موريتانيا 2019... عام من التناوب والصدام

ميزه صراع داخل دهاليز الحكم و«حالة طوارئ غير معلنة»

الرئيس  الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)
الرئيس الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)
TT

موريتانيا 2019... عام من التناوب والصدام

الرئيس  الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)
الرئيس الجديد ولد الغزواني (أ.ف.ب) - الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز (أ.ف.ب)

كان 2019 عاماً ترقبه الموريتانيون بفارغ الصبر لأنه حمل الإجابة عن سؤال ديمقراطي أرَّقَهم كثيراً، يتعلق بمدى التزام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بنص الدستور، وهو الذي وصل إلى الحكم في آخر انقلاب عسكري تشهده موريتانيا (2008)، لكنه سرعان ما نظَّم انتخابات فاز بها عام 2009. ومع نهاية ولايتين رئاسيتين يمنحهما له الدستور (مدة كل منهما خمس سنوات)، كان جميع الموريتانيين يتساءلون إن كان الرجل سيلتزم بالدستور ويخرج من الباب الكبير، وهو ما حدث بالفعل شهر يونيو (حزيران) الماضي، حين سلم السلطة لصديقه ورفيق السلاح محمد ولد الغزواني. لكن عملية التناوب السلمي على السلطة، التي احتفى بها الموريتانيون، سبقتها مطبات بالجملة، وأعقبها صراع داخل دهاليز الحكم، وحدثت في أوج «حالة طوارئ غير معلنة».
بدأت القصة منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، عندما كان موعد الانتخابات الرئاسية على الأبواب (بعد 6 أشهر فقط)، حيث قدَّم مجموعة من نواب حزب «الاتحاد من أجل الجمهورية» الحاكم عريضة تطالب بإعادة كتابة دستور البلاد عبر البرلمان، وقَّع عليها أكثر من مائة نائب (مجموع عدد نواب البرلمان 151 نائباً). وقال أحد الموقعين إن الهدف منها هو «كسر الموانع الدستورية لتقدم الرئيس (ولد عبد العزيز) لولاية ثالثة»، كما نظمت في الأيام ذاتها مهرجانات وندوات، تصدرها سياسيون ونافذون قبليون ورجال أعمال يطالبون ولد عبد العزيز بتعديل الدستور للبقاء في الحكم.
كان الوضع آنذاك يوحي بما يشبه الإجماع السياسي على ضرورة بقاء الرئيس في الحكم، مع استثناءات قليلة تمثلها أحزاب المعارضة التقليدية، التي تظاهرت رفضاً لتعديل الدستور. لكنها كانت أضعف من أن تمنع الأغلبية الرئاسية الحاكمة من تنفيذ رغبتها. كما سُمعت أصوات قليلة داخل الأغلبية الرئاسية ترفض تعديل الدستور، ولو أنها كانت محدودة العدد وضعيفة التأثير. لكن الموريتانيين الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي عبروا عن رفض غير مسبوق لخطوة تعديل الدستور، ونظموا حملات قوية ضد النواب والسياسيين المطالبين به، كما أن تقارير «سرية»، أعدتها جهات أمنية موريتانية، أكدت أن الشارع يعارض «الولاية الثالثة».
ولد عبد العزيز، الذي سبق أن أعلن عدة مرات عدم رغبته في الترشح لولاية رئاسية ثالثة، التزم الصمت هذه المرة وكان وقتها خارج البلاد في جولة عربية، بينما كان بعض أفراد عائلته المقربين يلتقون بنواب البرلمان، ويحرضونهم على مواصلة التحرك نحو تعديل الدستور، وهو ما بدا أن الطريق نحوه سالكة، ذلك أن البرلمان الذي جرى انتخابه نهاية العام الماضي (2018)، نال فيه ولد عبد العزيز أغلبية ساحقة، هو من اختارها شخصياً، ودقق في أسمائها قبل ترشيحها للانتخابات، كما أسند رئاسة البرلمان إلى عقيد متقاعد تربطه به صداقة شخصية.
وفيما كانت الأمور توحي بأن ولد عبد العزيز في طريقه نحو البقاء في السلطة لولاية رئاسية ثالثة، صدر بيان مفاجئ عن رئاسة الجمهورية في 15 من يناير (كانون الثاني)، يطالب النواب والسياسيين بـ«التوقف الفوري» عن الدعوة إلى تعديل الدستور، وهو البيان الذي تمت تلاوته عبر التلفزيون الحكومي، وكان يتحدث باسم الرئيس الذي لا يزال موجوداً آنذاك خارج البلاد، ويؤكد على لسانه أنه سيحترم الدستور، ولن يترشح لولاية رئاسية ثالثة، وقد أثار هذا البيان، وظروف إصداره وملابساته، شكوك الموريتانيين، لدرجة أنهم وصفوه بأنه «انقلاب هادئ»، قام به قادة المؤسسة العسكرية لقطع الطريق على بقاء ولد عبد العزيز في السلطة، لأنهم يرون في ذلك تهديداً لأمن البلد.
