فرنسا: حراك اجتماعي في الداخل وصعوبات متراكمة في الخارج

محتجون في باريس (أ.ف.ب)
محتجون في باريس (أ.ف.ب)
TT

فرنسا: حراك اجتماعي في الداخل وصعوبات متراكمة في الخارج

محتجون في باريس (أ.ف.ب)
محتجون في باريس (أ.ف.ب)

مع انتهاء كل عام، يجد الرئيس الفرنسي نفسه في مواجهة أزمة اجتماعية مستعصية. ففي العام الماضي، كان حراك «السترات الصفراء» في أوجه.
وكانت جادّات باريس والعديد من المدن الكبرى مسرحاً لعمليات كر وفر بين الأمن المتظاهرين، وبينهم مئات المشاغبين من مجموعات «بلاك بلوكس» اليسارية الفوضوية، إضافةً إلى مجموعات أخرى من اليمين المتطرف. ولم تُمحَ من ذاكرة الفرنسيين الصور التي دارت عبر العالم وهي تُظهر الحرائق في «أجمل جادة في العالم» وفق التسمية الفرنسية لـ«الشانزليزيه».
نهاية هذا العام ليست أفضل حالاً وإن كانت أقل عنفاً. فالمظاهرات والإضرابات التي عمّت فرنسا منذ 5 ديسمبر (كانون الأول) الجاري وضعت وجهاً لوجه الحكومة والنقابات وتحولت إلى عملية لي ذراع. الشرارة انطلقت من رفض شبه شامل لمشروع الحكومة الساعية لإحداث تغييرات جذرية في نظام التقاعد المعمول به حالياً في فرنسا.
والأصح أنه يتعين الحديث عن «أنظمة» تقاعد لأن هناك 42 نظاماً مختلفاً ومعقداً يتم العمل بها. الهدف المعلن للحكومة هو توحيد هذه الأنظمة والوصول إلى نظام تقاعدي موحد وشامل وأكثر عدلاً. والحال أن العرض الذي قدمه رئيس الحكومة أغضب النقابات كافة وشرائح واسعة من المواطنين، إذ رأى البعض فيه افتئاتاً على مرتباتهم التقاعدية التي توفرها الأنظمة القديمة، ورفعاً لسن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، فضلاً عن أن المقترح الحكومي يشوبه الكثير من الغموض.
والخلاصة أن مئات الآلاف من المواطنين نزلوا إلى الشوارع منذ أوائل الشهر وترافق ذلك مع إضرابات تطال قطاعات حيوية للاقتصاد ولحياة السكان، وقد ضربت القطاعين العام والخاص، فغابت القطارات ووسائل النقل العامة وأُصيب قطاع التعليم، معلمين وأساتذة وطلاباً وتلامذة، وتعطل استقبال المرضى في المستشفيات وفي أقسام الطوارئ، وتباطأ عمل القضاء مع إضراب القضاة والمحامين، والتحق بهم الأطباء... وتطول اللائحة. والأهم من ذلك أن الاحتجاجات جاءت قبيل نهاية العام وحرمت الآلاف من الاحتفالات العائلية وازدادت النقمة على الحكومة.
هكذا يبدأ عام 2020 وهو يحمل هموماً كبرى للرئيس إيمانويل ماكرون. فالرجل الذي جاء إلى السلطة ساعياً لإصلاح البلاد ونفض الغبار عن أنظمتها يجد نفسه في مأزق داخلي حقيقي. ولا شك أنه يستذكر ما عانى منه رئيس الحكومة الأسبق الآن جوبيه الذي سعى في عام 1995، أيام ولاية الرئيس جاك شيراك الأولى، إلى إصلاح نظام التقاعد. لكن المقاومة التي واجهته أجبرته على التراجع فاقترح انتخابات مبكرة خسرها اليمين وكانت نتيجتها عودة الاشتراكيين إلى السلطة لخمس سنوات، فدُفن المشروع الإصلاحي. ومشكلة ماكرون أنه إذا تراجع فسيخسر صورته الإصلاحية وينفض عنه من رأى فيه رئيساً ليبرالياً قوي العزيمة ولا يخاف من المواجهة.
أما إذا بقي متشدداً، فإنه يدفع البلاد لمزيد من التعقيدات وسيجعل النقابات، بما فيها تلك التي كانت مستعدة للحوار مع السلطة حول خطتها، في صف الرافضين لها قطعياً.
