2019... سنة هزيمة «داعش»

خسر فيها التنظيم ما بقي من «دولته»... وفقد «رأسه»

ضابطا تحليل جنائي يقومان بتحقيقات قرب جسر «لندن بريدج» في العاصمة البريطانية حيث الحادث الإرهابي بقتل شخصين طعناً بالسكين في نوفمبر 2019 (أ.ف.ب)
ضابطا تحليل جنائي يقومان بتحقيقات قرب جسر «لندن بريدج» في العاصمة البريطانية حيث الحادث الإرهابي بقتل شخصين طعناً بالسكين في نوفمبر 2019 (أ.ف.ب)
TT

2019... سنة هزيمة «داعش»

ضابطا تحليل جنائي يقومان بتحقيقات قرب جسر «لندن بريدج» في العاصمة البريطانية حيث الحادث الإرهابي بقتل شخصين طعناً بالسكين في نوفمبر 2019 (أ.ف.ب)
ضابطا تحليل جنائي يقومان بتحقيقات قرب جسر «لندن بريدج» في العاصمة البريطانية حيث الحادث الإرهابي بقتل شخصين طعناً بالسكين في نوفمبر 2019 (أ.ف.ب)

كانت سنة 2019، بامتياز، سنة هزيمة تنظيم داعش. ففيها خسر هذا التنظيم المتطرف آخر معقل له في بلدة الباغوز بريف دير الزور، شرق سوريا، وفيها أيضاً فقد التنظيم «رأسه»، ورمزه؛ أبو بكر البغدادي، بعملية كوماندوس أميركية في قرية بريشة بريف إدلب، شمال غربي سوريا. مثّل الحدثان، وبينهما شهور قليلة فقط، أبرز دليل على أن التنظيم الذي سيطر في أوج قوته على مساحة تعادل حجم بريطانيا أقام عليها «دولة» تمتد من العراق إلى سوريا، انتهى كلياً أو أنه يوشك على ذلك.
ولكن هل أصبح «داعش» فعلاً شيئاً من الماضي، لا يُذكر سوى بمذابحه وبأنهار الدم التي سفكها، تماماً كما يُذكر اليوم الخمير الحمر وزعيمهم بول بوت في كمبوديا في سبعينات القرن الماضي (1975 - 1979)؟

شكّل يوم 23 مارس (آذار) من هذه السنة يوماً أساسياً في تاريخ «داعش». ففيه انتهى التنظيم «جغرافياً»، بحسب التعبير المستخدم غربياً الذي يؤرخ للنهاية الفعلية لـ«دولة الخلافة» المزعومة التي لم يبقَ منها سوى اسم يشير إلى «دولة» لم يعد لها وجود على الأرض.
قاتل التنظيم حتى الرمق الأخير في الباغوز، تلك البلدة الصغيرة على ضفاف نهر الفرات. احتمى مقاتلوه وأفراد عوائلهم في كهوف ومغاور صخرية، بجانب مخيّم كبير ضم نازحين من مناطق مختلفة. لجأوا إلى هناك بعدما طُردوا من كل معاقلهم السابقة في سوريا، مثل منبج غرب الفرات بشمال سوريا، والرقة، شرق النهر، نزولاً عبر البلدات الممتدة على جانبي حوض الفرات بريف دير الزور والتي كانت لوقت طويل قاعدة أساسية للتنظيم. في نهاية المطاف، لجأ إلى الباغوز مئات المقاتلين الذين رفضوا رفع الراية البيضاء أمام تقدّم «قوات سوريا الديمقراطية»، وهي تحالف كردي - عربي قاد الحملة ضد «داعش» بدعم جوي وبري من قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. في الباغوز قاتل «الدواعش» حتى نفدت ذخيرتهم. عندها فقط خرجوا من مغاورهم مستسلمين.
كان بين مقاتلي الباغوز، بلا شك، بعض أشد الغلاة في «داعش». فقد أصر هؤلاء على ولائهم للتنظيم حتى بعد أن انهارت دولته المزعومة، وتمسكوا بالقتال تحت رايته على رغم الفظاعات التي ارتكبها خلال سنوات حكمه لمناطق واسعة في سوريا والعراق بين عامي 2014 و2019.
ومع انجلاء غبار المعركة تبيّن أن زعيم «داعش»، البغدادي، لم يكن بين مقاتليه الأسرى. هل فر خلال المعركة، أم قبلها أو حتى بعدها؟ التحقيقات التي خضع لها بلا شك عناصر «داعش» في الباغوز ربما كشفت للمحققين، سواء من أكراد «سوريا الديمقراطية» أو من قوات التحالف الدولي: هل كان البغدادي فعلاً مع مقاتليه قبل سقوط الباغوز؟ في أي حال، لم يدُم غياب زعيم «داعش» طويلاً. فقد كان مضطراً أن يخاطب مؤيديه ويطمئنهم إلى أن المعركة مستمرة، حتى ولو لم يعد لدولتهم أي وجود ملموس على الأرض.

