قطاع غزة... الدوران في حلقة مفرغة

تقدم مهم على الأرض أشعل مخاوف رام الله حول لعبة كبيرة قد تجر غزة إلى الفصل التام

صبية فلسطينية في حالة فزع وهي ترى والدها يشارك في اشتباك للمتظاهرين  مع قوات الأمن الإسرائيلية في قطاع غزة في يونيو الماضي (أ.ف.ب)
صبية فلسطينية في حالة فزع وهي ترى والدها يشارك في اشتباك للمتظاهرين مع قوات الأمن الإسرائيلية في قطاع غزة في يونيو الماضي (أ.ف.ب)
TT

قطاع غزة... الدوران في حلقة مفرغة

صبية فلسطينية في حالة فزع وهي ترى والدها يشارك في اشتباك للمتظاهرين  مع قوات الأمن الإسرائيلية في قطاع غزة في يونيو الماضي (أ.ف.ب)
صبية فلسطينية في حالة فزع وهي ترى والدها يشارك في اشتباك للمتظاهرين مع قوات الأمن الإسرائيلية في قطاع غزة في يونيو الماضي (أ.ف.ب)

بدأ عام 2019 مثلما انتهى، مترنحاً بين المواجهة والهدنة، لكن مع تقدم مهم على الأرض أشعل مخاوف متصاعدة في رام الله حول لعبة ما كبيرة، قد تجر غزة إلى فصل تام.
تعود مشكلة إسرائيل مع غزة حتى ما قبل احتلالها عام 1967. عندما كانت تحت الحكم المصري. إذ تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، أثناء حملة سيناء، لاحتلال القطاع بشكل لم يدم طويلاً، حتى عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.
في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغداً مصدر إزعاج كبير للدولة النووية إلى الحد الذي تمنى معه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين، أن يستيقظ يوماً ويجد غزة قد غرقت في البحر.
لم تغرق غزة ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي على الحدود، لكن كان هذا بمثابة وهم جديد. إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليم السلطة لها بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001. وبعد عدة حروب انسحبت إسرائيل في 2005. من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب». وفي 25 سبتمبر (أيلول) 2005 شنت إسرائيل عملية «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين.
ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم شنت إسرائيل ما لا يقل عن 10 حروب ومواجهات مع القطاع، دون أن يتبلور في تل أبيب قرار حاسم في كيف ستتصرف مع المنطقة التي يحلو للإعلام الإسرائيلي تسميتها بـ«طنجرة الضغط».
لكن تغييراً مهماً بالنسبة للبعض ومقلقاً لآخرين، سجل هذا العام ولا يمكن التغاضي عنه. لقد اعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قبل أسابيع قليلة من إسدال الستار على 2019. بأن محادثات تجري على قدم وساق من أجل تحقيق هدنة طويلة الأمد مع «حماس» في قطاع غزة. وقال نتنياهو: «هم لن يعترفوا بنا، ونحن لن نعترف بهم، لكن هناك فرصة لإحراز اختراق في مفاوضات الهدنة، وهم يدركون أنهم لن يتخلصوا منا».
