فرنسا: حراك اجتماعي في الداخل وصعوبات متراكمة في الخارج

محتجون في باريس (أ.ف.ب)
محتجون في باريس (أ.ف.ب)
TT

فرنسا: حراك اجتماعي في الداخل وصعوبات متراكمة في الخارج

محتجون في باريس (أ.ف.ب)
محتجون في باريس (أ.ف.ب)

مع انتهاء كل عام، يجد الرئيس الفرنسي نفسه في مواجهة أزمة اجتماعية مستعصية. ففي العام الماضي، كان حراك «السترات الصفراء» في أوجه.
وكانت جادّات باريس والعديد من المدن الكبرى مسرحاً لعمليات كر وفر بين الأمن المتظاهرين، وبينهم مئات المشاغبين من مجموعات «بلاك بلوكس» اليسارية الفوضوية، إضافةً إلى مجموعات أخرى من اليمين المتطرف. ولم تُمحَ من ذاكرة الفرنسيين الصور التي دارت عبر العالم وهي تُظهر الحرائق في «أجمل جادة في العالم» وفق التسمية الفرنسية لـ«الشانزليزيه».
نهاية هذا العام ليست أفضل حالاً وإن كانت أقل عنفاً. فالمظاهرات والإضرابات التي عمّت فرنسا منذ 5 ديسمبر (كانون الأول) الجاري وضعت وجهاً لوجه الحكومة والنقابات وتحولت إلى عملية لي ذراع. الشرارة انطلقت من رفض شبه شامل لمشروع الحكومة الساعية لإحداث تغييرات جذرية في نظام التقاعد المعمول به حالياً في فرنسا.
والأصح أنه يتعين الحديث عن «أنظمة» تقاعد لأن هناك 42 نظاماً مختلفاً ومعقداً يتم العمل بها. الهدف المعلن للحكومة هو توحيد هذه الأنظمة والوصول إلى نظام تقاعدي موحد وشامل وأكثر عدلاً. والحال أن العرض الذي قدمه رئيس الحكومة أغضب النقابات كافة وشرائح واسعة من المواطنين، إذ رأى البعض فيه افتئاتاً على مرتباتهم التقاعدية التي توفرها الأنظمة القديمة، ورفعاً لسن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، فضلاً عن أن المقترح الحكومي يشوبه الكثير من الغموض.
والخلاصة أن مئات الآلاف من المواطنين نزلوا إلى الشوارع منذ أوائل الشهر وترافق ذلك مع إضرابات تطال قطاعات حيوية للاقتصاد ولحياة السكان، وقد ضربت القطاعين العام والخاص، فغابت القطارات ووسائل النقل العامة وأُصيب قطاع التعليم، معلمين وأساتذة وطلاباً وتلامذة، وتعطل استقبال المرضى في المستشفيات وفي أقسام الطوارئ، وتباطأ عمل القضاء مع إضراب القضاة والمحامين، والتحق بهم الأطباء... وتطول اللائحة. والأهم من ذلك أن الاحتجاجات جاءت قبيل نهاية العام وحرمت الآلاف من الاحتفالات العائلية وازدادت النقمة على الحكومة.
هكذا يبدأ عام 2020 وهو يحمل هموماً كبرى للرئيس إيمانويل ماكرون. فالرجل الذي جاء إلى السلطة ساعياً لإصلاح البلاد ونفض الغبار عن أنظمتها يجد نفسه في مأزق داخلي حقيقي. ولا شك أنه يستذكر ما عانى منه رئيس الحكومة الأسبق الآن جوبيه الذي سعى في عام 1995، أيام ولاية الرئيس جاك شيراك الأولى، إلى إصلاح نظام التقاعد. لكن المقاومة التي واجهته أجبرته على التراجع فاقترح انتخابات مبكرة خسرها اليمين وكانت نتيجتها عودة الاشتراكيين إلى السلطة لخمس سنوات، فدُفن المشروع الإصلاحي. ومشكلة ماكرون أنه إذا تراجع فسيخسر صورته الإصلاحية وينفض عنه من رأى فيه رئيساً ليبرالياً قوي العزيمة ولا يخاف من المواجهة.
أما إذا بقي متشدداً، فإنه يدفع البلاد لمزيد من التعقيدات وسيجعل النقابات، بما فيها تلك التي كانت مستعدة للحوار مع السلطة حول خطتها، في صف الرافضين لها قطعياً.
