الكتّاب اللبنانيون يحبون الرواية ويفضلون المترجمة

الروائية جنى الحسن  -  الصحافي الكاتب محمد الحجيري  -  الروائية بسمة الخطيب
الروائية جنى الحسن - الصحافي الكاتب محمد الحجيري - الروائية بسمة الخطيب
TT

الكتّاب اللبنانيون يحبون الرواية ويفضلون المترجمة

الروائية جنى الحسن  -  الصحافي الكاتب محمد الحجيري  -  الروائية بسمة الخطيب
الروائية جنى الحسن - الصحافي الكاتب محمد الحجيري - الروائية بسمة الخطيب

لا يزال الكتاب اللبنانيون منشغلون بقراءة الرواية والعودة إلى التاريخ، لكن الغالب هذه السنة هو عدد الكتب المترجمة التي قالوا إنهم قرأوها. وإذا كانت الكتب المترجمة، من رواية وغيرها، باتت من مفضلات القارئ العربي، فإن المثقفين ربما لا يشذون عن هذه القاعدة. وهنا آراء لأربعة كتاب لبنانيين يتحدثون عن أجمل الكتب التي قرأوها هذا العام، وبينها كتب لفيليب روث، ويمنى العيد، وأغوتا كريستوف، وأمير تاج السر، وكذلك أسامة المقدسي.
- جنى الحسن: قرأت «الوصايا» أكثر من 20 مرة
أعجبتني رواية «مستر نون»، للكاتبة اللبنانية نجوى بركات. الرواية مكتوبة بلغة آسرة، وأسلوب يجعلها تستحق أن تكون في مصاف الروايات العالمية. هي رواية تدخلك إلى عالمها لتعيش تفاصيل شخصياتها، وأيضاً تفاصيل المكان الذي هو بيروت. ورغم أنها تعالج موضوع الحرب، فإنها تتطرق أكثر إلى مرحلة ما بعدها، وكيف تطبع أثرها على الإنسان.
كذلك كتاب «بعلم الوصول»، للكاتب المصري أحمد خير الدين، وهو مجموعة رسائل قديمة مكتوبة بخط اليد جمعها الكاتب على مدى فترة طويلة في هذا الكتاب. الرسائل تظهر تحولات المجتمع المصري، ولكن أيضاً تحمل في كل رسالة حكاية وحالة إنسانية مختلفة.
وهناك ديوان «استيقظ لكي تحلم»، للشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي. وواقعية شعر مريد البرغوثي، وملامسته لتفاصيل الحياة اليومية، عوامل جاذبة بالنسبة لي. أن تختزل حكمة في سطرين بالنسبة لي هو أمر لافت ينطبع في الذاكرة.
هناك أيضاً كتاب «الوصايا»، لفادي عزام. قرأته تقريباً أكثر من 20 مرة، وأعود إليه كلما كنت بحاجة إلى تحفيز أو دعم معنوي. ومن الكتب المهمة «المخطط ضد أميركا»، للكاتب الأميركي فيليب روث. وقد قرأت مجمل أعمال فيليب روث، وهو من كتابي المفضلين، لكن هذه الرواية كانت مميزة لأنه رغم أنها مكتوبة منذ مدة، فإنها تلامس الواقع الأميركي الحالي.
- د. غادة صبيح: «لن أغادر منزلي» لسليم بطّي
أعشق بشكل أساسي قراءة الرواية، وأختار من بين ما قرأت «لن أغادر منزلي»، لسليم بطّي، بل «لن يغادرني منزلي»... هذا هو العنوان الأصح لهذه الرواية.
قرأتها مرتين متتاليتين، وما أزال أرغب في تصفحها. قوي جداً سليم بطي، بجرأة صوره وتعابيره، لدرجة تدفعك إلى مراجعة نفسك، والتأكدّ من المعنى المقصود فعلاً.
من زمنٍ، بل إنها المرة الأولى التي أرفع فيها كلمات للبحث في المعجم، وأنا أقرأ العربية وبالعربية. شعرت بالكاتب، المحاضر بالترجمة والأدب الإنجليزي، ينتقم لكل الويلات التي يعاني منها عند نقله النصوص الأدبية إلى اللغة العربية، وكأنه يقارع من سيحاول ترجمة روايته لاحقاً بالبحث عن المعنى الفصيح لمفردات يصعب علينا فهمها بالعربية، دون العودة لدلالتها بالسياق الذي أتت ضمنه.
ما هذا الهول من الصور والإيحاءات الجنسية لوصف جمادٍ كاد أن ينطق من بين أسطرك؟ قاسية جداً وعميقة لدرجة تدفعك إلى معاودة القراءة، ومعاودة الاشمئزاز من المعنى المقصود، فقط لتبيان المعنى، من عملية النحت اللغوي الذي مارسته مع حروفك وجملك. أحببت أيضاً رواية «جزء مؤلم من حكاية»، لأمير تاج السر. غريب الإحساس وأنت تقرأ هذه الرواية الغارقة بالاشمئزاز... حاولت التوقف عن القراءة، ولكن شخصية بطل الرواية «مرحلي»، بكل تفاصيل العنف والقتل التي يعيشها، أعادتني إلى عالمه. من الأسطر الأولى نوّه الكاتب بأن النص قد يبدو مؤلماً بعض الشيء... ومن الصفحات الأولى، حطّ رحاله بمدينة «أشبه بوعاء كبير على نار»، وكان في قلبه توجّس كبير، ملمحاً إلى نهاية لبطله «لا يرغب حتى بتخيلها»، وهنا كانت البداية: البحث عن هذه النهاية التي ننتظرها ونطلبها «لسارق أرواح» مثله. الملاحظة التي استوقفتني، من جهة أخرى، هي العلاقة مع الشجر، وكيف يطلق اسمها على النساء المعمرات، وبعد كل عملية قتل كانت الشجرة من يحتضنها ويبكي. أما دكّة أو ركن الإخباريين، فحدّث ولا حرج عن الربط مع الإعلام وبث الأخبار وهذا العالم الذي من عام 1750، وفق الرواية، ينسج ويساهم بخلق الأحداث والجرائم.