وتصريح نتنياهو شخصياً، شكل دعماً كبيراً لكمّ من المعلومات المتدفقة حول مباحثات تهدئة طويلة الأمد بين إسرائيل و«حماس» التي تسيطر على القطاع، وبشكل غير مسبوق، امتنعت إسرائيل خلال المواجهة الأخيرة عن دعم حركة الجهاد الإسلامي مقابل إسرائيل، وهو الأمر الذي التقطته إسرائيل كبادرة حسن نية من قبل «حماس»، تلاها فوراً البدء في إقامة مستشفى أميركي ميداني على الأرض.
لقد كان مفاجئاً لكثيرين أن «حماس» تركت الجهاد وحيدة في مواجهة قصف إسرائيلي عنيف ومتواصل تلا اغتيال أحد قادتها، كما كان مفاجئاً أن الولايات المتحدة التي قطعت كل مساعدات ممكنة للفلسطينيين، سمحت بتحويل جزء من هذه المساعدات إلى قطاع غزة، عبر بناء مستشفى ميداني هناك.
لم يقف الأمر عند ذلك. بل أوعز وزير الجيش الإسرائيلي نفتالي بينيت لكبار قادة جيشه بفحص جدوى وإمكانية إقامة ميناء بحري قبالة سواحل قطاع غزة. وذكرت القناة «12» العبرية أن بينيت طالب الجيش بتقديم ورقة موقف من إنشاء ميناء بحري في قطاع غزة بالإضافة لإقامة مطار دولي هناك. والتقى بينيت وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس الذي كان صاحب فكرة الميناء البحري قبالة سواحل القطاع، سعياً لتحريك المياه الراكدة.
ويفترض أن يقدم الجيش بداية 2020 ورقة تقدير بهذا الخصوص وستشمل الجوانب العسكرية والأمنية. وتحظى الخطوة، وفقاً للقناة، بدعم أميركي كذلك باعتبارها بارقة أمل لتحسين الأوضاع في القطاع وفتحه على العالم الخارجي في تحركات دقت ناقوس الخطر لدى القيادة الفلسطينية.
كل هذه المؤشرات العملية، دقت ناقوس الخطر في رام الله وجعل السلطة الفلسطينية تتهم «حماس» بالعمل على قتل حلم الدولة الفلسطينية. لم تكن أول مرة تتهم فيها السلطة «حماس» بالسعي لإقامة دويلة أو إمارة في القطاع، لكنها هذه المرة اتهمتها بالتورط في خطة صفقة القرن الأميركية.
وقال رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد أشتية، «إن المستشفى الأميركي المعلن تنفيذه على حدود غزة والمدن الصناعية والموانئ والجزر العائمة تجسد المخطط الأميركي الرافض للتعامل مع المطالب السياسية والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني». وفيما اتهم مسؤولون في السلطة و«فتح» حركة «حماس» بالتنسيق مع الولايات المتحدة وإسرائيل لإقامة مستشفى يخدم أهدافاً عسكرية، تعهد الرئيس الفلسطيني محمود عباس شخصياً بمنع المستشفى ومشاريع أخرى في غزة لأنها تأتي ضمن صفقة القرن. لكن «حماس» لم تتراجع قيد أنملة.
وأقرت الحركة أن المستشفى الدولي جزء من التفاهمات التي تمت برعاية مصرية والأمم المتحدة، بهدف التخفيف من الأوضاع الصحية الصعبة في قطاع غزة. ردت «حماس» الهجوم بالهجوم، واتهمت السلطة بحصار القطاع، ثم ذهب قادتها إلى مصر من أجل مفاوضات حول التهدئة.
