2019 عام لن ينساه السودانيون... قصة ثورة أطاحت أعتى ديكتاتورية

متظاهرون سودانيون وصلوا إلى الخرطوم للاحتفال بإطاحة البشير وإكمال العام الأول على انطلاق الثورة في 19 ديسمبر (أ.ف.ب)
متظاهرون سودانيون وصلوا إلى الخرطوم للاحتفال بإطاحة البشير وإكمال العام الأول على انطلاق الثورة في 19 ديسمبر (أ.ف.ب)
TT

2019 عام لن ينساه السودانيون... قصة ثورة أطاحت أعتى ديكتاتورية

متظاهرون سودانيون وصلوا إلى الخرطوم للاحتفال بإطاحة البشير وإكمال العام الأول على انطلاق الثورة في 19 ديسمبر (أ.ف.ب)
متظاهرون سودانيون وصلوا إلى الخرطوم للاحتفال بإطاحة البشير وإكمال العام الأول على انطلاق الثورة في 19 ديسمبر (أ.ف.ب)

لن ينسى السودانيون عام 2019 وتاريخ «ثورتهم» التي أسقطت أعتى ديكتاتورية شهدتها البلاد، ولن ينسوا أوشحة الدم، وأنات «المغتصبات» من نسائهم، وأنين القابعين تحت رحمة الجلاد. لن ينسوا عاماً شيدوا على مرّ أيامه قصور الأمل، ونسجوا على مسيرها «لوحة تحدٍ» بوجه الخراب الكبير الذي خلّفه النظام و«ذاب كفص ملح» وترك لهم مواجهته، ولن ينسوا اكتشافهم أنه كان مجرد «خيال مآتة»، أو ربما اكتشفوا أنه «بو» يخدع الناقة فتخضع للحلب.
واحتفل السودانيون في 19 ديسمبر (كانون الأول) بإكمال عام على انطلاق الثورة، التي دونت في تاريخ البلاد بثالثة الثورات، بعد ثورتي أكتوبر (تشرين الأول) 1964 ومارس - أبريل (نيسان) 1985، وقد أكملت عاماً منذ اندلاعها، وأقل قليلاً منذ انتصارها في 11 أبريل 2019.
واحتفل السودانيون بالانتصار على النظام الذي كان يسلقهم بألسنة من نار باسم الدين والإسلام، ليكتشفوا أنه خرب جهاز الدولة، خرب الاقتصاد، خرب السياسة، وأكبر خراب محاولاته المستميتة لتخريب «نظام القيم السودانية» المتسامحة وزرع قيم التطرف والإرهاب، وتفكيك نسيج المجتمع.
سقط النظام و«ذهب رئيسه إلى السجن حبيساً»، بعد أن كان عرابه «حسن الترابي» الذي اختبأ في السجن مكراً ومكيدة، لحرف الأنظار وتشتيت التركيز على هوية النظام الإرهابية حين جاء بانقلابه في 30 يونيو (حزيران) 1989. وترك للناس والحكومة الانتقالية عبئاً وحملاً ثقيلاً، ترك لهم اقتصاداً مثقوباً بهياكل متداعية، ودولة أكل النمل منسأتها، ونظاماً سياسياً وقيمياً متداعياً، وصورة قبيحة تواجه العالم.
وأورث النظام المعزول حكومة الثورة، حروباً متطاولة في 8 ولايات من جملة ولايات البلاد البالغة 18 ولاية، وهي تواجه تحدّي وقف الحروب والنزاعات العبثية التي أدخل فيها البشير البلاد، لتحقيق السلام.
وورثت الثورة جهاز دولة مترهلاً فاسداً، فيه محاسيب النظام من الإسلامويين الذين «تمكنوا» من مفاصله، وتخوض الدولة حرباً شرسة لاسترداده منهم، واستبداله بجهاز دولة رشيق وكفوء، هذه تحديات عام بعد الثورة تقف بوجه السودان.