- بسمة الخطيب: إيشيغورو وأدب الأطفال
يمكنني عنونة عام قراءاتي بعام الكاتب الياباني البريطاني كازو إيشيغورو؛ قرأت 7 من رواياته، بعضها بالإنجليزية وبعضها الآخر مترجمة إلى العربية. اكتشفت أن لكل رواية تقنيتها المختلفة تماماً. وهذا ما أذهلني. صحيح أنها ليست متساوية الإتقان، وليست في مستوى جمالي واحد، وهي بهذا تخبر بوضوح مسيرة تجربة إيشيغورو غير الرتيبة والحيوية، التي رغم صعودها ونزولها لم تصل إلى مرحلة السكون أو انقطاع النبض.
روايتان هما المفضّلتان عندي، وأعتبرهما من أجمل الأعمال الروائية التي قرأتها في العقد الأخير. الأولى هي «منظر شاحب للتلال»، وهي أولى روايات إيشيغورو. ومن يريد أن يكتشف هذا الأديب أنصحه أن يبدأ بها، فهي من أقوى رواياته، ولا تشبه غيرها البتة، بل لا تشبه الكثير مما نتوقّعه في الرواية المعاصرة. أربكت هذه الرواية النقاد والقراء. حين صدرت، اعتبر البعض أن هذا الروائي المبتدئ أخطأ في مكان ما، والحقّ أنهم هم من أخطأوا فهمه حينذاك، أو استخفّوا في أن يكون عمله الأوّل إشكالياً بل وعبقرياً لهذه الدرجة. قراءة هذه الرواية ستشكل تحدياً كبيراً للقارئ. إنها من الروايات التي سنحبّ أن نقرأها مرة جديدة فور انتهاء قراءتنا الأولى.
الرواية البديعة الثانية التي لفتتني، صدرت في مرحلة متقدّمة من مسيرة إيشيغورو الأدبية، وهي الفانتازيا التاريخية «العملاق المدفون»، عن حقبة سقطت سهواً، أو عمداً ربما، من تاريخ بريطانيا، وتحكي الرواية كيف أن عملاق الفتنة بين الأعراق أو الطوائف الذي ينام، أو يُخدِّره المنتصر عصوراً طويلة لا بدّ من أن يستيقظ وينتقم، وذلك عبر زوجين عجوزين ينطلقان في رحلة البحث عن ابنهما بعدما فقدا الكثير من ذكرياتهما، وابتلاهما زمنهما بمرض النسيان كمعظم معاصريهما، بحيث تتحوّل رحلتهما إلى رحلة في ظلمة حقبة تاريخية كانت إنجلترا فيها ساحة حروب وحشية بين السكسون والبريتون.
هناك أيضاً كتابان مهمّان صدرا هذا العام، وهما الأعمال النثرية الكاملة لبوشكين، المشهور بكونه شاعر روسيا الكبير، نجح المترجم فؤاد المرعي في جمع شتاتها، بما فيها تلك التي مات بوشكين قبل إكمالها، وفي ترجمتها إلى عربية جميلة وطيِّعة، ولكنها تحتفظ بنكهة كلاسيكية تقابل كلاسيكية لغتها الأصلية وبيئة نصوصها وروح موضوعاتها.
في الشق الثاني من قراءاتي، الذي أخصصه لأدب الأطفال واليافعين، قرأت الكثير من الكتب بلغات مختلفة، أختار الحديث عن بعضها.
«The Restless Girls» لجسي بورتون ورسوم أنجيلا باريت، هو إعادة سرد القصة الشعبية الشهيرة بعنوان 12 أميرة، من وجهة نظر مختلفة، وفي رؤية معاصرة، تضع المرأة في دور البطولة، من دون انتظار الشاب المنقذ الذي سيتزوّج أجمل الأميرات في نهاية القصّة. الأميرات الاثنتا عشرة في القصة هنّ أفريقيات، لكلّ منهنّ موهبة مختلفة، بينها القراءة والعزف وقيادة السيّارة، وتجمعهنّ جميعاً هواية واحدة هي الرقص، وهو فعل التمرّد والتحدّي الذي يواجهن به صرامة والدهنّ وديكتاتورييّه. كسبت دار «بلومزبيري» حين راهنت على بورتون التي لم تُخفِ خوفها من التجربة. وهي تعترف أنه من الصعب إعادة حكاية مثل تلك الحكايات الشعبية، وإسقاطها على قضايا وأفكار إشكالية مثل حرية المرأة ونضالها ضدّ الديكتاتورية الذكورية.
وأتممت هذا العام قراءة الموسوعة المصوّرة الأكبر عن أدب الأطفال الغربي، عنوانها: «أدب الأطفال، تاريخ مصوّر»، التي حرَّرها المؤرخ والباحث بيتر هانت.