وقال الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري: «إذا أردنا أن نفسر ما يجري، نقول إن (حماس) تعطي الأولوية لاستمرار سيطرتها في قطاع غزة، على كل ما عداه، لا سيما أن هناك أوساطاً فيها تتوهم بأن قطاع غزة بات محرراً، أو على وشك أن يصبح كذلك (وهذا غير صحيح، فالقطاع رغم حرية الحركة داخله لا يزال أكبر وأطول سجن في التاريخ)، وأنه يمكن أن تقام فيه الدولة الفلسطينية الموعودة كخطوة على طريق مدها إلى الضفة ثم إلى بقية فلسطين، متجاهلاً أن الذي قبر الدولة الفلسطينية في الضفة لن يساعد على قيامها في قطاع غزة».
ويرى المصري أن المطروح إسرائيلياً هو قيام كيان في غزة لا يملك من مقومات الدول شيئاً، وقيامه ثمن للتخلي عن القضية الفلسطينية، وبشكل خاص التخلي عن الضفة التي يراد استكمال تهويدها وضم معظمها. مضيفاً: «هذا المصير لا تتحمل مسؤوليته (حماس) وحدها، بل تتحمل القيادة الفلسطينية المسؤولية الأولى عنه».
لكن هل تعقد إسرائيل و«حماس» الهدنة الطويلة فعلاً في العام الجديد؟ يقول بروفسور العلوم السياسية إبراهيم أبراش، إنه «ليس من حق حزب لوحده أن يقرر مستقبل ومصير القضية الوطنية ويختزلها في أقل من 1.5 في المائة من مساحة فلسطين، كما ليس من حقه أو من صلاحياته التصرف بحق المقاومة وهو حق تمنحه كل الشرعيات الدينية والوضعية للشعوب الخاضعة للاحتلال، والهدنة التي يجري الحديث حولها لن تلزم إلا من يوقع عليها ومن حق الشعب الفلسطيني مواصلة المقاومة بكل أشكالها ضد إسرائيل. وواهم من يعتقد أن دويلة غزة التي ستعيش على المساعدات الخارجية ستشكل قاعدة ومنطلقاً لتحرير بقية فلسطين».
وأضاف: «للتذكير فعندما أعلنت حركة فتح ومنظمة التحرير عن قبولهما بدولة في الضفة وغزة على مساحة 22 في المائة وعاصمتها القدس، ارتفعت الأصوات تُخون (فتح) والمنظمة والرئيس أبو عمار وجرت انشقاقات داخل المنظمة وداخل حركة فتح لهذا السبب، وانهالت صواريخ الرافضين للتسوية السياسية على إسرائيل وتزايدت عملياتهم العسكرية داخل إسرائيل وفي كل الأراضي المحتلة. فكيف لمن رفض دولة على مساحة 22 في المائة أن يقبل بدويلة على مساحة تقل عن 1.5 في المائة من مساحة فلسطين؟ وكيف لفصائل ناضلت عسكرياً طوال أكثر من خمسين عاماً من أجل تحرير فلسطين أن تقبل بوقف المقاومة وبكيان هزيل في غزة أو تصمت على ما يجري؟».
على أي حال يبقى مصير الهدنة معلقاً بما ستفرزه الانتخابات الإسرائيلية وإلى أي مدى ستستطيع «حماس» السيطرة على تنظيمات أخرى لا تريد الذهاب إلى تهدئة طويلة. إنها مسألة متعلقة بحسابات سياسية أو بصاروخ منفلت قد يعيد الجميع في أي لحظة إلى نفس الحلقة المفرغة. الحلقة التي تفضلها إسرائيل لإدامة أمد الانقسام.