قصة الثورة

بعد 4 أشهر من الاحتجاجات السلمية، التي استمرت دون انقطاع، أسقط الحراك الشعبي والاحتجاجات السلمية حكم الرئيس عمر البشير الذي امتد 30 عاماً. سقط في 11 أبريل.
يوم 6 أبريل 2019 كان نقطة فاصلة في مسيرة الحراك السوداني، انهارت فيه أسطورة أجهزة النظام القمعية، في مواجهة السيول البشرية التي تدفقت نحو القيادة العامة للجيش في وسط العاصمة، الخرطوم، بداية للعد التنازلي لنهاية نظام البشير.
مشهد ذلك اليوم سيظل محفوراً في ذاكرة السودانيين طويلاً، بدءاً بوصول عدد قليل من المتظاهرين إلى بوابة قيادة الجيش، وعلى بعد أمتار من بيت الضيافة حيث يقيم الرئيس المعزول عمر البشير، وهم يهتفون بسقوط النظام.

«تجمع المهنيين» يستلم الراية

تبنى «تجمع المهنيين السودانيين»، وهو تجمع يضم عدداً من النقابات المهنية المطلبية، مطالب الشارع السوداني، ودعا لمظاهرة شعبية في الخرطوم، تتجه نحو القصر لتسلم مذكرة تطالب النظام ورئيسه بالتنحي الفوري في 25 ديسمبر، لكن أجهزة أمن النظام واجهتها بعنف لافت، وأطلقت الرصاص والغاز بكثافة، لتتوالى المواكب الاحتجاجية بأشكالها المختلفة، إلى أن جاء الأول من يناير (كانون الثاني) الماضي؛ حيث ولد «إعلان الحرية والتغيير»، الذي تبنته أغلب القوى السياسية المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، وولد تحالف «قوى إعلان الحرية والتغيير» الذي قاد الثورة إلى الانتصار.
وأصبح «تجمع المهنيين السودانيين» والقوى الموقعة على إعلان «الحرية والتغيير» مظلة لحراك الشارع السوداني لإسقاط نظام المعزول، ووجد التحالف الشعبي تأييداً من الحركات المسلحة، وبدأت ترتيبات جديدة في تنظيم المواكب الاحتجاجية في الشوارع.

اعتصام أمام قيادة الجيش

مع نهاية مارس (آذار) 2019 بدأ النظام المعزول يتداعى تحت ضغط الشارع، وظهر المعزول البشير في خطاباته أمام أنصاره مهزوزاً، وتصدرت الأحداث في السودان بورصة الأخبار العالمية، تنقل انتهاكات أجهزة أمن النظام.
ولعبت وسائط التواصل الاجتماعي دوراً أساسياً في التوثيق المباشر لقتل المتظاهرين السلميين، وفضح التجاوزات الخطيرة لجهاز أمن النظام، ونقلتها لعيون العالم.
بعد أن كان هدف كل المواكب الاحتجاجية القصر الجمهوري لتسليم مذكرة تطالب بتنحي البشير وتسليم السلطة الشعب، أعلنت «قوى إعلان الحرية والتغيير»، موكباً يتوجه إلى القيادة العامة للجيش السوداني في 6 أبريل، الذي يتوافق مع ذكرى انتفاضة الشعب السوداني في 1986 ضد نظام الرئيس جعفر النميري. ومع غروب شمس ذلك اليوم، أحاطت الملايين بالقيادة، وأعلنت «قوى الحرية والتغيير» الاعتصام حتى تنحي الرئيس، حاولت الأجهزة الأمنية وكتائب الظل التابعة للحركة الإسلامية فض الاعتصام بالقوة، لكنها فشلت في أكثر من محاولة.

تسقط بس!