البغدادي ـ بن لادن
وهكذا، في 29 أبريل (نيسان)، وعبر شريط فيديو نادر، ظهر البغدادي مفترشاً الأرض وبجانبه رشاش، ومحاطاً بمجموعة من قادته وهم يعرضون عليه ملفات يحمل كل منها اسم «ولاية» من الولايات التي بايعت «داعش»... من تركيا، إلى اليمن وليبيا، مروراً بالقوقاز والصومال وخراسان وغيرها من «الولايات» التي أراد البغدادي أن يُظهرها ليؤكد أن «دولته» لم تنتهِ، بل هي «باقية وتتمدد»، بحسب الشعار الذي دأب «داعش» على تكراره.
أعاد هذا المشهد، في الواقع، التذكير بسلسلة أحداث حصلت قبل قرابة عقدين من الزمن، ولكن في مكان آخر ومع تنظيم مختلف خرج «داعش» من رحمه. ففي ديسمبر (كانون الأول) 2001، كان تنظيم «القاعدة» يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو هكذا ساد الاعتقاد آنذاك. استسلم مقاتلوه أمام القوات الخاصة الأميركية وقوات أفغانية في جبال تورا بورا، شرق أفغانستان. قاتلوا حتى الرمق الأخير أيضاً. ظهروا أمام مغاورهم المحفورة في الصخور وغبار القصف الأميركي يغطيهم. كان زعيمهم أسامة بن لادن بينهم، لكنه نجح في الفرار أمام تقدم القوات الخاصة الأميركية واختفى في مناطق الحدود الأفغانية - الباكستانية. لم يظهر سوى عبر أشرطة فيديو. كان يفترش الأرض وبجانبه رشاشه، متحدثاً عن توسع «القاعدة» بدل انحسارها. كانت جماعته تتوسع فعلاً من خلال جماعات تبايعها وتفتتح فروعاً باسمها في مناطق مختلفة حول العالم. وهكذا ظهرت «القاعدة» عبر «وكلاء معتمدين»، مثل «بلاد الرافدين» (أبو مصعب الزرقاوي) و«المغرب الإسلامي» (أبو مصعب عبد الودود) و«جزيرة العرب» (ناصر الوحيشي)، بالإضافة إلى فروع أخرى أصغر وأقل نفوذاً.
ظل بن لادن يقض مضاجع الأميركيين لسنوات عبر أشرطته المصوّرة والمسموعة، إلى أن تمكنوا من الوصول إليه في مخبئه بأبوت آباد الباكستانية حيث قتله فريق كوماندوس أميركي في الأول من مايو (أيار) 2011، ورموا بجثته في البحر.
بدا البغدادي، من خلال شريطه المصوّر ومن خلال شريط سمعي آخر وُزّع في 16 سبتمبر (أيلول)، كأنه يحاول تكرار تجربة أسامة بن لادن، من خلال إثبات أن «دولة» تنظيمه «باقية وتتمدد»، رغم هزيمتها في سوريا والعراق، وذلك من خلال فروع «داعش» المختلفة حول العالم، أو من خلال «جنوده» الذين ينفذون هجمات، بأي «سلاح» يمكنهم أن يحوزوا عليه، سواء كان ذلك سكين مطبخ أو شاحنة، وذلك ضمن إطار ما بات يُعرف بعمليات «الذئاب المنفردة». لكن زعيم «داعش» لم تُتَح له فرصة الوقت الطويل التي أتيحت لزعيم «القاعدة». ففي حين لم يتمكن الأميركيون من الوصول إلى بن لادن سوى بعد 10 سنوات من فراره من تورا بورا، فإنهم احتاجوا هذه المرة إلى بضعة شهور فقط للوصول إلى البغدادي بعد انتهاء معركة الباغوز.
في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، أنزلت طائرات مروحية جنوداً من القوات الخاصة الأميركية (قوات دلتا) في قرية بريشة بريف إدلب، على بعد كيلومترات معدودة من الحدود التركية. وكما حصل في أبوت آباد، تمكن الجنود الأميركيون بسرعة من الوصول إلى البغدادي الذي فر، بحسب ما تقول الرواية الأميركية الرسمية، في نفق محفور أسفل مخبئه. لاحقه كلب مدرّب داخل النفق، فما كان منه سوى أن فجّر نفسه (مع اثنين من أطفاله). انتشل الأميركيون أشلاءه ودفنوها في البحر، ثم قصفوا المنزل ومحوه من الخريطة. تزامن إنهاء الأميركيين «أسطورة البغدادي» مع نجاحهم في قتل مساعده الأبرز الناطق باسم تنظيمه «أبو حسن المهاجر» (بريف حلب الشمالي)، ومع إعلان تركيا أنها اعتقلت أفراداً من أسرته في مناطق تقع تحت نفوذها في سوريا وحتى داخل تركيا نفسها.
بعد أيام من مقتل البغدادي، سمّى «داعش» زعيماً جديداً له تحت اسم «أبو إبراهيم الهاشمي القرشي»، في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019. قد يكون من المبكر الآن الحكم على «أبو إبراهيم»، نجاحاً أو فشلاً، كونه لم يتولَّ قيادة «داعش» سوى قبل أسابيع، علماً بأنه ورث تنظيماً منهكاً لم يعد له وجود ملموس سوى في مناطق نائية موزعة على أنقاض «الدولة» التي أقام عليها «خلافته» المزعومة عام 2014، في كل من العراق وسوريا.
تمرد منخفض الوتيرة