مقالات ذات صلة

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

حصاد الأسبوع الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين…

الشيخ محمد (نواكشوط)
حصاد الأسبوع ميرتس

فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

انتظر فريدريش ميرتس 23 سنة قبل تحقيق طموحه بأن يصبح المستشار الألماني؛ إذ كان زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي قاد حزبه إلى الفوز بالانتخابات

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع شولتز (رويترز)

ألمانيا: حسابات الداخل والخارج تدفع نحو تسريع التفاهم على الائتلاف الحاكم الجديد

تنتظر ألمانيا أسابيع، أو حتى أشهراً، من المفاوضات بين حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (المحافظ) بزعامة فريدريش ميرتس الذي فاز بالانتخابات الأخيرة،

«الشرق الأوسط» ( برلين)
حصاد الأسبوع زامير

إيال زامير... رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد عسكري من خارج معارك السياسة

لم يعرف الجيش الإسرائيلي في تاريخه وضعاً أصعب من الوضع الذي يعيشه اليوم، لدى استعداده لاستقبال رئيس أركانه الجديد، إيال زامير. صعب، ليس لأنه يعاني من نقص في الذخيرة والعتاد، ولا لأنه ثبت فشله في تحقيق أي من أهداف الحرب على غزة، بل إن المشكلة الراهنة والاستثنائية هي أنه يفقد مزيداً من ثقة الناس، ويتعرّض في الوقت ذاته إلى حملة تحريض شعواء من الحكومة ورئيسها ووزرائها وجيش «النشطاء» في الشبكات الاجتماعية التابع لحزب «الليكود» الحاكم. هذه المشكلة تُدخل الجنرالات في أجواء توتر دائم وتهزّ ثقتهم بأنفسهم؛ ولذا فبعضهم يحاول إرضاء الحكومة بالنفاق، والبعض الآخر يحاول إرضاءها بتشديد القبضة ضد الفلسطينيين، وثمة فئة ثالثة أفرادها يرفضون فيستقيلون، وآخرون يرفضون ويبقون «دفاعاً عن أهم ركن من أركان الدولة العبرية» معتبرين أن الجيش يعيش موجة عابرة سيستطيع تجاوزها. ومع كل هذا، الجميع يشعرون أنهم في قلب معركة أقسى عليهم من الحرب على ست جبهات، ولا أحد سيخرج منها بلا جروح.

نظير مجلي (القدس)
حصاد الأسبوع تعزيز سلاحي الدبابات والمدرعات في مقدم المطالبات الإسرائيلية لتطوير قدرات الجيش (آ ف ب)

رسالة مفتوحة إلى زامير من أكاديمي استيطاني يميني

إحدى الإشارات التي تدل على ما هو مطلوب من رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد إيال زامير، وردت على شكل رسالة مفتوحة وجّهها إليه الدكتور عومر أريخا؛ وهو ناشط يميني.


فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

ميرتس
ميرتس
TT

فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

ميرتس
ميرتس

انتظر فريدريش ميرتس 23 سنة قبل تحقيق طموحه بأن يصبح المستشار الألماني؛ إذ كان زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي قاد حزبه إلى الفوز بالانتخابات العامة الأحد الماضي، قد خسر معركة داخلية للسيطرة على الحزب أمام أنجيلا ميركل في عام 2002، بعدما تمكنت من تحييده والاستيلاء على زعامة الحزب. وانسحب ميرتس كلياً من السياسة عام 2009 ليعود بعد نهاية «حقبة ميركل» التي طالت حتى عام 2021. إلا أنه حتى عودته تلك لم تكن سهلة؛ ذلك أنه حاول الفوز بالزعامة 3 مرات، ولم ينجح إلا في المحاولة الثالثة بعد فشل الزعيمين السابقين اللذين فضلهما الحزب، آنغريته كرامب كرامباور وآرمين لاشيت، اللذين كانا مقرّبين من ميركل وينتميان لجناحها في الحزب. ولكن في عام 2022، نجح ميرتس أخيراً في كسب أصوات المندوبين للوصول في النهاية إلى مقر المستشارية وهو في سن السبعين. قصة ميرتس داخل حزبه تعكس شخصيته التي تثير انقسامات كبيرة، ليس فقط داخل حزبه، بل أيضاً على المستوى الوطني. فتحالفه مع حزب «البديل من أجل ألمانيا» لتمرير اقتراح داخل البرلمان عارضته كل الأحزاب الأخرى - ولم ينجح إلا جزئياً بسبب دعم الحزب اليميني المتطرف - أثار انقسامات كبيرة في ألمانيا، وكاد يكلفه طموحه الذي انتظر عقدين لتحقيقه. أما الآن وقد فاز حزبه بالانتخابات، ووقعت عليه مهمة تشكيل الحكومة الألمانية المقبلة، فسيتوجّب على الرجل الذي أمضى فترة «تقاعده» السياسي في عالم الأعمال، أن يقود ألمانيا التي تواجه تحديات كثيرة خلال الأشهر والسنوات الآتية.