في 11 أبريل أعلن الجيش عزل البشير، وتكوين مجلس عسكري بقيادة نائبه السابق عوض بن عوف، الذي عين الفريق كمال عبد المعروف نائباً له، وهم أعضاء اللجنة الأمنية التي شكلها البشير لمواجهة الاحتجاجات وتفكيكها.
وفور الإعلان عن المجلس العسكري، ثارت ساحة الاعتصام ورفضت الجماهير تكوين المجلس من اللجنة الأمنية للنظام المعزول، وحملوا ابن عوف وعبد المعروف مسؤولية الانتهاكات وجرائم القتل ضد المتظاهرين السلميين. وتحت ضغط الحشود استقال ابن عوف وحل المجلس العسكري، وأعلن عن تشكيل جديد يرأسه الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان المفتش العام للجيش حينها، ورئيس المجلس الانتقالي الحالي، وعين قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو «حميدتي» نائباً لرئيس المجلس، الذي ضم عدداً من قادة الجيش.

مأساة فض الاعتصام

في 3 يونيو الماضي، اجتاحت الأجهزة الأمنية ساحة الاعتصام في محيط قيادة الجيش وارتكبت مجزرة شنيعة، راح ضحيتها عشرات القتلى ومئات الجرحى من المعتصمين، ما تسبب في قطيعة تامة بين «قوى التغيير» والمجلس العسكري – حينها - والذي خرج معلناً إلغاء الاتفاق مع «قوى التغيير» لتعود الأوضاع إلى مربع الاحتجاجات مرة أخرى، وتدشن ما عرف بمواكب 30 يونيو العملاقة، التي أصلحت توازن القوى لصالح قوى الثورة.

الوساطة الأفريقية
وتوقيع الوثيقة الدستورية

نجحت الوساطة الإقليمية التي قادتها إثيوبيا والاتحاد الأفريقي، بدعم المجتمع الدولي، إثر مفاوضات ماراثونية وضغوط مكثفة على المجلس العسكري وقوى الثورة، في التوقيع على اتفاق سياسي لتقاسم السلطة في 17 أغسطس (آب) الماضي.


مقالات ذات صلة

سياسات أميركا الخارجية رهينة «اللّايقين»

حصاد الأسبوع ترمب ... الملوّح بسلاح التعريفات الجمركية (أ ب)

سياسات أميركا الخارجية رهينة «اللّايقين»

مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، يبدو واضحاً بالفعل أن ولايته الثانية لن تكون مثل ولايته الأولى. ففي الأسبوع الأول من تولّيه منصبه، قال…

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع برونو روتايو

برونو روتايو... السياسي الفرنسي اليميني الذي أعلن الحرب على الهجرة

منذ تولي برونو روتايو مهامه الرسمية وزيراً للداخلية في فرنسا خلال سبتمبر 2024، بدأ نجمه يسطع بقوة في المشهد السياسي فارضاً نفسه كأحد أبرز شخصيات عهدة ماكرون…

حصاد الأسبوع مسيرة جزائرية في فرنسا بمناسبة ذكرى الاستقلال (رويترز)

في مسألة تزايد التوتر مع الجزائر

دخلت العلاقات الفرنسية - الجزائرية مرحلة توتر منذ اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وأيضاً بسبب قضية الكاتب بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (باريس)
حصاد الأسبوع السوداني ويزشكيان خلال زيارة رئيس الوزراء العراق لإيران (آ ف ب)

تغيير سوريا... وعلاقات العراق المستقبلية مع واشنطن وطهران وأنقرة

لم تنتهِ، حتى بعد مرور شهرين على الزلزال السوري، ارتداداته على دول المنطقة والإقليم والعالم. ومع أن علاقات نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد كانت جيدة…

حصاد الأسبوع من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات

رائد جبر (موسكو)

سياسات أميركا الخارجية رهينة «اللّايقين»

ترمب ... الملوّح بسلاح التعريفات الجمركية (أ ب)
ترمب ... الملوّح بسلاح التعريفات الجمركية (أ ب)
TT

سياسات أميركا الخارجية رهينة «اللّايقين»

ترمب ... الملوّح بسلاح التعريفات الجمركية (أ ب)
ترمب ... الملوّح بسلاح التعريفات الجمركية (أ ب)

مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، يبدو واضحاً بالفعل أن ولايته الثانية لن تكون مثل ولايته الأولى. ففي الأسبوع الأول من تولّيه منصبه، قال إنه سيقيس نجاحه جزئياً من خلال «الحروب التي لن ندخلها أبداً». غير أنه منذ اليوم الأول لتوليه منصبه، شن هجوماً شاملاً على الحكومة الفيدرالية، وأعاد العمل بجدول وظيفي كان أنشئ في الأشهر الأخيرة من ولايته الأولى، يحرم موظفي الخدمة المدنية من الحماية ويتيح صرفهم من الخدمة في أي وقت. منذ ترشح ترمب للرئاسة للمرة الأولى عام 2016 وحتى اليوم، أقنع كثيرين من أنصاره بأن «الدولة العميقة» أحبطت ولايته الأولى وحرمته من انتخابات 2020. وقال راسل فوغت، أحد أشد أنصار «ماغا» (شعار ترمب «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» والمدير المحتمل لمكتب الإدارة والميزانية): «نريد أن نصدم البيروقراطيين، وعندما يستيقظون في الصباح، نريدهم ألا يرغبوا في الذهاب إلى العمل لأنهم يُنظَر إليهم على نحو متزايد باعتبارهم الأشرار». كذلك قال كاش باتيل، مرشح ترمب لرئاسة مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) إنه سيغلق مقر «إف بي آي» في واشنطن وتحويله متحفاً لـ«الدولة العميقة».

لقد شرع دونالد ترمب في محو «الدولة العميقة» المزعومة، مطيحاً الخبرات والتدابير التي تجعل الإدارة الفعالة ممكنة. لكن مشكلته لا تكمن في أنه يطلب الولاء لأجندته فيما يتعلق بإدارة الحكومة، والهجرة، والرسوم الجمركية، والسياسة الخارجية، بل يطالب بما أسماه جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأطول خدمة لترمب في ولايته الأولى، بـ«الولاء وفق مفهوم العصور الوسطى الذي لا يعني مجرد الولاء، بل الخضوع».

ترمب يقول إنه يريد تجنّب تكرار فوضى رئاسته الأولى، سواءً في سياساته الداخلية أو الخارجية، ملقياً بالمسؤولية عنها على عاتق «بعض الأشخاص غير المخلصين الذين لم يكن ينبغي له أن يختارهم»، وفق ما قاله في «بودكاست» جو روغان.

إلا أن السؤال المطروح الآن هو ما إذا كان المحيطون به سيعملون على كبح جموحه، بينما هو يستعيض عن الخبراء بالمتملقين لصالح إرادة شخص واحد، وبالتالي يقلّص قدرة الحكومة على تصميم السياسات وتنفيذها؛ ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى إضعاف «الرجل القوي» نفسه.

تطهير الإدارة من «الأعداء»

في هجوم خاطف لا سابق له، أصدر ترمب عشرات، بل مئات القرارات التنفيذية لتطرد «الأعداء» المفترضين من مجموعة من الوكالات. وألغى سياسات «التنوّع والبيئة والجنس»، وعاقب معارضيه، وفصل المفتّشين العموميين المستقلين المكلّفين الحماية من الفساد المحتمل وإساءة الاستخدام. وبعدما جمّد تريليونات الدولارات من الإنفاق الفيدرالي على برامج متنوعة، كبرامج مساعدة كبار السن والأسر الفقيرة والمحاربين القدامى، (الذي عاد فجمّده قاضٍ فيدرالي) اضطر إلى التراجع عنه بعد الفوضى والارتباك الذي تسبب بهما. وقال ترمب للجمهوريين في مجلس النواب في خلوتهم هذا الأسبوع: «نحن نعمل على صياغة غالبية سياسية جديدة تحطّم وتحلّ محل ائتلاف (الصفقة الجديدة) للرئيس فرانكلن روزفلت الذي هيمن على السياسة الأميركية لأكثر من 100 سنة».

تفكيك الدولة الإدارية

في الواقع، لم يغيّر هجوم ترمب المُباغت نهج الحكومة في التعامل مع السياسات الرئيسية فحسب، بل هو عازم على «تفكيك الدولة الإدارية»، كما قال كبير استراتيجييه السابق ستيف بانون، وهو هدف يقوم على افتراض أن البيروقراطية متحيّزة بطبيعتها ضد اليمين وأولوياته.