يقول العقيد مايلز كاغينز، الناطق باسم قوات التحالف لهزيمة «داعش»، إن وجود هذا التنظيم بات اليوم محصوراً في مناطق جبلية أو صحراوية نائية في كل من العراق وسوريا. ويوضح في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن تقديرات التحالف تضع عناصر «داعش» حالياً بحدود «بضعة آلاف» يتوزعون بين سوريا والعراق، وينتشرون على وجه الخصوص في «سلسلة كهوف ومغاور» بمناطق جبلية نائية أو صحراوية. ويشرح أن هؤلاء يقومون حالياً بعمليات ضمن ما يُطلق عليه وصف «التمرد منخفض الوتيرة» (low level insurgency) وذلك عبر قوس يمتد من غرب العراق عبر صحراء الأنبار إلى الأطراف الجنوبية لمحافظة نينوى بشمال البلاد، مروراً بمناطق جبلية متفرقة في محافظات مثل صلاح الدين وديالى. ويلفت إلى أن للتنظيم أيضاً وجوداً في مناطق تقع مباشرة إلى الشمال من العاصمة بغداد، مثل سامراء (التي يتحدر منها زعيم «داعش» السابق أبو بكر البغدادي). أما في سوريا، فيشير العقيد كاغينز إلى أن «داعش» ما زال منتشراً في البادية السورية مترامية الأطراف، من جنوب البلاد إلى شرقها.
وفي تقدير الناطق باسم التحالف، فإن «التمرد منخفض الوتيرة» لا يشكّل تهديداً يمكن مقارنته بذلك الذي مثّله التنظيم لدى صعوده الصاروخي في أواخر عام 2013 ومنتصف عام 2014، عندما تساقطت المدن السورية والعراقية في أيديه كأوراق الخريف، بدءاً بالرقة وانتهاء بالموصل، وكلتاهما تحوّلت لاحقاً إلى عاصمة فعلية لـ«الدولة» التي أقامها «داعش». ويقول كاغينز، في هذا الإطار، إن عمليات «داعش» حالياً تقوم أساساً على شن هجمات بأعداد صغيرة، أو القيام باغتيالات لمسؤولين محليين أو عناصر من قوات الأمن، أو زرع عبوات ناسفة، أو فرض إتاوات على السكان، ومحاولة ترهيبهم. ويضيف أن التنظيم لم يعد يملك الآليات العسكرية التي وقعت في أيديه في عام 2014 وساعدته في إلحاق الهزيمة بالقوات العراقية. ويلفت أيضاً إلى أن القوات الأمنية العراقية التي أعيد بناؤها بعد انهيارها في الموصل وتكريت عام 2014، باتت أقوى بكثير مما كانت عليه في السابق، كما أنها باتت اليوم «تأخذ زمام المبادرة» في ملاحقة خلايا «داعش» في أنحاء العراق. كما أن «قوات سوريا الديمقراطية» (100 ألف مقاتل تقريباً) باتت هي الأخرى قوة يُحسب لها الحساب بعد الدعم الذي تلقته على مدى السنوات الماضية من التحالف الدولي، وكذلك نتيجة خبرتها الميدانية في الحرب ضد التنظيم (تكبد هذا التحالف العربي - الكردي قرابة 10 آلاف قتيل ضد «داعش»).

