لا يزال الكتاب اللبنانيون منشغلون بقراءة الرواية والعودة إلى التاريخ، لكن الغالب هذه السنة هو عدد الكتب المترجمة التي قالوا إنهم قرأوها. وإذا كانت الكتب المترجمة، من رواية وغيرها، باتت من مفضلات القارئ العربي، فإن المثقفين ربما لا يشذون عن هذه القاعدة. وهنا آراء لأربعة كتاب لبنانيين يتحدثون عن أجمل الكتب التي قرأوها هذا العام، وبينها كتب لفيليب روث، ويمنى العيد، وأغوتا كريستوف، وأمير تاج السر، وكذلك أسامة المقدسي.
- جنى الحسن: قرأت «الوصايا» أكثر من 20 مرة
أعجبتني رواية «مستر نون»، للكاتبة اللبنانية نجوى بركات. الرواية مكتوبة بلغة آسرة، وأسلوب يجعلها تستحق أن تكون في مصاف الروايات العالمية. هي رواية تدخلك إلى عالمها لتعيش تفاصيل شخصياتها، وأيضاً تفاصيل المكان الذي هو بيروت. ورغم أنها تعالج موضوع الحرب، فإنها تتطرق أكثر إلى مرحلة ما بعدها، وكيف تطبع أثرها على الإنسان.
كذلك كتاب «بعلم الوصول»، للكاتب المصري أحمد خير الدين، وهو مجموعة رسائل قديمة مكتوبة بخط اليد جمعها الكاتب على مدى فترة طويلة في هذا الكتاب. الرسائل تظهر تحولات المجتمع المصري، ولكن أيضاً تحمل في كل رسالة حكاية وحالة إنسانية مختلفة.
وهناك ديوان «استيقظ لكي تحلم»، للشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي. وواقعية شعر مريد البرغوثي، وملامسته لتفاصيل الحياة اليومية، عوامل جاذبة بالنسبة لي. أن تختزل حكمة في سطرين بالنسبة لي هو أمر لافت ينطبع في الذاكرة.
هناك أيضاً كتاب «الوصايا»، لفادي عزام. قرأته تقريباً أكثر من 20 مرة، وأعود إليه كلما كنت بحاجة إلى تحفيز أو دعم معنوي. ومن الكتب المهمة «المخطط ضد أميركا»، للكاتب الأميركي فيليب روث. وقد قرأت مجمل أعمال فيليب روث، وهو من كتابي المفضلين، لكن هذه الرواية كانت مميزة لأنه رغم أنها مكتوبة منذ مدة، فإنها تلامس الواقع الأميركي الحالي.
- د. غادة صبيح: «لن أغادر منزلي» لسليم بطّي
أعشق بشكل أساسي قراءة الرواية، وأختار من بين ما قرأت «لن أغادر منزلي»، لسليم بطّي، بل «لن يغادرني منزلي»... هذا هو العنوان الأصح لهذه الرواية.
قرأتها مرتين متتاليتين، وما أزال أرغب في تصفحها. قوي جداً سليم بطي، بجرأة صوره وتعابيره، لدرجة تدفعك إلى مراجعة نفسك، والتأكدّ من المعنى المقصود فعلاً.
من زمنٍ، بل إنها المرة الأولى التي أرفع فيها كلمات للبحث في المعجم، وأنا أقرأ العربية وبالعربية. شعرت بالكاتب، المحاضر بالترجمة والأدب الإنجليزي، ينتقم لكل الويلات التي يعاني منها عند نقله النصوص الأدبية إلى اللغة العربية، وكأنه يقارع من سيحاول ترجمة روايته لاحقاً بالبحث عن المعنى الفصيح لمفردات يصعب علينا فهمها بالعربية، دون العودة لدلالتها بالسياق الذي أتت ضمنه.