ولا يتعين تناسي أن فرنسا مقبلة على انتخابات بلدية مفصلية. فبعد مرحلة من السبات منذ الانتخابات الرئاسية ربيع عام 2017 للحزبين التقليديين اللذين تناوبا على حكم فرنسا منذ قيام الجمهورية الخامسة نهاية الخمسينات، وهما الحزب اليميني الكلاسيكي المسمى حالياً «الجمهوريون» والحزب «الاشتراكي»، عادت الحياة تدب في شرايينهما. ولا شك في أن ماكرون وحزبه «الجمهورية إلى الأمام» يحتاجان لتحقيق نتائج إيجابية، الأمر الذي يعد ضرورياً لمقاربة الرئيس الحالي للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2022 من موقع قوي.
حلم ماكرون الذي تراجعت شعبيته (أقل من ثلث الفرنسيين يؤيد سياسته اليوم) أن يجد نفسه مجدداً وجهاً لوجه مع مارين لوبن، مرشحة اليمين المتشدد التي هزمها المرة الماضية في الدورة الثانية بفارق 29 نقطة. والحال أن استطلاعات الرأي تبين أن الفارق الهائل السابق يمكن أن يتقلص إلى الربع. وفي أي حال، فإن الفريق الرئاسي يرى أن لوبن «أفضل منافس» للرئيس الحالي لأن الفرنسيين «ليسوا مستعدين بعد لتسليم مفاتيح قصر الإليزيه لرئيسة الحزب اليميني «المتطرف». لكن السياسة تحمل مفاجآت ولا يزال أكثر من عامين يفصلان عن الاستحقاق المقبل.
منذ انتخابه، تعْلق بماكرون صفة «رئيس الأغنياء». وقد حاول خلال العام المنصرم أن يتقرب أكثر إلى الناس، مروّجاً لقراراته الخاصة بخفض الضرائب ولنتائجه الاقتصادية لجهة تراجع نسبة البطالة وتحسن القدرة الشرائية للشرائح المتواضعة. لكنّ ذلك كله لم ينفع حتى اليوم، والشعور العام لا يدفع في هذا الاتجاه.
بيد أن التحديات المقبلة ليست داخلية فقط. ففي السياسة الخارجية ورغم مساعيه الحثيثة، لم ينجح ماكرون في تحسين علاقاته مع نظيره الأميركي دونالد ترمب، ولا حققت جهوده للتقرب من نظيره الروسي فلاديمير بوتين نتائج ملموسة. أما علاقاته مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فقد أصبحت «جليدية» في الأشهر الأخيرة. ولعل النجاح المشترك لهما مقتصر على «الوعود» التي حصلا عليها من بوتين فيما يخص الملف الأوكراني. وليس لفرنسا حضور في الملف الفلسطيني أو في سوريا، فيما هي على خصام مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. أما أوراقها اللبنانية فقد فقدت الكثير من فاعليتها، والدليل على ذلك الاجتماع الباهت الذي استضافته باريس لمساعدة لبنان في 13 ديسمبر. وفي ليبيا، ما زالت باريس تلعب لعبة الغموض بين دعم حكومة الوفاق ومساعدة المشير خليفة حفتر. لكن مصدر القلق الأكبر عنوانه منطقة الساحل حيث لباريس قوة عسكرية من 4500 رجل «برخان» منذ عام 2014، وهي مكرسة لمحاربة التنظيمات الإرهابية التي تعشش في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. والنتيجة أن «برخان»، رغم جهود باريس والدعم «المتواضع» الذي تحظى به من الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، ليست قادرة على وقف تنامي التنظيمات الإرهابية.
وكانت باريس تعوّل على قيام القوة الأفريقية المشتركة «جي 5» من بلدان الساحل الخمسة لتكون رأس الحربة في محاربة الإرهاب وتوفير الاستقرار للمنطقة. والحال أن هذه القوة ما زالت هلامية وتفتقر للتدريب والتنظيم والتمويل، وبالتالي فإن باريس تتطارح الأسئلة حول ما ستقوم به للخروج من هذا الوضع غير المريح. وحتى اليوم، فقدت فرنسا 43 ضابطاً وجندياً، فيما الكلفة المالية لـ«برخان» تربو على 700 مليون يورو في العام. ويعول ماكرون على القمة المقررة في مدينة بو (جنوب غربي فرنسا) مع قادة الدول الخمس ليقرر مصير قواته المرابطة في الساحل، خصوصاً أن هناك حملات إعلامية وسياسية تستهدفها مشككةً في نيّات فرنسا وأهدافها في المنطقة الاستراتيجية لمصالح باريس.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.