عراق 2019... بدأ متفائلاً حذراً وانتهى بأزمة سياسية مفتوحة

الصراع الأميركي ـ الإيراني ألقى بظلاله الثقيلة على البلاد

متظاهرون عراقيون يرفعون الأعلام الوطنية بالقرب من مقر الحكومة وسط بغداد في صورة تعود إلى 25 أكتوبر الماضي (إ.ب.أ)
متظاهرون عراقيون يرفعون الأعلام الوطنية بالقرب من مقر الحكومة وسط بغداد في صورة تعود إلى 25 أكتوبر الماضي (إ.ب.أ)
TT

عراق 2019... بدأ متفائلاً حذراً وانتهى بأزمة سياسية مفتوحة

متظاهرون عراقيون يرفعون الأعلام الوطنية بالقرب من مقر الحكومة وسط بغداد في صورة تعود إلى 25 أكتوبر الماضي (إ.ب.أ)
متظاهرون عراقيون يرفعون الأعلام الوطنية بالقرب من مقر الحكومة وسط بغداد في صورة تعود إلى 25 أكتوبر الماضي (إ.ب.أ)

خلافاً للآمال الحذرة التي عقدت مطلع عام 2019 على صعود شخصية سياسية توصف بـ«الهدوء والاعتدال»، على قمة هرم السلطة في بغداد، هو رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، يبدو مشهد البلاد مطلع العام الجديد 2020، غاية في الغموض والضبابية، بعد الهزة الشديدة التي أحدثتها الاحتجاجات العراقية التي انطلقت مطلع شهر أكتوبر (تشرين الأول) على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وحتى الربع الأول من عام 2019، لم تواجه حكومة عادل عبد المهدي، تحديات كبيرة تمكن المراقبين من الحكم على أدائها، وقدرتها على النجاح في إدارة البلاد الخارجة تواً من حرب امتدت لنحو ثلاث سنوات ضد تنظيم «داعش»، ومعالجة المشكلات والإخفاقات الراهنة. إلا أن حادث غرق «العبارة» في الموصل في مارس (آذار)، وتسببه بوفاة أكثر من 120 مواطناً، وطلب عبد المهدي من البرلمان إقالة محافظة نينوى نوفل العاكوب، وتحميله مسؤولية ما حدث، بعث برسالة إيجابية عن الدور الإيجابي الذي يمكن أن يضطلع به عبد المهدي في قيادة البلاد إلى بر الأمان. غير أن ملامح ذلك الأداء بدت أكثر وضوحاً بعد انتهاء الربع الثاني من العام، وتصاعدت شيئاً فشيئاً، حدة الانتقادات والآراء المشككة في أداء الحكومة ورئيسها. ومع أنها ورثت مشكلات كارثية لنحو عقد ونصف العقد، إلا أن المواطنين لم يلمسوا فرقاً أو تحسناً في أوضاعهم الاقتصادية، على الرغم من الموازنة المالية الضخمة (88.5 مليار دولار أميركي) وهي الأكبر منذ 2003. كما لم يشهد ملف الخدمات والبنى التحتية تطوراً ملحوظاً، والأهم من كل ذلك لم تحرز الحكومة، حتى ذلك التاريخ، تقدماً يذكر في ملف مكافحة الفساد الأكثر إلحاحاً على المستوى الشعبي منذ سنوات.
ومع احتدام الصراع الأميركي - الإيراني، وتصاعد العقوبات الاقتصادية على طهران، وقعت حكومة بغداد بين فكي ذلك الصراع الشرس، وبدت في أحيان كثيرة حائرة بين علاقات الشراكة الاستراتيجية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، وبين ما تفرضه علاقات الجوار والتحالف المعلن لبعض قوى العملية السياسية مع إيران. ومع تصاعد الهجمات التي شنتها الطائرات المسيرة (الدرون) ضد مواقع عديدة لمعسكرات «الحشد الشعبي» في بغداد وأكثر من محافظة، اتضح أن العراق وسيادته يقعان في قلب عاصفة الصراع الإيراني - الأميركي، مثلما اتضح أن الحكومة عاجزة تماماً، سواء على مستوى ردع الفصائل المسلحة المتهمة بتخزين الأسلحة الإيرانية داخل أراضي بلادها، وبالتالي عدم إعطاء الذريعة لإسرائيل أو غيرها في التطاول على السيادة الوطنية، أو على مستوى قدرة البلاد العسكرية على ردع أي اعتداء خارجي. وسيكون ذلك العجز، أحد عوامل تأجيج مشاعر الغضب الوطنية والخروج بمظاهرات حاشدة لإسقاط النظام في شهر أكتوبر اللاحق.
