبل» سيعمل على تعزيز القوة الدبلوماسية لتركيا في كل المحافل الدولية، وسيتبع سياسة الانفتاح على جميع قارات العالم، وسيكافح سياسة الانغلاق على الداخل التي تتبعها معظم بلدان العالم في الوقت الراهن، مشيراً إلى ضرورة إقامة علاقات بناءة مع جميع القوى الفاعلة.
بلورة رؤية جديدة للتغيير تلبي مطالب قطاعات واسعة من الشعب التركي ترى أن البلاد باتت رهينة لحكم الفرد الواحد والحزب الواحد لما يقرب من عقدين من الزمان، هو الدافع الحقيقي لهذا التحرك، ولتحرك بابا جان الذي أعلن أن حزبه الجديد الذي سيكون الحزب الثاني الذي يولد من رحم «العدالة والتنمية»، سيرى النور في بدايات عام 2020.
ظهر بابا جان مؤخراً، للمرة الأولى منذ ما يقرب من 5 سنوات، ليؤكد أن جهود إطلاق حزبه بلغت أمتارها الأخيرة، من المنطلق ذاته الذي تحرك في إطاره داود أوغلو رغم اختلاف المنهج بينهما.
قال بابا جان إنه استقال من «العدالة والتنمية» بعد خلافات عميقة «عندما وجد انحرافاً من الحزب في القيم، وليس في المبادئ فقط، فضلاً عن التعسف في اتخاذ القرارات داخل الحزب»، تماماً كما قال داود أوغلو من قبله. وأضاف أن «الأزمات تعاظمت في كل المجالات، وشعرنا أن البلاد دخلت نفقاً مظلماً مع تزايد مشاكلها في كل قضية كل يوم... وبالتالي بدأنا جهودنا لإنشاء حزب جديد».
ويرى مراقبون أن كل هذه التطورات - سواءً الداخلية أو الخارجية - ترتبط في الأساس بسياسات إردوغان وخطابه التصعيدي الحاد، الذي يتجاوز في كثير من المناسبات القواعد الدبلوماسية المتعارف عليها في علاقات الدول. بل إن هذا الخطاب يكلّف تركيا خسائر كبيرة سواء لناحية عزلتها في محيطيها الإقليمي والدولي أو لناحية استمرار الهزّات التي تعصف باقتصادها.
لم تستطع حكومة إردوغان فك عقد السياسة الخارجية، بل زادتها تعقيداً، فالتقارب مع روسيا من أجل الضغط على أميركا لم يقد سوى إلى مزيد من الأزمات، التي تجلت بشكل واضح في تبني لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي مشروع قانون لفرض عقوبات على تركيا بسبب اقتنائها منظومة «إس 400» الصاروخية الروسية التي تثير الخلافات بين أنقرة وواشنطن وحلفاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) بسبب عدم التوافق بينها وبين الأنظمة الدفاعية للحلف، وكذلك بسبب العملية العسكرية التركية في شمال شرقي سوريا المسماة «نبع السلام» التي قبلت بها واشنطن في بدايتها ثم ضغطت بعد أسبوع واحد لإنهائها.
وتصاعد التوتر أكثر وأكثر مع موافقة مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع في 13 ديسمبر (كانون الأول) على مشروع قرار تعترف فيه الولايات المتحدة، للمرة الأولى، بالأحداث التي شهدتها منطقة شرق الأناضول في عام 1915 في زمن الحرب العالمية الأولى على أنها «إبادة جماعية» للأرمن على أيدي العثمانيين.
وإذا كانت تركيا تتقارب اقتصاديا، وكذلك في الملف السوري، مع روسيا، فإن الواضح أن روسيا تتحرك في سوريا بأجندتها الخاصة، وتضغط على تركيا بملف الجماعات الإرهابية، وفي مقدمتها «جبهة النصرة» في إدلب، فضلاً عما يبدو من أنه محاولة روسية غير معلنة لسحب تركيا بعيداً عن حلف «الناتو»، وهو ما أثمر في الأشهر الماضية على شكل دعوات من العديد من دول «الناتو» لإخراج تركيا من الحلف عقاباً لها على التقارب مع روسيا، وكذلك على التحرك المنفرد في سوريا.
ومن أزمة إلى أخرى، تتنقل السياسة التركية بما يشبه الإصرار على إبقاء التوتر مشتعلاً على جبهات مختلفة، فيما يشبه - في نظر بعض المراقبين - استعراضا للعضلات من جانب تركيا التي اهتز اقتصادها بعنف بسبب التوتر مع واشنطن في 2018، لكنها تصر على استمرار التوتر، ملوحة بإنهاء الوجود العسكري الأميركي في قاعدتي إنجرليك وكورجيك.
كما تلتزم تركيا نهج التصعيد في منطقة شرق البحر المتوسط، بعد أن أطلقت في مايو (أيار) الماضي عمليات بحث وتنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحل قبرص أدت إلى توتر مع دول المنطقة والاتحاد الأوروبي، الذي أقر عقوبات «تحذيرية» على تركيا بسبب ما اعتبره انتهاكاً للقانون الدولي بالتنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص الدولة العضو فيه.
وفي خطوة أخرى تصعيدية، أغضبت الاتحاد الأوروبي وأثارت توتراً إقليمياً ودولياً، وقّعت تركيا قبل أسابيع مذكرتي تفاهم مع حكومة الوفاق الوطني الليبية برئاسة فائز السراج إحداهما في مجال التعاون العسكري والأمني والثانية في مجال تحديد مناطق السيادة البحرية. وصبّت المذكرتان مزيداً من الزيت على النار المشتعلة في شرق المتوسط، وتسببت في مزيد من العقبات في طريق مساعي تركيا للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي والتي لم تشهد تقدماً منذ سنين ولا يتوقع أن تشهد أي جديد خلال عام 2020.


مقالات ذات صلة

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة جوية لمدينة هرجيسا (من منصة أكس)

«أرض الصومال»... إقليم «استراتيجي» يبحث عن هدف صعب

بين ليلة وضحاها، غزا إقليم «أرض الصومال» - «الصومال البريطاني» سابقاً - عناوين الأخبار، ودقّ ذاكرة المتابعين، إثر إعلان توقيعه مذكرة تفاهم تمنح إثيوبيا منفذاً

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.