نسخة ثانية من «داعش»
وفي مقابل الثقة التي يبديها العقيد كاغينز، ثمة مخاوف لا يمكن تجاهلها من عودة «داعش» بنسخة جديدة نتيجة الأوضاع المستجدة في سوريا والعراق. ففي الأولى، أدى تدخل عسكري تركي إلى طرد «قوات سوريا الديمقراطية» من شريط حدودي يمتد من رأس العين إلى تل أبيض في شمال شرقي البلاد، وإلى عودة القوات النظامية السورية إلى أجزاء واسعة من أرياف الحسكة والرقة وحلب للحلول محل «قوات سوريا الديمقراطية». وأدى إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في أكتوبر (تشرين الأول)، نيته سحب القوات الأميركية من سوريا وعدم تدخله لمنع القوات التركية من التدخل عسكرياً لإقامة ما تصفه أنقرة بـ«المنطقة الآمنة» في شمال شرقي سوريا، إلى زعزعة ثقة الأكراد السوريين بحلفائهم الأميركيين. وتراجع ترمب لاحقاً، كما يبدو، بإعلان إبقاء قوات أميركية لحماية آبار النفط في شرق سوريا ومنع وقوعها في أيدي «داعش» أو قوات حكومة دمشق. أما في العراق، فتبدو الصورة أيضاً ملبدة، في ظل احتجاجات شعبية دامية ضد الحكومة العراقية، وفي ظل توتر على الأرض بين القوات الأميركية وميليشيات متحالفة مع إيران تلجأ بين الحين والآخر إلى توجيه «رسائل صاروخية» إلى قواعد عسكرية عراقية ينتشر فيها الأميركيون.
لكن العقيد كاغينز يقلل من خطورة هذه الصورة. إذ يلفت إلى أن الاحتجاجات الشعبية في العراق لا تشمل المناطق التي تنتشر فيها القواعد الأميركية كونها تتركز أساساً في الجنوب (بالإضافة إلى بغداد بالطبع). ويشير إلى أن الصواريخ التي تُطلق على قواعد انتشار التحالف تؤثر سلباً على دوره، بمعنى أنها تدفعه إلى التركيز على حماية عناصره بدل التركيز أكثر على التنسيق مع القوات العراقية في ملاحقة عناصر «داعش». أما في سوريا، فيقول العقيد الأميركي إن قوات التحالف تنتشر إلى جانب «قوات سوريا الديمقراطية» حول آبار النفط في شرق البلاد، كما أنها تنتشر في قاعدة التنف التي وصفها بأنها «استراتيجية» في عمق البادية السورية، إلى جانب فصيل «مغاوير الثورة» المعارض للنظام.