وحيال الأسئلة الملحة التي يطرحها الشارع العراقي عن الانتهاكات المتواصلة لسيادة البلاد، صمت رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، أسابيع عديدة، قبل أن يتهم إسرائيل علناً نهاية شهر سبتمبر (أيلول)، بالوقوف وراء تلك الهجمات، لكنه لم يكشف عن أسبابها ودافعها، في مقابل تكهنات محلية تشير إلى معركة لا تخطئها العين بين إسرائيل والولايات المتحدة، من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى على الأراضي العراقية. وعلى الرغم من إصدار عبد المهدي أمراً ديوانياً في تلك الفترة لضبط إيقاع هيئة «الحشد الشعبي»، إلا أن دلائل غير قليلة كانت تشير إلى علو كفة الفصائل المسلحة على كفة الحكومة والدولة العراقية. وصار ينظر محلياً إلى رئيس الوزراء «الهادئ والمعتدل» الذي أتى بصفقة ملتبسة بين تحالفي «سائرون»، الذي يدعمه مقتدى الصدر، وتحالف «الفتح»، الذي يضم غالبية القوى «الحشدية» الحليفة لإيران، باعتباره الشخصية الواقعة تحت تأثير «الفتح» ورجاله. وأخذ تحالف «سائرون» يعلن شيئاً فشيئاً تخليه عن دعمه.
في منتصف سبتمبر، سعى رئيس الوزراء العراقي إلى تطمين العراقيين حول مستقبلهم الاقتصادي، عبر زيارتين قام بهما إلى المملكة العربية السعودية والصين لتوقيع اتفاقيات متعددة للنهوض بواقع البلاد الاقتصادي والاستثماري. إلا أن حادثين وقعا نهاية الشهر كانا كفيلين بتراجع شعبية رئيس الوزراء إلى مستويات غير مسبوقة، ومهدا للغضب الشعبي اللاحق الذي انفجر على شكل مظاهرات واعتصامات شملت العاصمة بغداد وغالبية محافظات جنوب وشرق البلاد ذات الأغلبية الشيعية (النجف، كربلاء، ميسان، واسط، بابل، البصرة، ذي قار، الديوانية، المثنى).
ففي 25 سبتمبر، شنت قوات مكافحة الشغب هجوماً عنيفاً بالمياه الحارة لتفريق مظاهرة لحملة الشهادات العليا من النساء والرجال قرب مقر الحكومة في منطقة العلاوي، وسط بغداد، ما أثار موجة غضب شعبية كبيرة. وبعد يومين من ذلك التاريخ، أمر رئيس الوزراء بعزل قائد جهاز مكافحة الإرهاب الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي، ونقله إلى آمرة وزارة الدفاع، لأسباب غير مفهومة، قُوبلت برفض جماهيري واسع.
ولم تنتظر الجماهير طويلاً، لتعلن رفضها واحتجاجها على المسار الذي اختطته حكومة عبد المهدي، وخرجت أول طلائع المحتجين في غضون أربعة أيام من تلك الحوادث. ففي الأول من أكتوبر، الذي صادف انقضاء نحو سنة على تسلم عبد المهدي لمنصب رئاسة الوزراء، انطلقت المظاهرات في بغداد وأكثر من محافظة، وجاء التعامل بالقوة المفرطة من قبل قوات الأمن مع المتظاهرين منذ اليوم الأول، حيث سقط فيه ما لا يقل عن 10 قتلى وجرح العشرات ليزيد الأمور تعقيداً، ويكشف أمام المواطنين الوجه الآخر لرئيس الوزراء «الهادئ والمعتدل». استمرت المظاهرات والصدامات مع القوات الأمنية، لبضعة أيام، ثم توقفت لتزامنها مع زيارة «الأربعين» الدينية، ليتجدد انطلاقها، وبوتيرة أكثر تصاعداً في الـ25 من الشهر ذاته.
