تركيا... رفاق إردوغان القدامى ينقلبون عليه

الأزمات مع أوروبا وأميركا و«الناتو» مرشحة للتصعيد في 2020... والتقارب مع روسيا رهن برؤية موسكو

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلوح لأعضاء حزبه {العدالة والتنمية} في البرلمان في المؤتمر الوطني العام بأنقرة في أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلوح لأعضاء حزبه {العدالة والتنمية} في البرلمان في المؤتمر الوطني العام بأنقرة في أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
TT

تركيا... رفاق إردوغان القدامى ينقلبون عليه

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلوح لأعضاء حزبه {العدالة والتنمية} في البرلمان في المؤتمر الوطني العام بأنقرة في أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلوح لأعضاء حزبه {العدالة والتنمية} في البرلمان في المؤتمر الوطني العام بأنقرة في أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)

يحل عام 2020 على تركيا حاملاً ملامح مرحلة سياسية جديدة عنوانها «التغيير» و«تعديل المسار»... أبطال هذه المرحلة هم مجموعة من رفاق الطريق الذين صاحبوا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في رحلة بناء وصعود حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، لكنهم اضطروا للافتراق عنه بعد أن بدا لهم أن كل شيء لم يعد كما كان، وأن التغيير وتعديل المسار أصبحا حتمية تفرضها حالة النكوص عن المبادئ الأساسية التي بني عليها الحزب، فضلاً عن قيم الجمهورية التركية كدولة قانون وديمقراطية.
كانت الانتخابات المحلية التي شهدتها تركيا في نهاية مارس (آذار) 2019 نقطة فاصلة في تفجير حالة الغضب التي بدأت تتفاعل في صفوف حزب «العدالة والتنمية» قبل الاستفتاء على تعديل الدستور في 16 أبريل (نيسان) 2017 والانقسام على تغيير النظام البرلماني الذي حُكمت به الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك، إلى النظام الرئاسي الذي تمسك به إردوغان وكان سبباً رئيسياً للخلافات الحادة بينه وبين رفاقه من مؤسسي الحزب، وفي مقدمهم رئيس الجمهورية السابق عبد الله غل ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو ونائب رئيس الوزراء الأسبق علي بابا جان ومجموعة كبيرة من القيادات التي رفضت النظام الرئاسي ورأت أنه محاولة لتكريس حكم الفرد والقضاء على ما تبقى من ديمقراطية وحريات.
جاءت النتائج غير المسبوقة في تراجعها بالنسبة إلى حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في الانتخابات المحلية وخسارته أكبر المعاقل التقليدية في إسطنبول ومعها أنقرة وإزمير وأضنة ومرسين لتؤكد أن رفاق إردوغان القدامى كانوا على حق. فبدأت أصواتهم تتعالى في انتقاده وتحميله المسؤولية عن الانسداد الذي وصلت إليه البلاد على جميع الأصعدة، سواء من إشاعة مناخ الاستقطاب وخنق الحريات والتناحر الاجتماعي إلى تردي الوضع الاقتصادي، إلى التخبط في السياسة الخارجية، أو بتعبير نائب رئيس الوزراء علي بابا جان، الذي يستعد لإطلاق حزب سياسي جديد منافس لحزبه الأصلي (العدالة والتنمية) بدعم من رئيس الجمهورية السابق عبد الله غل، «دخول البلاد في نفق مظلم بسبب تعاظم الأزمات في كل المجالات كل يوم».
يُجمع رفاق إردوغان القدامى على أن تركيا باتت في حاجة إلى روح جديدة وفكر جديد ورؤية جديدة تقودها إلى المستقبل بعد أن أثبت حزب «العدالة والتنمية» عجزه عن التعامل مع مشكلات البلاد وشعبها.
بين وقت وآخر كان رفاق إردوغان القدامى يرفعون أصواتهم بانتقاد بعض سياساته وقراراته في السياسة الداخلية والخارجية وبالنسبة للوضع الاقتصادي أو لحملات الاعتقالات التي لم تتوقف منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15 يوليو (تموز) 2016، ولكن عقب الانتخابات المحلية، تحولت هذه الانتقادات إلى تحركات في إطار مسيرة جديدة يخوضها رفاق إردوغان لإنقاذ البلاد وإعادتها إلى مسارها تحت شعار التغيير.
تُرجمت هذه التحركات في انشقاق كل من نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الأسبق ومهندس الطفرة الاقتصادية في تركيا في عهد «العدالة والتنمية» قبل بدء مرحلة التراجع الأخيرة، علي بابا جان، الذي استقال من الحزب الحاكم في 9 يوليو الماضي، معلناً أن البلاد باتت بحاجة إلى رؤية جديدة تلبي طموحات الأجيال الجديدة إلى التغيير وإلى مستقبل أفضل.
أعقب ذلك، في 13 سبتمبر (أيلول) الماضي، استقالة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، مهندس السياسة الخارجية في مرحلة «صفر المشاكل مع دول الجوار»، ثم اتخذ الخطوة الأولى الأكبر في تحدي إردوغان، بإطلاقه حزباً سياسياً جديداً باسم «حزب المستقبل»، في 13 ديسمبر (كانون الأول)، ليحسم الجدل الذي تصاعد في الأشهر الأخيرة حول نيته إطلاق هذا الحزب بعد استقالته من «العدالة والتنمية».