وبعدما منح ترمب العفو للذين هاجموا مبنى الكابيتول يوم 6 يناير (كانون الثاني) 2021، فتح تحقيقاً في تصرّفات المدعين العامين المحترفين الذين وجّهوا التهم إلى مؤيدي ترمب. كذلك فصل المدّعين العامين الذين عملوا مع المستشار الخاص جاك سميث في التحقيقات في قضية قلب نتائج انتخابات 2020، وأرسل العشرات من المسؤولين المحترفين في مجلس الأمن القومي إلى بيوتهم، ووضع العشرات من المسؤولين المحترفين الآخرين في «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» في إجازة للاشتباه في مقاومة أوامره، وأمرت وزارة العدل بوقف مؤقت لجميع عمليات إنفاذ الحقوق المدنية.

أيضاً ألغى ترمب الحماية الوظيفية لكبار الموظفين المدنيين، وأمر بمراجعة الأشخاص في مناصب صنع السياسات للتأكد من أنهم يتبعون أولويات إدارته أو يواجهون الفصل. وألغى التصاريح والحمايات الأمنية عن كبار الشخصيات السياسية والعسكرية، من أعضاء إدارته الأولى، رغم تقدير أجهزة الاستخبارات أن التهديد الأمني لحياتهم من قبل إيران ما زال قائماً.

بهذا النوع من السياسات، يرى بعض الخبراء أن الخطر يهدّد الآن ترمب والبلاد معاً، بما يتجاوز التعسف ورفض المعرفة والعملية، وخطر التدابير القاسية. فقد أمضى الرئيس وحزبه وأتباعه ووسائل الإعلام الصديقة ما يقرب من عقد من الزمان في التنديد بـ«الدولة العميقة» المؤامراتية والتهديد بإسقاطها. وكانت النتيجة نزع الشرعية الشاملة عن المؤسسات التي تدعم القدرة الإدارية للحكومة، واعتبار الامتثال لقيودها غير ضروري ما لم تتوافق مع إرادة الرئيس.

ترمب والأمة... وعلامات الاستفهام

حقاً، منذ عام 2016، دأب ترمب على القول إنه شخص لا يمكن توقع أفعاله، بل قال: «علينا كأمة أن نكون أقل قابلية لتوقع أفعالنا». وشاركه نائبه جي دي فانس هذا التصور قائلاً: «ترمب، كما يقول منتقدوه وأنصاره، لا يمكن توقع ما يفعل» و«أنا متأكد بنسبة 100 في المائة من أن العجز عن التوقع كان لصالح الولايات المتحدة».

لكن ترمب ليس أول زعيم يتبنّى سياسة خارجية متقلبة. فقد حاول زعماء عالميون قبله أيضاً تطبيق هذه النظرية، من الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف، إلى صدام حسين ومعمر القذافي، الذي وصفه الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان بأنه «مهرّج مجنون» و«متعصّب يستحيل التنبؤ بتصرفاته». وأخيراً اكتسب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذه السمعة بعد غزوه أوكرانيا. وفي فبراير (شباط) 2022، قال ماركو روبيو، عضو مجلس الشيوخ آنذاك ووزير الخارجية الآن، إن بوتين كما يبدو «يعاني بعض المشاكل الصحية العصبية الفيزيولوجية».

من ناحية أخرى، قد يكون تمسّك الرئيس الأميركي بهذه النظرية مثمراً أحياناً. فكونه شخصية يستحيل توقّع تصرفاتها، قد يكون لها تأثير رادع ضد كل من الصين التي تهدّد تايوان، وروسيا المستمرة في حربها ضد أوكرانيا وتهديداتها للقارة الأوروبية. وإذا أقنع ترمب الدولتين بأنه قد يكون جاهزاً لفعل أي شيء رداً على استفزازاتهما، قد يقلب مثل هذه الحسابات ويوقف تهديداتهما.