يوصف فريدريش ميرتس، المستشار الألماني المكلّف، أحياناً بأنه «شعبوي» ويغازل قاعدة اليمين المتطرف. وهو صاحب عبارات اشتهرت وأثارت انتقادات كبيرة، بل رُميت أحياناً بـ«العنصرية»، كوصفه مرة طلاب مدارس من أصول عربية وتركية بأنهم «باشاوات صغار»، أو زعمه أن اللاجئين يأتون إلى ألمانيا لـ«إجراء عمليات تجميل لأسنانهم في حين أن الألمان عاجزون عن حجز مواعيد لدى أطباء الأسنان» (ادعاء نفته نقابة أطباء الأسنان التي قالت إن التأمين لا يغطي إلا العمليات الضرورية وليس التجميلية)، أو وصفه اللاجئين الأوكران الذين أتوا إلى ألمانيا في بداية الحرب مع روسيا بأنهم «لاجئون سيّاح»، قاصداً أنهم يأتون للاستفادة من التسهيلات المالية التي تقدمها لهم السلطات الألمانية.

فكر محافظ صريح

ميرتس هو أيضاً صاحب عبارة: «الثقافة الألمانية الطاغية» التي روّج لها منذ قبل «تقاعده الإجباري» المؤقت من البرلمان الذي دفعه إليه عصر ميركل. وبذلك كان يتعمّد انتقاد التعددية الثقافية التي لا يعتبرها «ألمانية»، مكرّراً «ضرورة» أن يتقبّل المهاجرون في ألمانيا «الثقافة الطاغية».

وفي صيف 2023، بعد انتخابه أخيراً زعيماً للديمقراطيين المسيحيين، وقف ميرتس أمام مجموعة من سكان غيلاموس، وهي بلدة صغيرة في ولاية بافاريا، قائلاً: «كرويتسبيرغ ليست ألمانيا. غيلاموس هي ألمانيا»، أمام هتافات الحاضرين وتصفيقهم. وللعلم، كرويتسبيرغ منطقة في برلين معروفة بتنوعها الثقافي، وتُعدّ معقل الجالية التركية في العاصمة الألمانية.

وأخيراً، في مطلع العام، قبل أسابيع من الانتخابات، كسر ميرتس قاعدة ذهبية تعتمدها الأحزاب الألمانية منذ هزيمة النازيين خوفاً من صعود اليمين المتطرف مرة جديدة ومنعاً لتكرار التاريخ... وهذه القاعدة غير المكتوبة تنص على رفض التعاون مع أحزاب يمينية متطرفة، في ما يُعرف ألمانيّاً بـ«جدار الحماية».

تشديد قوانين الهجرة

وفي الأسابيع التي سبقت الانتخابات، إثر تكرار الهجمات التي نفّذها لاجئون أفغان أو سوريون، خرج ميرتس غاضباً ليعلن طرحه اقتراحاً أمام البرلمان لتشديد قوانين الهجرة. ومع أن الاقتراح لم يكن مُلزماً للحكومة، قرّر ميرتس المضي بطرحه رغم اعتراض الأحزاب التقليدية عليه لمخالفته عدداً من القوانين الأوروبية، بحسب منظمات حكومية، مثل إغلاق الحدود مع «دول الشنغن»، ووقف استقبال اللاجئين غير الشرعيين. وأيضاً أصرّ ميرتس على طرح الاقتراح في «البوندستاغ» مع أن الحزب الكبير الوحيد الذي دعمه كان «البديل من أجل ألمانيا».