فروع «داعش»
وإذا كانت الصورة التي يقدمها التحالف صحيحة، فإن «داعش» لا يبدو في وضع يسمح له بتشكيل تهديد جدي في سوريا أو العراق. والظاهر أن انكماش التنظيم ليس ظاهرة محصورة في هذين البلدين، بل يشمل أيضاً فروعه حول العالم. ففي اليمن، حيث حاول «داعش» أن يوسع نفوذه مستغلاً الفوضى التي يعيشها هذا البلاد، نجحت قوة سعودية خاصة، بالتعاون مع قوات يمنية، في اعتقال رأس التنظيم «أبو أسامة المهاجر» خلال عملية ضد مخبئه في يونيو (حزيران) الماضي. ومنذ ذلك الوقت، شهد نشاط «داعش اليمن» انحساراً ملحوظاً، لكنه لم ينتهِ بالطبع. أما في خراسان التي راهن «داعش» على جعلها قاعدة أساسية له، فقد ظهرت مؤشرات إلى تراجع كبير لنشاطه فيها، وتحديداً أفغانستان، مع نهايات سنة 2019. ففي نوفمبر (تشرين الثاني)، أعلنت الحكومة الأفغانية أن فرع «داعش» الأفغاني «هُزم في ننغرهار» معقل التنظيم الأساسي بشرق البلاد. وتنسحب هذه الصورة بدورها على وضع فروع «داعشية» أخرى حول العالم. ففي ليبيا، تعرض «داعش» لسلسلة ضربات جوية شنتها طائرات أميركية على مخابئه في جنوب البلاد، حيث انكفأ منذ طرده من معقله الأساسي في سرت الساحلية عام 2016. وفي سيناء المصرية، تراجع نشاط فرع «داعش» المحلي تراجعاً كبيراً في ضوء عملية واسعة شنتها قوات الأمن المصرية منذ أكثر من سنة، وأدت إلى مقتل مئات من عناصر التنظيم وطرده من معاقله الأساسية. ولا يعني هذا التراجع في نشاط فروع «داعش» أن خطرها قد انتهى، علماً بأنها جميعها قد بايعت مجدداً خليفة البغدادي، أبو إبراهيم، بل إن بعضها أظهر إصراراً على رفع وتيرة عملياته، كما ظهر من خلال هجمات فرع «داعش» في منطقة الساحل الأفريقي، ومن خلال هجمات «الذئاب المنفردة» لمناصري التنظيم حول العالم التي شهدت بدورها تصعيداً لافتاً بدا كأنه رد على مقتل البغدادي.
ومع انتهاء سنة وبداية أخرى، سيظل «داعش» بلا شك يمثل تهديداً عالمياً، رغم «اختفاء دولته» في سوريا والعراق، وانحسار نشاط فروعه حول العالم. هل يموت «داعش» بموت أبو بكر البغدادي، أم يعيد أبو إبراهيم القرشي إحياءه؟ ستظهر ملامح هذا الجواب على الأرجح خلال 2020. وهي على الأبواب.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.