«اللايقين» يحكم السياسة الخارجية

وكما حدث عام 2016، دفعت رئاسة دونالد ترمب المعلقين داخل واشنطن وخارجها إلى التفكير في اتجاهات السياسة الخارجية الأميركية. وتكثر الأسئلة اليوم حول تعامله مع الصين وروسيا، وكذلك الهند والقوى الناشئة في الجنوب العالمي. وتتجه السياسة الخارجية الأميركية إلى فترة من اللايقين، حتى ولو كانت ولاية ترمب الأولى توفر نقطة مرجعية واضحة لكيفية إدارته لدور الولايات المتحدة في العالم خلال السنوات المقبلة.

ومثلما شكل الرئيسان فرانكلين روزفلت ورونالد ريغان فترتين مميزتين من تاريخ الولايات المتحدة، تُعزِّز عودة ترمب إلى البيت الأبيض مكانته في التاريخ بصفته شخصية تحويلية. كانت رئاسة روزفلت، التي أدت إلى نشوء نظام متعدد الأطراف بقيادة الولايات المتحدة، بمثابة إعلان عن فجر «القرن الأميركي». في حين سعى ريغان إلى تعظيم القوة العسكرية والاقتصادية الأميركية، وكان عصره عصر «السلام من خلال القوة».

وبينما يرث ترمب بقايا هذه الفترة، فهو يمثل أيضاً عصراً جديداً هو «عصر القومية»، الذي بدأ مع الأزمة المالية عام 2008 وأدى إلى الحمائية وتشديد الحدود وانكماش النمو في الكثير من أجزاء العالم.

عودة «القومية»، وبالذات القومية الاقتصادية والقومية العرقية، ميّزت الشؤون العالمية منذ منتصف العقد الأول من القرن الـ21، عندما شهد العالم ارتفاعاً في شعبية الشخصيات القومية، منها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وزعيمة اليمين المتطرف الفرنسية مارين لوبن في فرنسا، وترمب.

ترمب وبايدن و«عصر القومية»

ولكن بدلاً من التشكيك في هذا العصر الجديد من «القومية» أو تحديه، ساهمت واشنطن في بنائه. وإبّان إدارتي ترمب وجو بايدن، انشغلت واشنطن بتعزيز القوة الأميركية مع تقييد التقدّم الصيني. وبدلاً من إعطاء الأولوية لخلق فرص العمل أو النمو الاقتصادي على مستوى العالم، فرضت واشنطن التعريفات الجمركية وضوابط التصدير لإضعاف القوة الاقتصادية للصين.

ترمب تبنى «القومية» في ولايته الأولى، واستفاد من تأجيج المنافسة بين القوى العظمى، ورفع في استراتيجيته للأمن القومي لعام 2017 شعار «أميركا أولاً»، على حساب الصالح العالمي. ثم ترجم هذا إلى انسحاب الولايات المتحدة، من منظمات كـ«مجلس حقوق الإنسان» التابع للأمم المتحدة و«يونيسكو» و«منظمة الصحة العالمية» و«اتفاقية المناخ». وبعدما عاد إليها سلفه بايدن، انسحب ترمب منها مجدداً في الأسبوع الأول من تسلمه منصبه.

وبينما دفع الهوس بالمنافسة بين القوى العظمى ترمب إلى فرض تعريفات جمركية على الواردات الصينية والأوروبية، وعد بايدن بالابتعاد عن «أميركا أولاً»، لكنه لم يغادر «عصر القومية». وبعدما تعهد في أوائل عام 2021، «بالبدء في إصلاح التعاون وإعادة بناء قوة التحالفات الديمقراطية التي ضمرت»، بقي هذا التعاون في إطار المنافسة بين القوى العظمى. لا، بل توسع في سياسة ترمب الحمائية ضد الصين، وعزّز بشكل كبير لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، التي تراقب وتقيد الاستثمار الأجنبي لأسباب تتعلق بالأمن القومي، ووسع عدد الشركات الصينية المدرجة في القائمة السوداء لارتباطها بالجيش الصيني، وحافظ على التعريفات الجمركية الأولية التي فرضها ترمب والتي استهدفت الصين، وفرض تعريفات جمركية جديدة على تكنولوجيا أشباه الموصلات والطاقة المتجددة الصينية، وفرض قيوداً جديدة على الاستثمار الصيني في الولايات المتحدة، وجعل الاعتمادات الضريبية الجديدة متاحة لشركات التكنولوجيا الأميركية بشرط سحب استثماراتها من الشركات الصينية.