وأعلن داود أوغلو أن «حزب المستقبل» سيعمل على تعزيز القوة الدبلوماسية لتركيا في كل المحافل الدولية، وسيتبع سياسة الانفتاح على جميع قارات العالم، وسيكافح سياسة الانغلاق على الداخل التي تتبعها معظم بلدان العالم في الوقت الراهن، مشيراً إلى ضرورة إقامة علاقات بناءة مع جميع القوى الفاعلة.
بلورة رؤية جديدة للتغيير تلبي مطالب قطاعات واسعة من الشعب التركي ترى أن البلاد باتت رهينة لحكم الفرد الواحد والحزب الواحد لما يقرب من عقدين من الزمان، هو الدافع الحقيقي لهذا التحرك، ولتحرك بابا جان الذي أعلن أن حزبه الجديد الذي سيكون الحزب الثاني الذي يولد من رحم «العدالة والتنمية»، سيرى النور في بدايات عام 2020.
ظهر بابا جان مؤخراً، للمرة الأولى منذ ما يقرب من 5 سنوات، ليؤكد أن جهود إطلاق حزبه بلغت أمتارها الأخيرة، من المنطلق ذاته الذي تحرك في إطاره داود أوغلو رغم اختلاف المنهج بينهما.
قال بابا جان إنه استقال من «العدالة والتنمية» بعد خلافات عميقة «عندما وجد انحرافاً من الحزب في القيم، وليس في المبادئ فقط، فضلاً عن التعسف في اتخاذ القرارات داخل الحزب»، تماماً كما قال داود أوغلو من قبله. وأضاف أن «الأزمات تعاظمت في كل المجالات، وشعرنا أن البلاد دخلت نفقاً مظلماً مع تزايد مشاكلها في كل قضية كل يوم... وبالتالي بدأنا جهودنا لإنشاء حزب جديد».
ويرى مراقبون أن كل هذه التطورات - سواءً الداخلية أو الخارجية - ترتبط في الأساس بسياسات إردوغان وخطابه التصعيدي الحاد، الذي يتجاوز في كثير من المناسبات القواعد الدبلوماسية المتعارف عليها في علاقات الدول. بل إن هذا الخطاب يكلّف تركيا خسائر كبيرة سواء لناحية عزلتها في محيطيها الإقليمي والدولي أو لناحية استمرار الهزّات التي تعصف باقتصادها.
لم تستطع حكومة إردوغان فك عقد السياسة الخارجية، بل زادتها تعقيداً، فالتقارب مع روسيا من أجل الضغط على أميركا لم يقد سوى إلى مزيد من الأزمات، التي تجلت بشكل واضح في تبني لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي مشروع قانون لفرض عقوبات على تركيا بسبب اقتنائها منظومة «إس 400» الصاروخية الروسية التي تثير الخلافات بين أنقرة وواشنطن وحلفاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) بسبب عدم التوافق بينها وبين الأنظمة الدفاعية للحلف، وكذلك بسبب العملية العسكرية التركية في شمال شرقي سوريا المسماة «نبع السلام» التي قبلت بها واشنطن في بدايتها ثم ضغطت بعد أسبوع واحد لإنهائها.
وتصاعد التوتر أكثر وأكثر مع موافقة مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع في 13 ديسمبر (كانون الأول) على مشروع قرار تعترف فيه الولايات المتحدة، للمرة الأولى، بالأحداث التي شهدتها منطقة شرق الأناضول في عام 1915 في زمن الحرب العالمية الأولى على أنها «إبادة جماعية» للأرمن على أيدي العثمانيين.
وإذا كانت تركيا تتقارب اقتصاديا، وكذلك في الملف السوري، مع روسيا، فإن الواضح أن روسيا تتحرك في سوريا بأجندتها الخاصة، وتضغط على تركيا بملف الجماعات الإرهابية، وفي مقدمتها «جبهة النصرة» في إدلب، فضلاً عما يبدو من أنه محاولة روسية غير معلنة لسحب تركيا بعيداً عن حلف «الناتو»، وهو ما أثمر في الأشهر الماضية على شكل دعوات من العديد من دول «الناتو» لإخراج تركيا من الحلف عقاباً لها على التقارب مع روسيا، وكذلك على التحرك المنفرد في سوريا.
ومن أزمة إلى أخرى، تتنقل السياسة التركية بما يشبه الإصرار على إبقاء التوتر مشتعلاً على جبهات مختلفة، فيما يشبه - في نظر بعض المراقبين - استعراضا للعضلات من جانب تركيا التي اهتز اقتصادها بعنف بسبب التوتر مع واشنطن في 2018، لكنها تصر على استمرار التوتر، ملوحة بإنهاء الوجود العسكري الأميركي في قاعدتي إنجرليك وكورجيك.
كما تلتزم تركيا نهج التصعيد في منطقة شرق البحر المتوسط، بعد أن أطلقت في مايو (أيار) الماضي عمليات بحث وتنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحل قبرص أدت إلى توتر مع دول المنطقة والاتحاد الأوروبي، الذي أقر عقوبات «تحذيرية» على تركيا بسبب ما اعتبره انتهاكاً للقانون الدولي بالتنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص الدولة العضو فيه.
وفي خطوة أخرى تصعيدية، أغضبت الاتحاد الأوروبي وأثارت توتراً إقليمياً ودولياً، وقّعت تركيا قبل أسابيع مذكرتي تفاهم مع حكومة الوفاق الوطني الليبية برئاسة فائز السراج إحداهما في مجال التعاون العسكري والأمني والثانية في مجال تحديد مناطق السيادة البحرية. وصبّت المذكرتان مزيداً من الزيت على النار المشتعلة في شرق المتوسط، وتسببت في مزيد من العقبات في طريق مساعي تركيا للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي والتي لم تشهد تقدماً منذ سنين ولا يتوقع أن تشهد أي جديد خلال عام 2020.


