سياسات واشنطن الخارجية انسحابات طوعية وتهديدات متجدّدة

أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب  خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)
أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)
TT

سياسات واشنطن الخارجية انسحابات طوعية وتهديدات متجدّدة

أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب  خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)
أمين عام «الناتو» وقادة دول أعضاء يتحدّثون مع ترمب خلال قمة الحلف ببريطانيا في 4 ديسمبر (أ.ب)

يوشك عام 2019 على الانتهاء، وما زالت ملفات كثيرة شائكة تلقي بظلالها على علاقات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بحلفائه التقليديين وخصومه. علاقة واشنطن بروسيا، ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والصين، شهدت تقلبات في بعض الأحيان، واستمرارية في أحيان أخرى.
فشارك ترمب احتفال أعضاء الناتو بالذكرى 70 لتأسيس الحلف في لندن ودافع عنه، في تناقض حاد مع تصريحاته في عام 2017. لكنه غادر الفعاليات مبكّراً لاستيائه على ما يبدو من «نمائم» قادة كندا وبريطانيا وفرنسا. شن حرباً تجارية على الصين وضاعف الرسوم الجمركية على صادراتها، دون المساس بعلاقة «الصداقة» التي تجمعه بنظيره الصيني شي جينبينغ الذي قد يوقع اتفاقاً تجارياً مع واشنطن في بداية 2020.
أما روسيا، فاستشهد سيد البيت الأبيض بحديث رئيسها فلاديمير بوتين للدفاع عن نفسه أمام تهم مجلس النواب التي أدّت إلى عزله، وانسحب في الوقت ذاته من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى الموقعة في عهد الحرب الباردة.

«التمدد الروسي»

هيمنت العلاقات الروسية - الأميركية على جزء كبير من الدورات الإخبارية في واشنطن هذا العام. ففي الوقت الذي يعرب فيه كل من الكرملين والبيت الأبيض عن رغبتهما في تحسين العلاقات الثنائية، تحذّر أجهزة الاستخبارات الأميركية من تدخل روسي جديد في الانتخابات الرئاسية المقبلة، في حين تحذر وزارتا الخارجية والدفاع من «التمدد الروسي» في بعض المناطق التي تشهد انسحاباً أميركياً نسبياً.
ويسعى أكثر من طرف إقليمي ودولي للاستثمار في «الانسحاب الأميركي الطوعي» من أزمات لم يعد التورط مجدياً فيها، على ما أعلنه ترمب مراراً وتكراراً، من سوريا إلى أفغانستان. لكن مع ازدياد الانتقادات لواشنطن واتهامها بالتخلي عن حلفائها وشركائها في المنطقة وتقليص وجودها وأنشطتها في سوريا وليبيا، الذي استغلته روسيا عبر ملء الفراغ فيها، تحركت إدارة ترمب لتطويق تداعيات هذا التمدد، كاشفة عن اتصالات مكثفة بأطراف الصراع في ليبيا لوقف القتال. وأعلن وزير الدفاع مارك إسبر الانتهاء من سحب القوات الأميركية من شمال سوريا، مع الإبقاء على 600 جندي لحماية الأكراد ومواصلة الحرب على «داعش» ومنع سقوط حقول النفط تحت سيطرته أو سيطرة النظام السوري.
كما واصلت إدارة ترمب ممارسة الضغوط على حلفائها الأوروبيين لوقف اعتمادهم على الغاز الروسي، وفرضت أخيراً عقوبات على الشركات العاملة في مشروع «نورد ستريم 2»، في سياسة بدا واضحاً أن محركها اقتصادي بأبعاد سياسية للتضييق عليهم، وليس للضغط على روسيا، بعدما تحولت العلاقة مع الحلفاء إلى «صفقات»، يحددها مدى استفادة واشنطن، وليس ما يخدم موقعها الدولي كقائدة للنظام الدولي، كما يرى البعض.
هكذا، كرر ترمب انتقاده لألمانيا الذي لم يستثنِ مستشارتها أنغيلا ميركل شخصياً، قائلاً إن برلين باتت رهينة لروسيا جراء اعتمادها على مصادر طاقتها، وحاثاً إياها على التفتيش عن مصادر أخرى، من بينها الولايات المتحدة. لكن ملف العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا لا يزال حتى الساعة من دون حل، خصوصاً أن فرضها جاء على خلفية عمليات استخباراتية نفذتها موسكو ضد ناشطين ومعارضين على أراضي دول أوروبية حليفة. ويخشى الآن من تجددها وزيادتها، بعد الإعلان عن مقتل معارض جورجي في ألمانيا على يد عميل روسي في بداية الشهر الحالي.
كما عرضت واشنطن أخيراً مكافأة بقيمة 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تقود إلى اعتقال ومحاكمة روسيين متهمين بارتكاب واحدة من أكبر الجرائم الإلكترونية في التاريخ، تقول وزارة العدل الأميركية إنهما مرتبطان بجهاز الاستخبارات الروسية (إف إس بي)، وتمكنا من الاستيلاء على أكثر من 100 مليون دولار، عبر زرعهما برمجيات خبيثة، في عشرات البلدان خصوصاً في 11 ولاية أميركية.