وحقاً، مرّ جزء من الاقتراح بفضل أصوات الحزب المتطرّف؛ ما أثار موجة من المظاهرات خرج فيها مئات الآلاف يصفون ميرتس بـ«الخائن». ومع إثارة ميرتس انقسامات داخل حزبه، توالت الدعوات من الأحزاب الأخرى له للانسحاب من السباق لمنصب المستشارية؛ لأنه «ما عاد مناسباً لقيادة ألمانيا». لكن الزعيم المحافظ سارع لاحتواء الأزمة والتعهد بأنه لن يتحالف مع «البديل» في حال فوز حزبه بالانتخابات. ورغم احتلال الحزب المتطرّف المرتبة الثانية في الانتخابات بـ20 في المائة من الأصوات ومضاعفته عدد مقاعده البرلمانية، رفض ميرتس الدخول في مباحثات لتشكيل الحكومة معه. واختار بدلاً منه الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) الذي حلّ ثالثاً بـ15 في المائة من الأصوات.

أهمية الملفات الدولية

وبسرعة بدا واضحاً، بعد فوز الديمقراطيين المسيحيين، أن زعيمهم الجديد يعي أهمية الملفات الدولية التي تنتظره؛ فهو قبل أن يبدأ المشاورات الرسمية لتشكيل حكومته، سافر إلى باريس في زيارة غير رسمية للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتناول العشاء معه لمناقشة ملفات لم يكشف عنها أي من الطرفين. وجاء اللقاء بُعيد عودة ماكرون من واشنطن حيث التقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وبدا الاختلاف بينهما واضحاً حول التعاطي مع أوكرانيا.

ومع أن ميرتس من كبار مؤيدي «العلاقات عبر الأطلسية» والمروّجين لها، فإنه بدا متشكِّكاً في الأيام الماضية من إنقاذ العلاقة المتغيّرة. وهو انضم بعد مغادرته البرلمان عام 2009 إلى «أتلانتيك بروكيه» (أو الجسر الأطلسي)، وهي جماعة ضغط تروّج للعلاقات عبر الأطلسية.

نظرة إلى سيرته

ميرتس الآتي من عالم القانون؛ إذ درس المحاماة في جامعة بون، انخرط في عالم الأعمال خلال السنوات التي ابتعد فيها عن السياسة. وعمل في شركة «بلاك روك» الأميركية، وجنى ثروة من جلوسه كذلك في مجالس إدارة عدة شركات ومصارف، بل اعتقد كثيرون أن خلفية ميرتس هذه قد تقرّبه من ترمب الآتي من خلفية مشابهة؛ فهو رجل أعمال ثري يملك حتى طائرته الخاصة التي يقودها بنفسه أحياناً؛ كونه طياراً هاوياً تدرب على الطيران خلال السنوات الماضية، ثم إن أفكاره المحافظة حول الهجرة والإجهاض مثلاً، وأفكاره الليبرالية حول السوق، قريبة جداً من أفكار الجمهوريين؛ ما عزز توقعات اقترابه فكرياً من الرئيس الأميركي.

ويُذكر أنه رغم انتقاد كثيرين مهاجمة مؤيدي ترمب مقر الكونغرس بعد فوز الرئيس السابق جو بايدن، ظل ميرتس مؤمناً حتى بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض بأنه يمكن ترميم العلاقات المتدهورة مع واشنطن. ولكن خطابه إزاء واشنطن بدأ يتغيّر بعد كلمة نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في ميونيخ، وبدا وكأنه يُعدّ لعلاقة صعبة أساسها التركيز على تشكيل وبناء تحالفات أوروبية قوية. وبالفعل، انتقد ميرتس فانس لدعوة الأخير للأحزاب الألمانية إلى التعاون مع حزب «البديل»، مشدداً على أن هذا شأن داخلي.

بين روسيا وأوكرانيا

وكذلك، لم يتردّد ميرتس في انتقاد ترمب شخصياً بعد وصف الأخير للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـ«الديكتاتور»؛ إذ اعتبر كلام ترمب «عكساً كلاسيكياً لرواية الجاني والضحية»، مضيفاً أن بوتين يصوّر الأمر بهذه الطريقة منذ سنوات، وأنه يشعر بـ«الصدمة» من استخدام ترمب الرواية نفسها اليوم.