ولا يتعين تناسي أن فرنسا مقبلة على انتخابات بلدية مفصلية. فبعد مرحلة من السبات منذ الانتخابات الرئاسية ربيع عام 2017 للحزبين التقليديين اللذين تناوبا على حكم فرنسا منذ قيام الجمهورية الخامسة نهاية الخمسينات، وهما الحزب اليميني الكلاسيكي المسمى حالياً «الجمهوريون» والحزب «الاشتراكي»، عادت الحياة تدب في شرايينهما. ولا شك في أن ماكرون وحزبه «الجمهورية إلى الأمام» يحتاجان لتحقيق نتائج إيجابية، الأمر الذي يعد ضرورياً لمقاربة الرئيس الحالي للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2022 من موقع قوي.
حلم ماكرون الذي تراجعت شعبيته (أقل من ثلث الفرنسيين يؤيد سياسته اليوم) أن يجد نفسه مجدداً وجهاً لوجه مع مارين لوبن، مرشحة اليمين المتشدد التي هزمها المرة الماضية في الدورة الثانية بفارق 29 نقطة. والحال أن استطلاعات الرأي تبين أن الفارق الهائل السابق يمكن أن يتقلص إلى الربع. وفي أي حال، فإن الفريق الرئاسي يرى أن لوبن «أفضل منافس» للرئيس الحالي لأن الفرنسيين «ليسوا مستعدين بعد لتسليم مفاتيح قصر الإليزيه لرئيسة الحزب اليميني «المتطرف». لكن السياسة تحمل مفاجآت ولا يزال أكثر من عامين يفصلان عن الاستحقاق المقبل.
منذ انتخابه، تعْلق بماكرون صفة «رئيس الأغنياء». وقد حاول خلال العام المنصرم أن يتقرب أكثر إلى الناس، مروّجاً لقراراته الخاصة بخفض الضرائب ولنتائجه الاقتصادية لجهة تراجع نسبة البطالة وتحسن القدرة الشرائية للشرائح المتواضعة. لكنّ ذلك كله لم ينفع حتى اليوم، والشعور العام لا يدفع في هذا الاتجاه.
بيد أن التحديات المقبلة ليست داخلية فقط. ففي السياسة الخارجية ورغم مساعيه الحثيثة، لم ينجح ماكرون في تحسين علاقاته مع نظيره الأميركي دونالد ترمب، ولا حققت جهوده للتقرب من نظيره الروسي فلاديمير بوتين نتائج ملموسة. أما علاقاته مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فقد أصبحت «جليدية» في الأشهر الأخيرة. ولعل النجاح المشترك لهما مقتصر على «الوعود» التي حصلا عليها من بوتين فيما يخص الملف الأوكراني. وليس لفرنسا حضور في الملف الفلسطيني أو في سوريا، فيما هي على خصام مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. أما أوراقها اللبنانية فقد فقدت الكثير من فاعليتها، والدليل على ذلك الاجتماع الباهت الذي استضافته باريس لمساعدة لبنان في 13 ديسمبر. وفي ليبيا، ما زالت باريس تلعب لعبة الغموض بين دعم حكومة الوفاق ومساعدة المشير خليفة حفتر. لكن مصدر القلق الأكبر عنوانه منطقة الساحل حيث لباريس قوة عسكرية من 4500 رجل «برخان» منذ عام 2014، وهي مكرسة لمحاربة التنظيمات الإرهابية التي تعشش في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. والنتيجة أن «برخان»، رغم جهود باريس والدعم «المتواضع» الذي تحظى به من الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، ليست قادرة على وقف تنامي التنظيمات الإرهابية.
وكانت باريس تعوّل على قيام القوة الأفريقية المشتركة «جي 5» من بلدان الساحل الخمسة لتكون رأس الحربة في محاربة الإرهاب وتوفير الاستقرار للمنطقة. والحال أن هذه القوة ما زالت هلامية وتفتقر للتدريب والتنظيم والتمويل، وبالتالي فإن باريس تتطارح الأسئلة حول ما ستقوم به للخروج من هذا الوضع غير المريح. وحتى اليوم، فقدت فرنسا 43 ضابطاً وجندياً، فيما الكلفة المالية لـ«برخان» تربو على 700 مليون يورو في العام. ويعول ماكرون على القمة المقررة في مدينة بو (جنوب غربي فرنسا) مع قادة الدول الخمس ليقرر مصير قواته المرابطة في الساحل، خصوصاً أن هناك حملات إعلامية وسياسية تستهدفها مشككةً في نيّات فرنسا وأهدافها في المنطقة الاستراتيجية لمصالح باريس.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.