الصين... عام تعزيز النفوذ في وجه التحديات

اليابان كرست دورها الدولي باستضافة قمم ومحاولات وساطة

الرئيس الصيني يحيّي أطفالا لدى وصوله إلى مطار ماكاو في الذكرى العشرين لاستلامها من البرتغال في 18 ديسمبر (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني يحيّي أطفالا لدى وصوله إلى مطار ماكاو في الذكرى العشرين لاستلامها من البرتغال في 18 ديسمبر (أ.ف.ب)
TT

الصين... عام تعزيز النفوذ في وجه التحديات

الرئيس الصيني يحيّي أطفالا لدى وصوله إلى مطار ماكاو في الذكرى العشرين لاستلامها من البرتغال في 18 ديسمبر (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني يحيّي أطفالا لدى وصوله إلى مطار ماكاو في الذكرى العشرين لاستلامها من البرتغال في 18 ديسمبر (أ.ف.ب)

قد يكون في الأحداث التاريخية الرئيسية التي شهدتها الصين واليابان خلال عام 2019 دلالات رمزية على ما شهده البلدان من توجهات خلال العام الموشك على الأفول، والاختلاف بين حضورهما على المسرح الدولي.
طوكيو شهدت انتقالاً إمبراطورياً في الأول من مايو (أيار) وضع الثقافة اليابانية بعراقتها وتفاصيلها الطقوسيّة والجمالية تحت الضوء من جديد، كما شهدت أحداثاً أخرى كرّست مكانتها في نادي الدول المتقدمة اقتصاديا وثقافياً. أما في بكين، فكان الحدث الأكبر إحياء الذكرى السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية باستعراض عسكري ضخم في الأول من أكتوبر (تشرين الأول). واستمرّت الصين بإبراز عضلاتها السياسية والاقتصادية خلال عدد من الأزمات والمواجهات التي شهدها العام.

قمم دولية
كانت اليابان مسرحاً سياسيا نشطاً بالمقارنة مع الإيقاع المعتاد، حيث استقبلت العشرات من زعماء العالم خلال عام 2019. ففي أواخر يونيو (حزيران)، شهدت أوساكا أول استضافة يابانية لقمة مجموعة العشرين، وفي نهاية أغسطس (آب)، عقدت قمة التنمية الأفريقية في يوكوهاما بحضور جمع من زعماء دول القارة السمراء. وحظيت ملفات الشرق الأوسط باهتمام خاص في القمتين، إذ دارت التكهنات حول احتمال حضور الرئيس الإيراني حسن روحاني لقمة العشرين كضيف خاص ضمن مساعي اليابان للعب دور وساطة بين طهران وواشنطن، لكن زيارة روحاني لم تتحقق في نهاية الأمر. وفي قمة التنمية الأفريقية، أثار حضور وفد الصحراء توتراً، إذ لم تحبذ الحكومة اليابانية التي تربطها علاقات قوية بالمغرب حصول المشاركة ولكنها أذعنت لطلب الاتحاد الأفريقي، ليعلن وزير الخارجية الياباني في الافتتاح أن حضور «بعض الأطراف» للقمة لا يعني تغييراً في الموقف الرسمي الياباني منها.