- محمد الحجيري: العودة إلى الصراعات الدينية
أعجبني كتاب «مدفعية السماء»، لمؤلفه أسامة المقدسي، وهو من ترجمة ريما العيسى، وصادر عن «دار الآداب». ويروي قصة لقاء مؤسس بين أميركيين وعرب، بحيث تقتفي القصة أثر وصول الإرساليات الأميركية البروتستانتية الأولى إلى المقاطعات العربية من الدول العثمانية، وما تلاها من اضطهاد وقتل لأحد المتحولين على يديها. إن ما يستدعي رواية هذا التاريخ هو كونها تضيء بدايات علاقة معقدة ومتطورة بين أميركا والعالم العربي، تعود إلى زمنٍ «أبعدَ مما يظنّ أكثرُنا أو يتوهم»، وقبل «الحرب الباردة» بين المعسكر الاشتراكي السوفياتي والمعسكر الرأسمالي، وقبل شعارات «الموت لأميركا» الخمينية.
والمتحول الذي يتحدَّث عنه أسامة مقدسي هو أسعد الشدياق (شقيق اللغوي والرحالة أحمد فارس الشدياق)، أولُ عربي (لبناني) تحوَل إلى البروتستانتيَة الأميركيَة، قبل أن يذهب إلى موته الفاجع. وفي استقراء سيرته يمكن استقراء تحوّل الطوائف في لبنان وبروزها الحديث، بل يمكن استقراء أنماط انتشار البروتستانتية في المشرق، سواء في منطقة رأس بيروت أو جبل لبنان.
النافل أن الشدياق ألّف رسالة ضدّ عبادة الأيقونات، داعياً إلى التفسير المباشر للكتاب المقدّس من قبل المؤمنين أنفسهم. وفي عام 1820، شنَ البطريرك الماروني يوسف حبيش حملته على «الهرطقة البروتستانتية»، بناء على أمر من روما، وحرم أي تعاطٍ مع البروتستانت. بناء على ذلك، اعتُقل الشدياق، وأُودع السجن في المقرّ البطريركي في قنوبين، حيث توفي بسبب المعاملة الهمجية عام 1830. وعلى أثر اعتقاله، غادر معظم المرسلين البروتستانتيين المنطقة، ولم يعودوا إلا في ظلّ الحكم المصري على سوريا، حيث فتحوا مدرسة للصبيان في بيروت 1835، تلتها مدرسة للبنات.
الكتاب الثاني هو «هندية الصوفية الآثمة 1720-1798، أزمة دينية»، مؤلفه برنار هيبرجي، وترجمه جان هاشم، وصادر عن «دار النهار». يفتح هذا الكتاب «قضية» هنديّة عجيمي (1720-1798)، الصوفيّة الآثمة، التي كبَتَتْها الذاكرة الجماعية منذ قرنين من الزمن، ولا يمكن فصل المسار الذي ذهبت فيه الأحداث في قضية الراهبة هندية عن الصراع بين الكنيستين الغربية والشرقية، وعن التداخل بين السلطات الدينية والسياسية والتبعيات المحلية في لبنان.


مقالات ذات صلة

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».