في تلك الفترات كان الجنرال محمد ولد الغزواني، الذي تقاعد في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، يشغل منصب وزير الدفاع في حكومة ولد عبد العزيز، ويقدم من طرف المراقبين على أنه الرئيس المحتمل لموريتانيا بعد ولد عبد العزيز، نظراً إلى العلاقة القوية التي تربطهما، الممتدة لأكثر من 40 عاماً، أفشلا خلالها محاولتين انقلابيتين، ونفذا انقلابين عسكريين ناجحين، وخاضا معاً حرباً شرسة ضد الإرهاب، وكان ولد الغزواني خلال السنوات العشر الماضية الذراع العسكرية والأمنية لصديقه المنشغل بالعمل الحكومي والشأن السياسي.
ومع نهاية فبراير (شباط) الماضي، اجتمع ولد عبد العزيز بعدد من المقربين منه، وأعلن أمامهم أن ولد الغزواني هو مرشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، وأن على الجميع أن يقف معه، لأن فوزه بالانتخابات «استمرار» لحكمه ونهجه في التسيير، بينما ظل ولد الغزواني يلتزم الصمت، وهو العسكري الهادئ الذي اشتهر بأنه يستمع أكثر مما يتحدث، وكان أول خطاب يوجهه للموريتانيين في فاتح مارس (آذار) الماضي، حين أعلن ترشحه للرئاسيات، مؤكداً أنه يترشح من أجل «رفع التحديات الماثلة ومواجهة المخاطر المحدقة».
وفي حين كان ولد عبد العزيز وولد الغزواني يمهدان الطريق للتناوب على سدة الحكم، كانت المعارضة عاجزة عن توحيد كلمتها، وخوض الانتخابات بمرشح موحد، يكون أكثر قدرة على مواجهة المرشح المدعوم من السلطة، فكان عدد المرشحين للانتخابات ستة مترشحين؛ أربعة منهم من المعارضة، يتقدمهم الوزير الأول الأسبق سيدي محمد ولد ببكر، والناشط الحقوقي بيرام ولد الداه اعبيد، والمعارض التاريخي محمد ولد مولود، بالإضافة إلى النائب البرلماني السابق كان حاميدو بابا.
هكذا، وفي الدور الأول من الانتخابات فاز ولد الغزواني بنسبة زادت قليلاً على 52 في المائة. لكن هذه الانتخابات، التي وُصِفت من طرف المراقبين بأنها «الأقرب للشفافية» في تاريخ البلاد، أظهرت عمق الأزمة الاجتماعية والعرقية في موريتانيا، وكشفت مستوى صعود النزعة الشرائحية بشكل غير مسبوق، إذ أشارت تقارير «سرية» إلى أن التصويت في مناطق واسعة من موريتانيا كان «تصويتاً مبنياً على العرق»؛ حيث صوتت الأعراق (العرب، الزنوج، العبيد السابقون) للمرشحين الذين ينحدرون من العرق ذاته، دون النظر في البرامج الانتخابية أو الانتماء السياسي، وهو ما أدخل البلد في أزمة خانقة خلال الأيام التي أعقبت الاقتراع.
بعد الانتخابات اندلعت عدة احتجاجات، وحدثت أعمال شغب في أحياء من العاصمة نواكشوط، تقطنها أغلبية من الزنوج، كان المحتجون يرفعون فيها شعارات منددة بـ«التزوير»، لكنهم سرعان ما اصطدموا بالأمن، وانتشرت شائعات على مواقع التواصل الاجتماعي بسقوط قتلى وجرحى، وهو ما نفته السلطات التي قطعت خدمة الإنترنت عن الهواتف الجوالة، خشية انتشار الشائعات، لا سيما أن ذلك تزامن مع تصاعد أعمال الشغب والاحتجاجات، التي أرغمت السلطات على نشر وحدات من الجيش في بعض أحياء العاصمة نواكشوط، وبعض المدن على الحدود مع السنغال، وقطع خدمة الإنترنت بشكل كامل لأكثر من أسبوع، عاشته البلاد في وضعية «طوارئ غير معلنة».
حينها، لم يجد الموريتانيون الوقت للاحتفال بـ«العرس الديمقراطي»، الذي عاشته بلادهم. أما السلطات فقد أعلنت أنها سيطرت على الوضع وأحبطت «مؤامرة»، تقف وراءها «أيادٍ خارجية»، كانت تسعى إلى زعزعة الأمن في البلاد، معلنةً اعتقال أكثر من مائة أجنبي، وترحيلهم إلى بلدانهم (السنغال، غامبيا، مالي). كما اعتقل عشرات الناشطين السياسيين، أغلبهم من أنصار المرشح، كان حاميدو بابا، الذي حل في المرتبة الرابعة، ويعتقد أنصاره أن أصواتهم سرقت، وكانوا هم من أشعل فتيل الاحتجاجات في نواكشوط.