خلاف طوكيو وسيول
اليابان التي تسعى للعب دور في التقريب بين طهران وواشنطن لم تبذل المجهود ذاته لحل المشاكل العالقة مع جيرانها في شبه الجزيرة الكورية. القطيعة بين طوكيو وبيونغ يانغ لم تتأثر بالقمم التاريخية التي عقدت بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية أو بلقاءات زعيمي الكوريتين، حيث اختارت الحكومة اليابانية التريث ووقفت على مسافة من التقارب الذي بدوره يبدو شكلياً لغاية الآن. ولكن المفاجئ كان التدهور في العلاقات مع كوريا الجنوبية إلى حد غير مسبوق منذ إعادة إنشاء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1965، واستقرار الوضع في شمال شرقي آسيا على وضعه الحالي أي بصيغة التحالف الأميركي - الياباني - الكوري في مواجهة الصين وكوريا الشمالية. المشكلة بدأت كالمعتاد من ملفات تاريخية حساسة، تتعلق بفترة استعمار اليابان لشبه الجزيرة الكورية. وإن كانت حملات المقاطعة المتبادلة على المستوى الشعبي أمراً معتاداً، فإن قيام الحكومة اليابانية بحذف كوريا الجنوبية من «اللائحة البيضاء» للدول المسموح بتصدير التقنيات اليابانية المتقدمة إليها، وما تلاه من تهديد سيول بوقف العمل باتفاق «جيسوميا» للتعاون الاستخباراتي العسكري مع طوكيو فيما يخص تحركات كوريا الشمالية، يعني أن التصعيد من طرف الحكومتين وصل خلال العام الحالي إلى مراحل تهدد بانهيار الدعامة الأساسية التي حافظت على توازن العلاقات الثنائية لعقود، وهي الحرص على استمرار التعاون في المجالات الاقتصادية والعسكرية ضمن التحالف الثلاثي المذكور، بغض النظر عن ملفات الخلاف التاريخية التي تزداد سخونة بين آونة وأخرى.
ويبدو المتضرر الأكبر من احتدام الأزمة هو كوريا الجنوبية، التي تعتمد شركاتها الصناعية بشكل كبير على الواردات التقنية من اليابان. ومع انسداد أفق الحل مع كوريا الشمالية ومطالبة الإدارة الأميركية لسيول بتحمل جزء أكبر من نفقات القواعد العسكرية الأميركية، واحتمال انخفاض نمو الاقتصاد الكوري خلال العام الحالي عن حد 2 في المائة للمرة الأولى منذ أزمة عام 2008 المالية، تبدو سيول في وضع حرج على جبهات متعددة اقتصاديا وسياسيا.

إصلاح الدستور
عقبات أخرى شهدها العام الحالي منعت رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي من تحقيق حلمه بتغيير الدستور السلمي الياباني، إذ أسفرت الانتخابات البرلمانية في يوليو (تموز) عن انخفاض عدد مقاعد حزبه الليبرالي الديمقراطي، وأخفق الائتلاف الحاكم بالحصول على أغلبية الثلثين اللازمة لتحقيق التغيير الدستوري. آبي الذي أصبح في نوفمبر (تشرين الثاني) رئيس الوزراء ذا العهد الأطول في تاريخ اليابان، إذ يترأس الحكومة منذ عام 2012. ما زال مصمماً على تغيير الدستور في عهده، وذلك حسب تصريحاته الرسمية ورغم الاعتراضات الشعبية من داخل اليابان والإقليمية من دول الجوار.

«الحزام والطريق»
احتضنت الصين بدورها قمة كبرى، هي منتدى التعاون الثاني لمبادرة الحزام والطريق بحضور زعماء ما يقارب أربعين دولة من مختلف قارات العالم. ويمكن القول إن «مبادرة الحزام والطريق» استمرت خلال عام 2019 بتكريس مكانتها كعنوان رئيسي لتحركات الصين الدولية دبلوماسيا واقتصاديا. فمشاريع الربط بين الصين من ناحية، والمجال القاري الأوراسي وقارة أفريقيا من ناحية أخرى، تزداد ضخامة ويزداد معها ارتباط مصالح دول تلك المنطقة الشاسعة بالاقتصاد الصيني. ويتجلّى نجاح المبادرة خصوصاً في منطقة جنوب شرقي آسيا وفي القارة الأفريقية، حيث تتوالى مشاريع البنية التحتية الضخمة، بينما تتبدى بعض العقبات في الممانعة الهندية خصوصاً، وفي التحفظات الأوروبية. وتظهر الأرقام الصادرة في شهر ديسمبر (كانون الأول)، أن أداء الاقتصاد الصيني خلال العام 2019 كان أفضل من المتوقع رغم الأزمة التجارية مع الولايات المتحدة، وأن الإنتاج الصناعي في طريقه إلى مرحلة جديدة من النمو.