ما هذا الهول من الصور والإيحاءات الجنسية لوصف جمادٍ كاد أن ينطق من بين أسطرك؟ قاسية جداً وعميقة لدرجة تدفعك إلى معاودة القراءة، ومعاودة الاشمئزاز من المعنى المقصود، فقط لتبيان المعنى، من عملية النحت اللغوي الذي مارسته مع حروفك وجملك. أحببت أيضاً رواية «جزء مؤلم من حكاية»، لأمير تاج السر. غريب الإحساس وأنت تقرأ هذه الرواية الغارقة بالاشمئزاز... حاولت التوقف عن القراءة، ولكن شخصية بطل الرواية «مرحلي»، بكل تفاصيل العنف والقتل التي يعيشها، أعادتني إلى عالمه. من الأسطر الأولى نوّه الكاتب بأن النص قد يبدو مؤلماً بعض الشيء... ومن الصفحات الأولى، حطّ رحاله بمدينة «أشبه بوعاء كبير على نار»، وكان في قلبه توجّس كبير، ملمحاً إلى نهاية لبطله «لا يرغب حتى بتخيلها»، وهنا كانت البداية: البحث عن هذه النهاية التي ننتظرها ونطلبها «لسارق أرواح» مثله. الملاحظة التي استوقفتني، من جهة أخرى، هي العلاقة مع الشجر، وكيف يطلق اسمها على النساء المعمرات، وبعد كل عملية قتل كانت الشجرة من يحتضنها ويبكي. أما دكّة أو ركن الإخباريين، فحدّث ولا حرج عن الربط مع الإعلام وبث الأخبار وهذا العالم الذي من عام 1750، وفق الرواية، ينسج ويساهم بخلق الأحداث والجرائم.
- بسمة الخطيب: إيشيغورو وأدب الأطفال
يمكنني عنونة عام قراءاتي بعام الكاتب الياباني البريطاني كازو إيشيغورو؛ قرأت 7 من رواياته، بعضها بالإنجليزية وبعضها الآخر مترجمة إلى العربية. اكتشفت أن لكل رواية تقنيتها المختلفة تماماً. وهذا ما أذهلني. صحيح أنها ليست متساوية الإتقان، وليست في مستوى جمالي واحد، وهي بهذا تخبر بوضوح مسيرة تجربة إيشيغورو غير الرتيبة والحيوية، التي رغم صعودها ونزولها لم تصل إلى مرحلة السكون أو انقطاع النبض.
روايتان هما المفضّلتان عندي، وأعتبرهما من أجمل الأعمال الروائية التي قرأتها في العقد الأخير. الأولى هي «منظر شاحب للتلال»، وهي أولى روايات إيشيغورو. ومن يريد أن يكتشف هذا الأديب أنصحه أن يبدأ بها، فهي من أقوى رواياته، ولا تشبه غيرها البتة، بل لا تشبه الكثير مما نتوقّعه في الرواية المعاصرة. أربكت هذه الرواية النقاد والقراء. حين صدرت، اعتبر البعض أن هذا الروائي المبتدئ أخطأ في مكان ما، والحقّ أنهم هم من أخطأوا فهمه حينذاك، أو استخفّوا في أن يكون عمله الأوّل إشكالياً بل وعبقرياً لهذه الدرجة. قراءة هذه الرواية ستشكل تحدياً كبيراً للقارئ. إنها من الروايات التي سنحبّ أن نقرأها مرة جديدة فور انتهاء قراءتنا الأولى.
الرواية البديعة الثانية التي لفتتني، صدرت في مرحلة متقدّمة من مسيرة إيشيغورو الأدبية، وهي الفانتازيا التاريخية «العملاق المدفون»، عن حقبة سقطت سهواً، أو عمداً ربما، من تاريخ بريطانيا، وتحكي الرواية كيف أن عملاق الفتنة بين الأعراق أو الطوائف الذي ينام، أو يُخدِّره المنتصر عصوراً طويلة لا بدّ من أن يستيقظ وينتقم، وذلك عبر زوجين عجوزين ينطلقان في رحلة البحث عن ابنهما بعدما فقدا الكثير من ذكرياتهما، وابتلاهما زمنهما بمرض النسيان كمعظم معاصريهما، بحيث تتحوّل رحلتهما إلى رحلة في ظلمة حقبة تاريخية كانت إنجلترا فيها ساحة حروب وحشية بين السكسون والبريتون.
هناك أيضاً كتابان مهمّان صدرا هذا العام، وهما الأعمال النثرية الكاملة لبوشكين، المشهور بكونه شاعر روسيا الكبير، نجح المترجم فؤاد المرعي في جمع شتاتها، بما فيها تلك التي مات بوشكين قبل إكمالها، وفي ترجمتها إلى عربية جميلة وطيِّعة، ولكنها تحتفظ بنكهة كلاسيكية تقابل كلاسيكية لغتها الأصلية وبيئة نصوصها وروح موضوعاتها.
في الشق الثاني من قراءاتي، الذي أخصصه لأدب الأطفال واليافعين، قرأت الكثير من الكتب بلغات مختلفة، أختار الحديث عن بعضها.