ترمب والناتو

ملف علاقة الولايات المتحدة بحلف الناتو قد يكون من أكثر الملفات إثارة للجدل، ويلقي الضوء على موقف سيد البيت الأبيض من التحالفات الدولية عموماً. ترمب الذي تراجع عن تهديده بالانسحاب من الحلف، شاهراً في الوقت نفسه شعار إعادة التوازن للإنفاق بين أعضائه، اعتبر في قمة الحلف الأخيرة أن ضغوطه حققت نجاحاً وتقدماً عظيماً مع قادة الناتو جعلهم يدفعون 130 مليار دولار سنوياً، ونحو 400 مليار دولار خلال 3 سنوات، دون أي تكلفة إضافية على الولايات المتحدة.
يقول بول سالم، رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن، إن «ترمب، ورغم اضطراره للبقاء في الناتو بسبب علاقات أميركا العميقة جداً بالحلف وتمسك الدولة العميقة به، فإنه لا يستبعد أن يهدد بالانسحاب منه مجدداً، أو أن ينسحب فعلياً، كما فعل سابقاً الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول. وهو تمكن من الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ومن (نافتا)، واتفاقية التبادل التجاري مع المحيط الهادئ، على اعتبار أنها لم تعد تلبي مصالح أميركا».
ويضيف سالم: «لكن إذا أعيد انتخابه، فسيتمسك عندها ترمب بالقول إنه يقود مساراً أميركياً طويل الأمد، وإن وجهة نظره صحيحة، وإن التاريخ والأميركيين يدعمونه. عندها يمكن القول إن هناك احتمالاً بحصول انقلاب عميق بالنظام العالمي، وينجح ترمب في تفكيك منظومة التحالفات العالمية ومنها حلف الناتو، وندخل في مرحلة جديدة».
ما يعزز هذا التحليل ليس فقط العلاقات المتأرجحة التي تجمع ترمب بقادة الحلف والتي ظهرت خلال قمته الأخيرة في لندن، بل والتعليقات التي صدرت ولا تزال عن عدد منهم في محاولة لإعادة تعريف دور الحلف ووظيفته وسياساته. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان واضحاً في دعوته إلى تغيير جدول القمة، من التركيز على المال إلى مراجعة استراتيجية الحلف، الأمر الذي رفضه ترمب.
كما أن تخفيف ترمب من انتقاداته سمح لقادة الحلف بالخروج بموقف جماعي يؤكد التضامن لمواجهة تهديدات روسيا والإرهاب، والإقرار بالتحديات التي يمثلها تصاعد نفوذ الصين، وبتراجع تركيا عن موقفها المتصلب تجاه خطة الدفاع عن دول البلطيق وبولندا.

تهديد الصين

«تمثّل الصين تهديداً فريداً وهائلاً للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها الديمقراطيين»، هكذا لخّص برادلي بومان الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن العلاقات بين واشنطن وبكين.
ويعتبر بومان أن إدارة الرئيس ترمب أدركت طبيعة وشدة التهديد الذي تمثله الصين، وحققت تقدماً كبيراً في إعادة بناء الجهوزية العسكرية الأميركية.
ولكن هناك الكثير الذي يتعين القيام به، حيث تحتاج وزارة الدفاع إلى تمويل كافٍ وفي الوقت المناسب وبالتعاون مع الكونغرس. ويضيف بومان أن القوة العسكرية الأميركية وحدها ليست كافية، إذ تحتاج أميركا إلى حلفاء وشركاء قادرين عسكرياً ولديهم رؤية مشتركة للتهديد الذي يمثله الحزب الشيوعي الصيني. وتمثل شبكة الحلفاء الأميركية استراتيجية كبيرة ورائدة ينبغي على واشنطن رعايتها وتعزيزها.
ويعتقد بومان أنّ الصين حقّقت مكاسب كبيرة في عدة مجالات من المنافسة، متجاوزة الولايات المتحدة في بعضها، وقد تكون واشنطن استيقظت متأخرة على التهديد وبدأت في تنظيم نفسها، إلّا أنه ينبغي للمرء ألا يقلل من شأن الولايات المتحدة عندما تُهدد مصالحها الأساسية. يوافق بول سالم على هذه الخلاصة ويقول إن أميركا كانت دائماً تشيد بتحالفاتها في مواجهة القوى الكبرى الأخرى، لكن مع سعي ترمب إلى تفكيكها يخشى من أن تصبح معزولة في وجه الصين وروسيا، الأمر الذي سيضعفها كثيراً.
ويضيف أن تغيراً واضحاً طرأ على النظام العالمي وفي ميزان القوى العالمية، مع عودة روسيا لاعباً دولياً جريئاً وصعود الصين المستمر منذ 20 عاماً، حيث بات اقتصادها تقريباً بحجم اقتصاد أميركا.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.