أزمة هونغ كونغ
وفي هونغ كونغ، لا شك أن ما ميّز العام الحالي هو المظاهرات المستمرة على نطاق واسع منذ شهر يونيو والتي يراها البعض بمثابة اختبار للتغيرات التي ستشهدها صورة الصين في المجتمع الدولي. فبكين تبدو مترددة في استخدام القوة المفرطة لفرض إرادتها، كما أن حكومة هونغ كونغ ألغت مشروع قانون مثير للجدل يتيح ترحيل متهمين إلى الصين للمحاكمة، وهو ما كان قد أدى لاندلاع المظاهرات. ولكن الصين لا تبدو متخوفة من تدخل غربي يتجاوز الإجراءات الشكلية.
فرغم إقرار الكونغرس الأميركي لقانون حقوق الإنسان والديمقراطية في هونغ كونغ في أواخر نوفمبر وتهديدات متكررة من الرئيس دونالد ترمب، إلا أن مسؤولي البلدين أعلنوا في أواسط ديسمبر (كانون الأول) عن إنجاز المرحلة أولى من اتفاق تجاري شامل من المأمول أن ينهي النزاع التجاري بينهما. أما بريطانيا، فلديها ما يشغلها في معضلة الخروج من الاتحاد الأوروبي ولا تبدو مكترثة إلى حدّ كبير بما يجري في مستعمرتها السابقة. وفي ماكاو المجاورة لهونغ كونغ، ألقى الرئيس الصيني شي جينبينغ خطاباً في 20 ديسمبر (كانون الأول) بمناسبة الذكرى العشرين لعودة المستعمرة البرتغالية للصين أكد فيه أن إرادة الحكومة والشعب الصينيين لمنع التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية للصين «صلبة كالصخر».

انتقادات دولية
لسياسات بكين تجاه الأويغور
واجهت بكين خلال 2019 موجة انتقادات أوروبية وأميركية على خلفية سياستها تجاه أقلية الأويغور المسلمة في إقليم شينجيانغ. ويقول خبراء من الأمم المتحدة ونشطاء إن مليون شخص على الأقل من أقلية الأويغور وأفرادا من أقليات أخرى أغلبها مسلمة محتجزون في معسكرات بشينجيانغ. وقادت الولايات المتحدة أكثر من 30 دولة في انتقاد ما وصفتها بأنها «حملة قمع مروعة».
إلا أن بكين تنفي ارتكاب أي مخالفات بحق الأويغور أو غيرهم في شينجيانغ، وتقول إنها توفر تدريبا مهنيا للمساعدة في القضاء على التطرف الديني والنزعات الانفصالية ولتدريبهم على مهارات جديدة.

ختام العام بقمّة دون مفاجآت
استضافت مدينة تشيندو الصينية قمة صينية - يابانية - كورية يومي 23 و24 ديسمبر (كانون الأول)، بدت خلالها الصين في الموقع الأكثر استقراراً. فإدارة الرئيس الكوري الجنوبي مون جي - إن الآتية من خلفية يسارية تحبذ التقارب مع بكين إلى درجة أثارت ردات فعل سلبية من إدارة الرئيس ترمب في أكثر من مناسبة، وهي الإدارة الأميركية ذاتها التي انسحبت من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، دافعة بالحكومة اليابانية للدخول في مفاوضات الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التي تحبذها الصين. قمة تشيندو نجحت في إحراز انفراج سياسي نسبي بين طوكيو وسيول من خلال لقاء ثنائي بين رئيس الوزراء الياباني والرئيس الكوري، ولكنها أخفقت في إحراز تقدم عملي على طريق إنشاء منطقة تجارة حرة بين الدول الثلاث الرئيسية في منطقة شمال شرقي آسيا، في ختام عام شهد تقلبات كبيرة ومفاجئة في العلاقات بينها.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».