مؤتمر بالإسكندرية يبحث عن رسالة جديدة للمتاحف في العالم

شارك فيه ممثلون من دول أوروبية وأميركية وغابت عنه اللغة العربية

نوقش في المؤتمر خطة وزارة الثقافة المصرية لترميم وتطوير عدد من المتاحف ومنها متحف الفن الإسلامي بالقاهرة
نوقش في المؤتمر خطة وزارة الثقافة المصرية لترميم وتطوير عدد من المتاحف ومنها متحف الفن الإسلامي بالقاهرة
TT

مؤتمر بالإسكندرية يبحث عن رسالة جديدة للمتاحف في العالم

نوقش في المؤتمر خطة وزارة الثقافة المصرية لترميم وتطوير عدد من المتاحف ومنها متحف الفن الإسلامي بالقاهرة
نوقش في المؤتمر خطة وزارة الثقافة المصرية لترميم وتطوير عدد من المتاحف ومنها متحف الفن الإسلامي بالقاهرة

البحث عن رسالة جديدة للمتاحف في عالمنا المتغير ودمجها في العملية التعليمية والتربوية والتثقيفية في المجتمع وربطها بالجامعات ومراكز البحوث، كان محور النقاش على طاولة المؤتمر الدولي الذي استضافته مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع منظمة المتاحف العالمية ووزارة الآثار المصرية من 10 إلى 14 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، وسبقته ورشة بجامعة الإسكندرية، قدم من خلالها مجموعة من الطلاب رؤيتهم للمتاحف كوعاء حضاري، وكيفية ترجمة المحتوى المتحفي العلمي بشكل مبسط إلى لغة يفهمها الجمهور سواء الإنجليزية أو الفرنسية.
أقيم المؤتمر تحت شعار «العمل المشترك من أجل التواصل الفعال» بالتزامن مع احتفالات مكتبة الإسكندرية بعيدها السنوي؛ بمشاركة هيئات متخصصة، ونخبة من ممثلي المتاحف من دول (إيطاليا، وإسبانيا، وبلجيكا، والبرازيل، وفرنسا، واليابان، والمكسيك).
وطرح المشاركون في أبحاثهم ودراساتهم طرقا جديدة لتشجيع الحوار وتحقيق أفضل سبل التعاون بين المتاحف والدول المشاركة في المؤتمر، وإبراز دورها المتنوع في إثراء وتنمية الهوية الخاصة للمجتمع كما استعرضوا ما تشهده متاحف العالم من تطور تكنولوجي وأساليب التربية المتحفية وتأثيرها على زائري المتاحف وارتباط هذه الأنشطة بالمتاحف، ودور أمناء المتاحف مع الباحثين والدارسين.
ورغم أهمية المؤتمر، خاصة بالنسبة لمصر التي عانت في السنوات الأخيرة، من تدهور في الخريطة السياحية وتعرض عدد من متاحفها ومعالمها الأثرية المهمة، خاصة في الأقاليم لعمليات نهب وسطو وحرق، مثل متحف ملوي، فإنه غاب عن حفل افتتاح المؤتمر، مدير مكتبة الإسكندرية، ومحافظها، كما غاب عنه وزيرا الآثار والسياحة، ووسائل الإعلام والصحافة، الأمر الذي ضيق من فرص التعريف بالمؤتمر إعلاميا واستثماره في إعادة الجذب للخريطة السياحية المصرية، وانحصر جمهور المؤتمر في المشاركين بأنشطته، إضافة لقلة من المتابعين، وهو ما جعل المؤتمر مرآة لنفسه في الغالب الأعم، وانكمش صداه في الخارج، في مجرد حزمة من الأخبار الرسمية تناقلتها المواقع الإخبارية عن افتتاح المؤتمر وبرنامجه.
زاد من هذا الانكماش غياب اللغة العربية عن مؤتمر يقام تحت سقف مكتبة الإسكندرية وفي مصر ذات الثقل الحضاري والأثري، فجرت قراءة الأبحاث والمناقشات بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية، واقتصرت الترجمة إلى الإنجليزية فقط، وافتقد المؤتمر إلى مجرد ملخص للأبحاث باللغة العربية، وهي مليئة بالكثير من المصطلحات الخاصة بالآثار والمتاحف، حتى إن المسؤولين المصريين المشاركين تحدثوا باللغة الإنجليزية، في الوقت الذي أصر فيه الممثلون من دول أميركا اللاتينية على الحديث بلغتهم الإسبانية.
إضافة إلى كل هذا، ثمة سؤال ظل يطاردني وأنا أتابع فعاليات هذا المؤتمر المهم وهو: ألم يكن من الأجدى أن يكون في صدارة أعماله زيارات ميدانية أيضا، لأهم المتاحف في مصر، والوقوف على أحوالها، وأن يصدر عن المؤتمر في ختام أعماله رسالة موجهة إلى العالم، تحفزهم إلى زيارة هذه المتاحف ودعمها.
الدكتورة منى سري مسؤولة متحف الآثار بالمكتبة التي تحدثت في الافتتاح نائبة عن الدكتور إسماعيل سراج الدين مدير المكتبة، ترى أن المؤتمر جاء في وقت مهم جدا، وسوف ينقل صورة عن الأوضاع الآمنة والمستقرة للمتاحف في مصر، وذلك من خلال زيارة أعضائه للمواقع الأثرية في الإسكندرية والأهرامات بالجيزة.