«The Restless Girls» لجسي بورتون ورسوم أنجيلا باريت، هو إعادة سرد القصة الشعبية الشهيرة بعنوان 12 أميرة، من وجهة نظر مختلفة، وفي رؤية معاصرة، تضع المرأة في دور البطولة، من دون انتظار الشاب المنقذ الذي سيتزوّج أجمل الأميرات في نهاية القصّة. الأميرات الاثنتا عشرة في القصة هنّ أفريقيات، لكلّ منهنّ موهبة مختلفة، بينها القراءة والعزف وقيادة السيّارة، وتجمعهنّ جميعاً هواية واحدة هي الرقص، وهو فعل التمرّد والتحدّي الذي يواجهن به صرامة والدهنّ وديكتاتورييّه. كسبت دار «بلومزبيري» حين راهنت على بورتون التي لم تُخفِ خوفها من التجربة. وهي تعترف أنه من الصعب إعادة حكاية مثل تلك الحكايات الشعبية، وإسقاطها على قضايا وأفكار إشكالية مثل حرية المرأة ونضالها ضدّ الديكتاتورية الذكورية.
وأتممت هذا العام قراءة الموسوعة المصوّرة الأكبر عن أدب الأطفال الغربي، عنوانها: «أدب الأطفال، تاريخ مصوّر»، التي حرَّرها المؤرخ والباحث بيتر هانت.
- محمد الحجيري: العودة إلى الصراعات الدينية
أعجبني كتاب «مدفعية السماء»، لمؤلفه أسامة المقدسي، وهو من ترجمة ريما العيسى، وصادر عن «دار الآداب». ويروي قصة لقاء مؤسس بين أميركيين وعرب، بحيث تقتفي القصة أثر وصول الإرساليات الأميركية البروتستانتية الأولى إلى المقاطعات العربية من الدول العثمانية، وما تلاها من اضطهاد وقتل لأحد المتحولين على يديها. إن ما يستدعي رواية هذا التاريخ هو كونها تضيء بدايات علاقة معقدة ومتطورة بين أميركا والعالم العربي، تعود إلى زمنٍ «أبعدَ مما يظنّ أكثرُنا أو يتوهم»، وقبل «الحرب الباردة» بين المعسكر الاشتراكي السوفياتي والمعسكر الرأسمالي، وقبل شعارات «الموت لأميركا» الخمينية.
والمتحول الذي يتحدَّث عنه أسامة مقدسي هو أسعد الشدياق (شقيق اللغوي والرحالة أحمد فارس الشدياق)، أولُ عربي (لبناني) تحوَل إلى البروتستانتيَة الأميركيَة، قبل أن يذهب إلى موته الفاجع. وفي استقراء سيرته يمكن استقراء تحوّل الطوائف في لبنان وبروزها الحديث، بل يمكن استقراء أنماط انتشار البروتستانتية في المشرق، سواء في منطقة رأس بيروت أو جبل لبنان.
النافل أن الشدياق ألّف رسالة ضدّ عبادة الأيقونات، داعياً إلى التفسير المباشر للكتاب المقدّس من قبل المؤمنين أنفسهم. وفي عام 1820، شنَ البطريرك الماروني يوسف حبيش حملته على «الهرطقة البروتستانتية»، بناء على أمر من روما، وحرم أي تعاطٍ مع البروتستانت. بناء على ذلك، اعتُقل الشدياق، وأُودع السجن في المقرّ البطريركي في قنوبين، حيث توفي بسبب المعاملة الهمجية عام 1830. وعلى أثر اعتقاله، غادر معظم المرسلين البروتستانتيين المنطقة، ولم يعودوا إلا في ظلّ الحكم المصري على سوريا، حيث فتحوا مدرسة للصبيان في بيروت 1835، تلتها مدرسة للبنات.
الكتاب الثاني هو «هندية الصوفية الآثمة 1720-1798، أزمة دينية»، مؤلفه برنار هيبرجي، وترجمه جان هاشم، وصادر عن «دار النهار». يفتح هذا الكتاب «قضية» هنديّة عجيمي (1720-1798)، الصوفيّة الآثمة، التي كبَتَتْها الذاكرة الجماعية منذ قرنين من الزمن، ولا يمكن فصل المسار الذي ذهبت فيه الأحداث في قضية الراهبة هندية عن الصراع بين الكنيستين الغربية والشرقية، وعن التداخل بين السلطات الدينية والسياسية والتبعيات المحلية في لبنان.