مقالات ذات صلة

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

حصاد الأسبوع الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين…

الشيخ محمد (نواكشوط)
حصاد الأسبوع ميرتس

فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

انتظر فريدريش ميرتس 23 سنة قبل تحقيق طموحه بأن يصبح المستشار الألماني؛ إذ كان زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي قاد حزبه إلى الفوز بالانتخابات

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع شولتز (رويترز)

ألمانيا: حسابات الداخل والخارج تدفع نحو تسريع التفاهم على الائتلاف الحاكم الجديد

تنتظر ألمانيا أسابيع، أو حتى أشهراً، من المفاوضات بين حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (المحافظ) بزعامة فريدريش ميرتس الذي فاز بالانتخابات الأخيرة،

«الشرق الأوسط» ( برلين)
حصاد الأسبوع زامير

إيال زامير... رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد عسكري من خارج معارك السياسة

لم يعرف الجيش الإسرائيلي في تاريخه وضعاً أصعب من الوضع الذي يعيشه اليوم، لدى استعداده لاستقبال رئيس أركانه الجديد، إيال زامير. صعب، ليس لأنه يعاني من نقص في الذخيرة والعتاد، ولا لأنه ثبت فشله في تحقيق أي من أهداف الحرب على غزة، بل إن المشكلة الراهنة والاستثنائية هي أنه يفقد مزيداً من ثقة الناس، ويتعرّض في الوقت ذاته إلى حملة تحريض شعواء من الحكومة ورئيسها ووزرائها وجيش «النشطاء» في الشبكات الاجتماعية التابع لحزب «الليكود» الحاكم. هذه المشكلة تُدخل الجنرالات في أجواء توتر دائم وتهزّ ثقتهم بأنفسهم؛ ولذا فبعضهم يحاول إرضاء الحكومة بالنفاق، والبعض الآخر يحاول إرضاءها بتشديد القبضة ضد الفلسطينيين، وثمة فئة ثالثة أفرادها يرفضون فيستقيلون، وآخرون يرفضون ويبقون «دفاعاً عن أهم ركن من أركان الدولة العبرية» معتبرين أن الجيش يعيش موجة عابرة سيستطيع تجاوزها. ومع كل هذا، الجميع يشعرون أنهم في قلب معركة أقسى عليهم من الحرب على ست جبهات، ولا أحد سيخرج منها بلا جروح.

نظير مجلي (القدس)
حصاد الأسبوع تعزيز سلاحي الدبابات والمدرعات في مقدم المطالبات الإسرائيلية لتطوير قدرات الجيش (آ ف ب)

رسالة مفتوحة إلى زامير من أكاديمي استيطاني يميني

إحدى الإشارات التي تدل على ما هو مطلوب من رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد إيال زامير، وردت على شكل رسالة مفتوحة وجّهها إليه الدكتور عومر أريخا؛ وهو ناشط يميني.


اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