ومثلما بدا المتظاهرون في إطلالتهم الجديدة أكثر تصميماً على إحداث التغيير المطلوب الذي ارتفع سقفه، ليشمل إزاحة النظام كله وعدم الاكتفاء ببعض بمطالب الإصلاح الشكلي، أظهرت السلطات ورئيس الحكومة إصراراً مماثلاً على قمع المتظاهرين بقوة. ولم تكتف السلطات بقمع المتظاهرين بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع وحسب، وعمدت إلى قطع شبكة الإنترنت لنحو أسبوعين، إلى جانب حملة قمع وإغلاق طالت صحافيين وقنوات فضائية ووسائل إعلام مختلفة نشطت في تغطية الاحتجاجات، بل منعت الجهات الصحية من الإدلاء بأي معلومات حول أعداد الجرحى والقتلى.
ورغم القرارات والإجراءات التي قامت بها الحكومة، لامتصاص غضب المواطنين، مثل إطلاق حملة من التعيينات والوظائف والقروض، وقرارات أخرى اتخذها البرلمان تتعلق بخفض امتيازات المسؤولين الكبار، والتصويت على قانون جديد للانتخابات، فإن هذه الإجراءات لم تلق آذاناً صاغية من جموع المحتجين، وتحول الأمر إلى اعتصامات وقطع طرق وإضرابات عامة، قوبلت باستعمال مفرط للقوة من جانب السلطات، واتهمت فصائل مسلحة موالية لإيران بالقيام بتلك الأعمال، وتحدث وزير الدفاع العراقي نجاح الشمري، منتصف نوفمبر (تشرين الثاني)، عن «طرف ثالث» يقف وراء قتل وقمع المتظاهرين.
وحملت تلك الفصائل، إلى جانب قادة عسكريين، مسؤولية المجاز التي ارتكبت في محافظة ذي قار مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) ومجزرة ساحتي الخلاني والسنك في بغداد منتصف الشهر، علماً بأن عدد قتلى المظاهرات ناهز الـ500 شخص، وناهز عدد الجرحى (حتى تاريخ كتابة هذا التقرير) الـ20 ألفاً، ضمنهم عناصر قليلة من أفراد القوات الأمنية.
وبرز خلال «انتفاضة تشرين» من بين أسباب كثيرة دفعت الناس للتظاهر، الغضب الشعبي حيال النفوذ والهيمنة الإيرانيين على القرار السياسي في العراق ودعم إيران لمجاميع وفصائل مسلحة لا تحظى باحترام السكان، لذلك عمد المتظاهرون إلى مهاجمة وحرق القنصلية الإيرانية في محافظة كربلاء مطلع شهر نوفمبر، وقاموا بعملية حرق مماثلة، نهاية الشهر ذاته، للقنصلية الإيرانية الأخرى في محافظة النجف معقل المرجعية الدينية العليا، وتكررت عملية حرق الأخيرة مرتين في غضون بضعة أيام.
ومع الخطب المؤيدة للاحتجاجات، والمنتقدة للسلطات التي أطلقها المرجعية الدينية في النجف، ومع الضغوط الشعبية والدولية التي واجهها رئيس الوزراء المتهم بالخضوع لسلطة الميليشيات والفصائل المسلحة الحليفة لإيران، اضطر عبد المهدي، في الأول من شهر ديسمبر (كانون الأول)، إلى تقديم استقالته للبرلمان الذي قبلها بدوره.
وأصبح أمام رئيس الجمهورية برهم صالح، حتى منتصف الشهر، لاختيار مرشح جديد لرئاسة الحكومة، الأمر الذي ينظر إليه كثير من المراقبين بعين التشكيك، خصوصاً أن جماعات الحراك لا تثق بغالبية وجوه العملية السياسية بعد 2003.
ورغم الآمال العريضة التي يتمسك بها «شباب ثورة تشرين»، في رؤية بلاد آمنة ومستقرة مع مطلع العام الجديد، إلا أن كثيرين من المحللين والمراقبين للشأن المحلي يدركون حجم المصاعب والأخطار في طريق البلاد قبل الخروج من أزمتها الراهنة.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.