ميرتس يُحسب من أشدّ المؤيدين لأوكرانيا، وكان يحثّ الحكومة الألمانية طوال السنوات الماضية على إظهار دعم أقوى لكييف، ودأب على انتقاد سلفه المستشار الاشتراكي أولاف شولتس لـ«تردده المتكرّر» في تزويد أوكرانيا بالمعدّات العسكرية التي كانت تطالب بها... وأكثر من هذا، ترك الباب مفتوحاً أمام أوكرانيا للانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي» (ناتو).

وأيضاً، يؤيد ميرتس زيادة الإنفاق العسكري لفوق 2 في المائة من الناتج الإجمالي، وهو ما تنفقه ألمانيا حالياً في تحوّل منذ الحرب في أوكرانيا. وفي إشارة إلى أن هذا الأمر أولوية بالنسبة له، عقد ميرتس لقاء مع شولتس بعد يوم على الانتخابات لمناقشة زيادة الإنفاق العسكري قبل تشكيل الحكومة الجديدة، وفق وسائل إعلام ألمانية. ومعلوم أن تشكيل الحكومة قد يستغرق شهرين على الأقل.

كذلك قد يكون ميرتس ناقش مع ماكرون أيضاً مسألة الضمانات العسكرية التي يمكن لأوروبا أن تقدّمها، وبخاصة أنه يؤيد طرح الرئيس الفرنسي حول إنشاء جيش أوروبي قوي، وهو ما يطالب به الرئيس الأوكراني أيضاً.

وعليه، فهنا يعتبر ميرتس «أوروبياً» بامتياز، مع أنه لا يؤيد السياسات الأوروبية المتعلقة بالهجرة، مفضلاً تشديدها، حتى إنه يروّج لخطوات تعتبر غير قانونية داخل الاتحاد الأوروبي، مثل إغلاق الحدود، ووقف استقبال طالبي اللجوء.

تحدّيات مستقبلية صعبة

من ناحية أخرى، فرغم تعهّد ميرتس بتشديد القوانين المتعلقة بالهجرة، فإنه ربما يواجه عراقيل قانونية تمنعه من ذلك، وقد يرفض «شركاؤه» الاشتراكيون التوقيع على بيان حكومي يتعهد باتخاذ إجراءات مشددة، كإغلاق الحدود وغيره. لكن المستشار المكلّف يعي أيضاً أنه سيكون عليه التعامل بجدّية مع مسألة الهجرة - التي كانت في طليعة اهتمامات الناخبين – من أجل الحد من شعبية حزب «البديل من أجل ألمانيا» التي تضاعفت على المستوى الوطني خلال 4 سنوات، بشكل أساسي، بسبب الهجرة.

وفي مقابلة قبل أيام، حذّر ميرتس من أن زيادة شعبية الحزب المتطرف هي «الإنذار الأخير» لنا. وللتذكير، كان الرجل نفسه من أشد منتقدي ميركل حين قررت السماح لمئات آلاف السوريين بالدخول إلى ألمانيا عام 2015، وحمّلها في السنوات التي تلت مسؤولية صعود حزب «البديل».

في أي حال، الحزب المحافظ الذي قادته ميركل طوال 20 سنة، يبدو الآن مختلفاً كلياً تحت قيادة فريدريش ميرتس، مع أن القائد الجديد نفسه لم يتغيّر أو يغيّر الكثير من أفكاره منذ «تقاعده» قبل أكثر من 16 سنة؛ فهو لا يخالف ميركل في مسألة الهجرة فحسب، بل تراه يؤيد أيضاً إبقاء العمل بالمفاعلات النووية التي كانت ميركل قد قرّرت إغلاقها بعد حادثة فوكوشيما للتسرّب الإشعاعي عام 2011. وهو كان أيضاً من منتقدي توسيع مشروع «نورد ستريم» لإيصال الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا، وكان يدعو إلى إيقاف المشروع حتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا.