لبنانيون يوقفون دفع الديون للمصارف

بسبب الضائقة المعيشية واعتراضاً على «حجز أموالهم» في البنوك

TT

لبنانيون يوقفون دفع الديون للمصارف

يمتنع موسى منذ شهرين عن سداد أقساط قرضه لأحد المصارف اللبنانية، مبرراً هذا الأمر بأنه رد فعل على إجراءات المصارف التي منعت الناس من سحب أموالها بالدولار ووضعت سقوفاً على السحوبات الأسبوعية حتى بالليرة اللبنانية منها، وصلت في أحد المصارف إلى 200 دولار فقط في الأسبوع.
ويقول موسى لـ«الشرق الأوسط» إن «الدفعات المستحقة لتسديد القرض، بالدولار، وفي حال أردت دفعها، فإنني سأضطر للجوء إلى الصرافين الذين سيبيعونني الدولار بسعر مرتفع (2000 ليرة مقابل الدولار الواحد كأقل تقدير)، وبالتالي سأتكبد خسائر إضافية أنا بغنى عنها راهناً، في ظل الأزمات المالية التي عصفت بنا».
وكما موسى، فعل حسين الذي يؤكد أن هناك أشخاصاً كثيرين من عائلته وأصدقائه يمتنعون عن سداد قروضهم منذ بدأت قيود المصارف. ويقول: «لدي قرض شخصي كان يفترض أن أنتهي من سداده بعد عام، لكنني توقفت عن الدفع منذ أن بدأت قيود المصارف. فمن غير المنطقي أن المصارف التي جعلتنا في الأيام الماضية نشحذ أموالنا وتمتنع عن تسليمنا وديعتنا، هي نفسها تطالبنا بسداد دفعات مستحقة لها».
ويضيف حسين: «سنعاود دفع الأموال المستحقة علينا، بمجرد إفراج المصارف عن أموال الناس، وعندما تعيد المصارف جدولة الدفعات المكسورة علينا شرط إعفاء المقترضين من غرامات التأخير».
هذا الأمر دفع بكثيرين من اللبنانيين إلى التخوف من تبعات هذا التمنع، إذ إن جزءاً كبيراً منهم لا يزال يدفع للمصارف مستحقاتها الشهرية. لكن هذا الخيار في الدفع أو عدمه لم يعد متوافراً لدى آلاف اللبنانيين الذين فقدوا أعمالهم ووظائفهم ولم يعد بمقدورهم تلبية حاجات عائلاتهم الأساسية، وبالتالي لم يعد بمقدورهم سداد قروضهم، مثلما حصل مع فئة كبيرة من الأفراد الذين يتقاضون نصف راتب، وهو مبلغ لم يعد يكفي تكاليف حياتهم في ظل غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار الجنوني.
ويقول مازن لـ«الشرق الأوسط»: «منذ توقفت عن العمل لم يعد بمقدوري سداد القرض للمصرف. أبحث راهناً عن فرصة عمل جديدة، وفي حال وجدت سأعاود دفع أموال المصرف». وأضاف: «لا أعتقد أنهم سيلحقون بي ضرراً، طالما أن هناك كثيرين مثلي».
من هنا ينطلق تحالف من مجموعات مختلفة، بينها «تحالف وطني» و«المرصد الشعبي»، في تحرك سيجري أمام جمعية المصارف في وسط بيروت يوم الخميس المقبل، لإطلاق حملة عصيان مدني على دفع القروض المصرفية، رداً على قيود المصارف وبهدف التضامن مع أشخاص غير قادرين على سداد قروضهم، وحمايتهم بوجه أي إجراءات تعسفية، في حال أصبح عدم سداد القروض حالة عامة، إلى أن تعود الأمور إلى طبيعتها وتجري المصارف تسوية عامة وتعيد جدولة القروض من دون أي فوائد أو غرامات إضافية، وفق ما يقوله المحامي علي عباس لـ«الشرق الأوسط».
من جهة أخرى، ينفي عباس وجود أي تبعات قانونية على المقترضين لهذا الامتناع. وينطلق في تعليله هذا الأمر من أن الامتناع أتى كردة فعل على إجراءات غير قانونية تقوم بها المصارف، من دون أن تستند إلى أي نص قانوني صريح، لا سيما أن قانون النقد والتسليف لم يأتِ على ذكر أي نص بهذا الصدد، ما يوجب تشريع ذلك عبر قانون يصدر من مجلس النواب يجيز تقييد حسابات الزبائن، وهذا الأمر لم يحصل.
ويضيف عباس أن «الأكثر من ذلك، أن المصارف استندت إلى تعاميم جمعية المصارف، وهي جمعية خاصة لا ترعى علاقة المواطن مع المصارف وإنما علاقة المصارف فيما بينها وعلاقتها مع الدولة. وفي الواقع أن هذه الصلاحية تعود إلى لجنة الرقابة على المصارف في مصرف لبنان. وبالتالي في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، ووسط إجراءات المصارف غير القانونية ليس بمقدور المصارف تنفيذ القرض واعتبار كل السندات مستحقة».
ويميز الخبير الاقتصادي الدكتور جاسم عجاقة بين فئتين من الناس، فئة الناس غير القادرة على سداد قروضها، ومصرف لبنان تمنى على جمعية المصارف إعادة جدولة ديونهم مع الأخذ في الاعتبار الظروف التي يمرون بها. وهناك الفئة الثانية التي يزداد عددها تدريجياً كعصيان مدني، ما يعني أن الناس ترفض دفع القروض حتى لو لديها القدرة على ذلك.
ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن «لمثل هذه الممارسات، أي حصراً ممارسات الفئة الثانية، تبعات اقتصادية سيئة جداً على لبنان. فعلى صعيد المصارف، ستتراجع حتماً إيرادات المصارف وبالتالي تتراجع أصولها. وفي حال تفشي هذا النوع من العصيان المدني الذي يشبه كرة الثلج، وطال مجالات أخرى فإنه سيعم الخراب في البلد».
وأضاف أن «المشكلة الأساسية تكمن في أن الناس الممتنعة عن دفع قروضها، تعمل على تخزينها في منازلها، وهذه الأموال أصبحت خارج الدائرة الاقتصادية نتيجة هذه الممارسات، وبالتالي حتماً سيكون لهذا الأمر مفعول سلبي على الاقتصاد ككل. وفي حال كبر حجم هذه الفئة فإننا ذاهبون إلى أزمة كبيرة جداً، لكن باعتقادي أن هذه الظاهرة لا تزال ضئيلة حتى الآن».
يُذكر أن ناشطين أطلقوا أخيراً على مواقع التواصل الاجتماعي وسم (هاشتاغ) «مش دافعين» لدعوة اللبنانيين إلى عدم دفع الضرائب والفواتير، كشكل من أشكال التصعيد للضغط على السلطات لتحقيق مطالب المتظاهرين الذين خرجوا منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إلى الشوارع بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.