وهكذا، ما وصفه جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، في البداية بنهج «ساحة صغيرة وسياج مرتفع» صار استراتيجية اقتصادية لاحتواء الصين وتفكيك الترابط بين الولايات المتحدة والصين في قطاعات التكنولوجيا العالية في الاقتصاد العالمي. وأدى التحوّل القومي في السياسة الخارجية الأميركية في عهد بايدن إلى تمكين الشركات ذاتها التي ساهمت في التفاوت الذي يغذي القومية.

«السلام من خلال القوة» عبر العودة لـ«مبدأ مونرو»

> تهديدات دونالد ترمب الجديدة، ورغم أنها ليست غريبة عن فترة رئاسته الأولى، بعدما تحولت «آيديولوجيا» للمؤسسة السياسية الأميركية، بمعزل عن هوية ساكن البيت الأبيض، فإن المحللين متشككون بشأن الكيفية التي يخطط بها للتعامل مع معظم البلدان في ولايته الثانية. لقد أثار ترمب مخاوف الحلفاء والأعداء معاً بتبنيه شعار «السلام من خلال القوة»، وطرحه سياسة خارجية جديدة عدوانية تعود إلى «مبدأ مونرو»، وتؤسس لنصف كرة غربي خالٍ من نفوذ الصين وروسيا. وبدا واضحاً أن ترمب سيعتمد سياسة «العصا والجزَرَة»؛ إذ هدّد الأوروبيين في «منتدى دافوس الاقتصادي» بتعريفات جمركية كبيرة ما لم يستثمروا في الولايات المتحدة، وطالب منظمة «أوبك» بخفض أسعار النفط وكرّر مطالبة دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) بزيادة الإنفاق الدفاعي من 2 إلى 5 في المائة. وفي الشرق الأوسط، هدّد «حماس» إن لم توافق على صفقة تبادل الأسرى، وأثار الجدل بعد «طلبه» ترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والأردن رغم المخاوف من انهيار اتفاقيات السلام وزعزعة استقرار المنطقة. وبعدما أوقف المساعدات الخارجية، باستثناء إسرائيل ومصر، رفع الحظر عن الأسلحة الثقيلة لإسرائيل والقيود عن المستوطنين المتهمين بأعمال إجرامية ضد الفلسطينيين. وأيضاً أوقف المساعدات الإنسانية لسكان غزة بحجة استخدام أموالها في شراء «واقيات ذكرية». وقبل تسلمه منصبه، قال إن أميركا ستستعيد قناة بنما التي بنتها بحجة معاملتها السفن الأميركية بشكل مجحف يخدم الصين، وقال إنه يريد جزيرة غرينلاند «وإنه واثق من قبول الدنمارك الفكرة» - التي رفضتها كوبنهاغن - ورغبته في ضم كندا لتغدو الولاية الأميركية الـ51، وتغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أميركا. أيضاً، في أميركا اللاتينية، عبر سياسته المتشددة تجاه المهاجرين، يعتزم ترمب تعزيز النفوذ الأميركي. وفي حين اختار الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو «العصا»، اختار رئيس السلفادور نجيب بو كيلة «الجزرة»، عندما وافق على قبول عودة مواطنيه المرحّلين من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى أعضاء عصابة «ترين دي أراغوا» من أصل فنزويلي. و«تفاخر» البيت الأبيض بما جرى مع كولومبيا إثر رفضها في البداية استقبال المرحّلين، ثم رضوخها بعد ساعات لضغوط ترمب، قائلاً إن هذه الأحداث توضح للعالم أن أميركا تحظى بالاحترام مرة أخرى، وبأنها بمثابة تحذير للدول الأخرى التي قد تسعى لعرقلة خططه.