في ظل هذه الأجواء، وجد ولد الغزواني أمامه أجواء أمنية متوترة، ووضع سياسي متأزم. فالمعارضة ترفض الاعتراف بفوزه وتتهمه بالتزوير، والأوضاع الاقتصادية صعبة جداً، في ظل الحديث عن مديونية خارجية وصلت إلى 100 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وأزمة اجتماعية وعرقية معقدة، وصفها مراقبون بأنها «قنبلة موقوتة».
بعد تنصيبه رئيساً للبلاد، فاتح أغسطس (آب)، بدأ ولد الغزواني بعقد لقاءات مع قادة المعارضة، وفتح باب التشاور معهم، ما مكنه من تهدئة الأوضاع السياسية، والعمل على ما سماه «تطبيع» العلاقة بين المعارضة والسلطة، منهياً قطيعة هيمنت على العلاقة بين الطرفين خلال السنوات العشر، التي حكم فيها صديقه موريتانيا، وكان ذلك هو أول اختلاف أبانه الرجل في تسيير مقاليد الحكم، على الرغم من أنه كان يظهر منذ البداية اختلافاً في الخطاب والمبادئ والتوجهات، لكنه ظل بطبعه الهادئ يميل إلى إحداث التغيير، بقدر معين من السلاسة والحذر، على حد تعبير أحد المقربين منه.
غير أن أقدار السياسة في موريتانيا، بلد الانقلابات العسكرية والتحولات غير المتوقعة، كانت تخبئ للرجلين ما لم يكن في الحسبان. ففي حين كانت المعارضة تدلي بتصريحات «إيجابية» تجاه ولد الغزواني، وحصيلة مائة يوم أولى من حكمه، عاد ولد عبد العزيز إلى أرض الوطن بعد ثلاثة أشهر من الغياب، وبدأ منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لقاءات مع قادة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، إيذاناً بعودته للساحة السياسية، وهو أمرٌ يبدو أنه لم يكن محل ارتياح لدى الرئيس الحالي، لأن الساحة لا تتسع للرجلين، ومقعد الحكم لا يقبل القسمة على اثنين.
هكذا إذا اندلعت أزمة حادة بين الرجلين، رفض الموريتانيون في البداية تصديقها. لكنها تأكدت حين غاب ولد عبد العزيز عن احتفالات عيد الاستقلال الوطني (28 نوفمبر الماضي)، رغم الدعوة الرسمية التي تلقاها كرئيس سابق. غير أن مقعده ظل شاغراً خلال الحفل، الذي حضره رئيسان سابقان وقيادات في المعارضة، لكن الشيء الذي قطع الشك باليقين هو القرار المفاجئ، الذي اتخذه ولد الغزواني عشية الاستقلال، وذلك بإقالة قائد كتيبة الأمن الرئاسي، وهو الذي يوصف بأنه أحد المقربين من الرئيس السابق، وحينها تأكد الموريتانيون من أن الأزمة بين «الصديقين» وصلت إلى طريق مسدود.
لقد نجح ولد الغزواني في تقليم مخالب صديقه، وأكد سيطرته على مراكز القوة في البلد. فقد انتزع منه أولاً أغلبيته البرلمانية، التي وقعت على عريضة تصفه بأنه «المرجعية الحصرية» للحزب الحاكم، وثانياً قطع الصلة بينه وبين أعوانه داخل المؤسسة العسكرية، عندما أقال بعض المحسوبين عليه في الاستخبارات، وقلّص قوة كتيبة الأمن الرئاسي التي اشتهرت بأنها تدين بالولاء للرئيس السابق، كما جرّده من الحزب، الذي أسسه قبل عشر سنوات (منذ عام 2009)، وأنفق كثيراً من الجهد خلال السنوات الأخيرة في رعايته وتقويته، حيث أعلنت لجنة تسيير الحزب في مؤتمر صحافي أن ولد الغزواني هو صاحب القرار في الحزب.
لقد تعود الموريتانيون على الانقلابات العسكرية، التي تحمل رئيساً جديداً وتطيح برئيس قديم، إلا أنهم يعتقدون أن ما حدث بين ولد عبد العزيز وولد الغزواني، هو انقلاب من نمط آخر. ذلك أنه للمرة الأولى يقوم «رئيس حالي» بانقلاب محكم للإطاحة بـ«رئيس سابق»، وذلك لتجريده من أوراق قوة كان يمكن أن يستخدمها ضده في أي وقت.
إلا أن ولد الغزواني، وبعد أن ينقشع غبار المعارك السياسية، سيجد نفسه أمام تحديات كبيرة، أولها الأزمة الاقتصادية الخانقة لبلد غارق في الديون، ومشكل اجتماعي خطير في ظل تصاعد وتيرة الشحن العرقي والشرائحي في البلد. إضافة إلى الوضع الإقليمي المتردي، خصوصاً في منطقة الساحل الأفريقي، حيث تتمدد جماعات إرهابية خطيرة. إنها ملفات تجعل مهمة الرجل ليست بالسهلة خلال السنوات الخمس المقبلة، وإن كانت نقطة ضوء صغيرة تلوح في آخر النفق بفضل اكتشافات الغاز قبالة السواحل الموريتانية، حيث تحدثت التقديرات عن احتياطي يصل إلى 60 تريليون قدم مكعب من الغاز، سيبدأ إنتاجه وتسويقه عام 2022.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.