الاقتصاد اليمني في مواجهة انهيارات كارثية وشيكة

طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
TT

الاقتصاد اليمني في مواجهة انهيارات كارثية وشيكة

طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)

يتضاعف خطر انعدام الأمن الغذائي في اليمن بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية، وانهيار سعر العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، بفعل الحرب الحوثية على الموارد الرئيسية للبلاد، وتوسيع دائرة الصراع إلى خارج الحدود، في حين تتزايد الدعوات إلى اللجوء للتنمية المستدامة، والبحث عن حلول من الداخل.

وبينما تتوالي التحذيرات من تعاظم احتياجات السكان إلى المساعدات الإنسانية خلال الأشهر المقبلة، تواجه الحكومة اليمنية تحديات صعبة في إدارة الأمن الغذائي، وتوفير الخدمات للسكان في مناطق سيطرتها، خصوصاً بعد تراجع المساعدات الإغاثية الدولية والأممية خلال الأشهر الماضية، ما زاد من التعقيدات التي تعاني منها بفعل توقف عدد من الموارد التي كانت تعتمد عليها في سد الكثير من الفجوات الغذائية والخدمية.

ورجحت شبكة الإنذار المبكر بالمجاعة حدوث ارتفاع في عدد المحتاجين إلى المساعدات الإنسانية في اليمن في ظل استمرار التدهور الاقتصادي في البلاد، حيث لا تزال العائلات تعاني من التأثيرات طويلة الأجل للصراع المطول، بما في ذلك الظروف الاقتصادية الكلية السيئة للغاية، بينما تستمر بيئة الأعمال في التآكل بسبب نقص العملة في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية، وانخفاض قيمة العملة والتضخم في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.

وبحسب توقعات الأمن الغذائي خلال الستة أشهر المقبلة، فإنه وبفعل الظروف الاقتصادية السيئة، وانخفاض فرص كسب الدخل المحدودة، ستواجه ملايين العائلات، فجوات مستمرة في استهلاك الغذاء وحالة انعدام الأمن الغذائي الحاد واسعة النطاق على مستوى الأزمة (المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي) أو حالة الطوارئ (المرحلة الرابعة) في مناطق نفوذ الحكومة الشرعية.

انهيار العملة المحلية أسهم مع تراجع المساعدات الإغاثية في تراجع الأمن الغذائي باليمن (البنك الدولي)

يشدد الأكاديمي محمد قحطان، أستاذ الاقتصاد في جامعة تعز، على ضرورة وجود إرادة سياسية حازمة لمواجهة أسباب الانهيار الاقتصادي وتهاوي العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، منوهاً إلى أن عائدات صادرات النفط والغاز كانت تغطي 70 في المائة من الإنفاق العام في الموازنة العامة، وهو ما يؤكد أهميتها في تشغيل مؤسسات الدولة.

ويضيف قحطان في حديث خص به «الشرق الأوسط» أن وقف هذه الصادرات يضع الحكومة في حالة عجز عن الوفاء بالتزاماتها، بالتضافر مع أسباب أخرى منها الفساد والتسيب الوظيفي في أهم المؤسسات الحكومية، وعدم وصول إيرادات مؤسسات الدولة إلى البنك المركزي، والمضاربة بالعملات الأجنبية وتسريبها إلى الخارج، واستيراد مشتقات الوقود بدلاً من تكرير النفط داخلياً.

أدوات الإصلاح

طبقاً لخبراء اقتصاديين، تنذر الإخفاقات في إدارة الموارد السيادية ورفد خزينة الدولة بها، والفشل في إدارة أسعار صرف العملات الأجنبية، بآثار كارثية على سعر العملة المحلية، والتوجه إلى تمويل النفقات الحكومية من مصادر تضخمية مثل الإصدار النقدي.

توقف تصدير النفط يتسبب في عجز الحكومة اليمنية عن تلبية احتياجات السكان (البنك الدولي)

ويلفت الأكاديمي قحطان إلى أن استيراد مشتقات الوقود من الخارج لتغطية حاجة السوق اليمنية من دون مادة الأسفلت يكلف الدولة أكثر من 3.5 مليار دولار في السنة، بينما في حالة تكرير النفط المنتج محلياً سيتم توفير هذا المبلغ لدعم ميزان المدفوعات، وتوفير احتياجات البلاد من الأسفلت لتعبيد الطرقات عوض استيرادها، وأيضاً تحصيل إيرادات مقابل بيع الوقود داخلياً.

وسيتبع ذلك إمكانية إدارة البنك المركزي لتلك المبالغ لدعم العرض النقدي من العملات الأجنبية، ومواجهة الطلب بأريحية تامة دون ضغوط للطلب عليها، ولن يكون بحاجة إلى بيع دولارات لتغطية الرواتب، كما يحدث حالياً، وسيتمكن من سحب فائض السيولة النقدية، ما سيعيد للاقتصاد توازنه، وتتعافى العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، وهو ما سيسهم في استعادة جزء من القدرة الشرائية المفقودة للسكان.