وحين تحفظت على كلامها، عادا أن هذه الزيارة عبارة عن جولة ترفيهية، قالت: هناك أكثر من 80 دولة مشاركة في منظمة المتاحف العالمية (icom)، وهم سينقلون رسالة طيبة عن كل ما شاهدوه في مصر، وسوف تصل إلى هذه الدول تباعا، كما سيصدر الـ(icom) في إيطاليا وفرنسا رسالة توصيات مهمة في هذا الشأن سيجري تداولها على مواقع الإنترنت.
وقالت سري لـ«الشرق الأوسط» إن هذه هي المرة الثانية التي تختار فيها منظمة المتاحف العالمية مكتبة الإسكندرية لعقد مؤتمرها السنوي، بعد مؤتمر 2005. وهو ما يؤكد إدراك المنظمة للثقل الحضاري والأثري الذي تمثله مصر على مستوى العالم.
وعدت سري غياب اللغة العربية عن المؤتمر من أخطاء التنظيم الذي تشارك فيه جهات كثيرة، لافتة إلى أن بحوث ودراسات المؤتمر أتت في وقت ضيق، مما حال دون ذلك.
وفي كلمتها بحفل الافتتاح استعرضت إيما ناردي، رئيسة لجنة التعليم المتحفي والعمل الثقافي الدولية، جهود اللجنة في إصدار النشرات الدورية الهادفة إلى طرح كل جديد يطرأ على العمل المتحفي بلغات مختلفة يجري إتاحتها للباحثين في شكل إلكتروني ومطبوع، وتحديثها بلغات أكثر انتشارا من خلال الشركات. وثمنت ناردي المكانة الهامة والحيوية لإطلاق المؤتمر العالمي في دورته الحالية بالإسكندرية أحد أهم المراكز الحضارية والثقافية تاريخيا في إنشاء المتاحف على مستوى العالم، ومن خلال مكتبة الإسكندرية.
وفى الكلمة التي ألقتها نيابة عنه الدكتورة منى حجاج - أستاذ الآثار اليونانية بجامعة الإسكندرية، استعرض وزير الآثار المصري الدكتور ممدوح الدماطي رؤية الوزارة بالتعاون مع وزارات التعليم والسياحة في مجال حفظ وحماية الآثار؛ ومنها تطوير 4 متاحف رئيسة وهي (المتحف المصري، والمتحف الإسلامي، والمتحف القومي للثقافة، والمتحف اليوناني بالإسكندرية).
وأوضح أن دولة الإمارات بدأت في ترميم الآثار المتضررة بالمتحف الإسلامي بعد تعرضه إلى حادث تفجير وقع بمحيطه؛ وإنقاذ 197 قطعة أثرية تعرضت إلى الضرر بشكل بالغ. وأضاف أن المتحف المصري حاليا يستقبل بشكل يومي ما بين 5 إلى 7 آلاف زائر يوميا، بالإضافة إلى البدء في تنفيذ مشروع امتداد للمتحف المصري بالقرب من أهرامات الجيزة الثلاثة سيجري إنشاؤه بالتنسيق مع هيئة اليونيسكو؛ وتم اختيار تصميم المتحف بمسابقة دولية.
وتطرقت كلمة الدماطي إلى نجاح خطة إخلاء المتحف اليوناني بعد تعرض ديوان محافظة الإسكندرية إلى الحريق بما أدى إلى الحفاظ على كافة القطع الأثرية، والعمل على أرشفتها بشكل إلكتروني لحفظها وتسجيلها.
واستعرضت حلقة نقاشية مجمعة تعد من أبرز أنشطة المؤتمر الكثير من المشاكل التي تواجهها متاحف الفنون والآثار في العالم. وأشار الباحثون إلى أنماط جديدة من الفنون تبحث في أعماق المجتمع من خلال الكثير من التجليات المتنوعة. وتطرح خيارات الفنون المعروضة والقصص المروية وتساؤلاتها السياسية. وهل يدرك الجمهور فحواها؟ كيف يتسنى للممارسات التأملية أن تكسر حواجز التفاعل وتخضع للمقاربات التربوية؟ وذلك من خلال الوساطة المتحفية مع تلك القضية.
وعدت سوزان كامل من مصر أن علوم المتاحف الحديثة تتسم بصبغة ديمقراطية ومساع شمولية، وأنه مع حالة «النقد التصويري» تطرح العلوم المتحفية مسائل مهمة، من بينها، كيفية توحيد الأصوات المهمشة من خلال مبدأ المجموعات المتحفية، وسهولة الوصول الاجتماعية والمادية للمتاحف والمعارض بالنسبة للمثقفين وتنويع الجماهير، وهو ما ينعكس، على القوة العاملة في المتحف وتغيير الهيكل التراتبي في الفرق المشرف عليه.
وتحدث كيكو كيورويا من اليابان عن «المنهج التكاتفي من أجل خلق بيئة تعليمية تواصلية»، مؤكدا أن المتاحف ستبقى من المواطئ التعليمية بالنسبة لمختلف شرائح الجماهير الزائرة في القرن الحادي والعشرين، مشيرا إلى أنها تسعى جاهدة إلى إيصال رسالتها من خلال المعارض ومختلف البرامج. ومع ذلك، تناضل المتاحف في مواجهة الكثير من القيود وتكافح الكثير من التحديات من حيث التواصل الفعال. وضرب الباحث مثلا بمساحات العرض، فهي غالبا ما تكون محدودة جدا، لذلك يتفادى الجمهور لوحات الشرح المسهبة. وبالإضافة إلى ذلك، وكما يقول فإن «جمهور المتاحف ذوي الخلفيات الثقافية المتباينة والفئات العمرية المختلفة لديهم احتياجات ثقافية متنوعة ومستويات متفاوتة من الإدراك، لذا، من الصعوبة بمكان الوفاء بكافة احتياجاتهم وحصرهم في موضع واحد».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)