ودعا الحكومة إلى خفض نفقاتها الداخلية والخارجية ومواجهة الفساد في الأوعية الإيرادية لإحداث تحول سريع من حالة الركود التضخمي إلى حالة الانتعاش الاقتصادي، ومواجهة البيئة الطاردة للاستثمارات ورجال الأعمال اليمنيين، مع الأهمية القصوى لعودة كل منتسبي الدولة للاستقرار داخل البلاد، وأداء مهاهم من مواقعهم.

الحكومة اليمنية تطالب المجتمع الدولي بالضغط على الحوثيين لوقف حصار تصدير النفط (سبأ)

ويؤكد مصدر حكومي يمني لـ«الشرق الأوسط» أن الحكومة باتت تدرك الأخطاء التي تراكمت خلال السنوات الماضية، مثل تسرب الكثير من أموال المساعدات الدولية والودائع السعودية في البنك المركزي إلى قنوات لإنتاج حلول مؤقتة، بدلاً من استثمارها في مشاريع للتنمية المستدامة، إلا أن معالجة تلك الأخطاء لم تعد سهلة حالياً.

الحل بالتنمية المستدامة

وفقاً للمصدر الذي فضل التحفظ على بياناته، لعدم امتلاكه صلاحية الحديث لوسائل الإعلام، فإن النقاشات الحكومية الحالية تبحث في كيفية الحصول على مساعدات خارجية جديدة لتحقيق تنمية مستدامة، بالشراكة وتحت إشراف الجهات الممولة، لضمان نجاح تلك المشروعات.

إلا أنه اعترف بصعوبة حدوث ذلك، وهو ما يدفع الحكومة إلى المطالبة بإلحاح للضغط من أجل تمكينها من الموارد الرئيسية، ومنها تصدير النفط.

واعترف المصدر أيضاً بصعوبة موافقة المجتمع الدولي على الضغط على الجماعة الحوثية لوقف حصارها المفروض على تصدير النفط، نظراً لتعنتها وشروطها صعبة التنفيذ من جهة، وإمكانية تصعيدها العسكري لفرض تلك الشروط في وقت يتوقع فيه حدوث تقدم في مشاورات السلام، من جهة ثانية.

تحذيرات من مآلات قاتمة لتداعيات الصراع الذي افتعلته الجماعة الحوثية في المياه المحيطة باليمن على الاقتصاد (أ.ف.ب)

وقدمت الحكومة اليمنية، أواخر الشهر الماضي، رؤية شاملة إلى البنك الدولي لإعادة هيكلة المشروعات القائمة لتتوافق مع الاحتياجات الراهنة، مطالبةً في الوقت ذاته بزيادة المخصصات المالية المخصصة للبلاد في الدورة الجديدة.

وكان البنك الدولي توقع في تقرير له هذا الشهر، انكماش إجمالي الناتج المحلي بنسبة واحد في المائة هذا العام، بعد انخفاضه بنسبة 2 في المائة العام الماضي، بما يؤدي إلى المزيد من التدهور في نصيب الفرد من إجمالي الناتج الحقيقي.

ويعاني أكثر من 60 في المائة من السكان من ضعف قدرتهم على الحصول على الغذاء الكافي، وفقاً للبنك الدولي، بسبب استمرار الحصار الذي فرضته الجماعة الحوثية على صادرات النفط، ما أدى إلى انخفاض الإيرادات المالية للحكومة بنسبة 42 في المائة خلال النصف الأول من العام الحالي، وترتب على ذلك عجزها عن تقديم الخدمات الأساسية للسكان.

وأبدى البنك قلقه من مآلات قاتمة لتداعيات الصراع الذي افتعلته الجماعة الحوثية في المياه المحيطة باليمن على الاقتصاد، وتفاقم الأزمات الاجتماعية والإنسانية.