العنف نظام ساكن ومعقد لا يمكن تبسيطه

حنة أرندت.. أرادت الخروج من التصورات اللغوية إلى السياق التاريخي

تأليف: حنة أرندت - ترجمة: إبراهيم العريس - الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر - عدد الصفحات: 112 صفحة
تأليف: حنة أرندت - ترجمة: إبراهيم العريس - الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر - عدد الصفحات: 112 صفحة
TT

العنف نظام ساكن ومعقد لا يمكن تبسيطه

تأليف: حنة أرندت - ترجمة: إبراهيم العريس - الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر - عدد الصفحات: 112 صفحة
تأليف: حنة أرندت - ترجمة: إبراهيم العريس - الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر - عدد الصفحات: 112 صفحة

حنة أرندت (1906 - 1975) حجر استثنائي في بركة الفلاسفة المعاصرين الراكدة، فهي بإزاء كونها من الأسماء الكبيرة في النظرية السياسية، إلا أن اضطلاعها بالتفلسف العملي عبر مفاهيم ضاجّة وموارة كالعنف والثورة والتطرف والشمولية جعلها واحدة من أهم الأسماء التي تجمع نضالها العملي باطلاعها الفكري ومعرفتها الواسعة حتى وصفها أحد النقاد المؤرخين لها بقوله «حياة هذه الناقدة اللاذعة تجسد أيضا جملة الحياة الفكرية والسياسية في عدة قرون أوروبية»، كما أنها عملت كأستاذة للنظرية السياسية في جامعات عريقة مثل كولومبيا وكاليفورنيا وبيرنستون وتعود جذورها إلى عائلة علمانية من يهود ألمانيا قطنت مدينة ليندن، وكان وصول النازيين بما دشنوه من عهد شمولي راديكالي محطة مركزية في حياة «حنة» دفعتها للانتقال من النظرية إلى الممارسة عبر الدخول في أتون العمل السياسي الذي توجته باعتقالها 1933 على يد المخابرات النازية، وفي نشأتها كان ارتباطها الفكري والعاطفي بالفيلسوف الألماني مارتن هيدغر مؤثرا في شخصيتها ولاحقا تتلمذت على الفيلسوف كارل ياسبرز في جامعة هايدلبرج وقدمت فيها أطروحتها للدكتوراه عام 1928. ربما كان كتابها عن «التوتاليتارية» أشهر ما ألفته إضافة إلى أطروحتها الرائدة «في الثورة» التي تعد بحق واحدة من أهم الكتب التي أسست لمفهوم الثورة وماهيتها وأفكارها وتطبيقاتها من خلال قراءة مختلفة للثورة الفرنسية، إلا أن ذلك لا يلغي كتابها الصغير حجما «في العنف» الكبير في الأسئلة التي يطرحها حول الظاهرة وعلاقتها بالراهن السياسي.
وعلى الرغم من أن الكتاب صدر بالعربية في مطلع التسعينات مع ترجمة أنيقة باذخة بقلم إبراهيم العريس فإن استدعاءه في هذه المرحلة التي يتصاعد فيها العنف مهم جدا لأسباب كثيرة يلخصها أنه واحد من أكثر الكتب التي غاصت في مفهوم العنف وممارسته على مستوى النظرية الفلسفية وليس التحليل السياسي أو الرصد البحثي، وهو ما نحتاجه لفهم هذه الظاهرة المركّبة التي عادة ما يجري الوقوف فيها على الشواطئ والضفاف.
وإذا كانت ظاهرة «العنف» فهما وتحليلا وتفلسفا قديمة قدم التاريخ، فإن أطروحة حنة أرندت قاربت علاقة هذا العنف الكامن لدى البشرية بالسلطة والمجتمع، فبينما يتساءل الفلاسفة عن طبيعة العنف باعتباره لازمة للسلطة والمجتمع وظاهرة تاريخية طبيعية لكن انتقاله للشر المحض والتدمير يطرح ذات السؤال حول العنف غير السياسي، باعتبار أن جزءا من التحليل التاريخي للعنف ارتبط بفلسفات تاريخية مثالية بدءا من أفلاطون والفارابيوالقديس «طوما الأكويني» والقديس «أغسطين» إلا أننا يمكن إعادة تحقيب تاريخية العنف منذ لحظة أفلاطون وحواراته التي تدور حول العدالة والمساواة والسعادة والفضيلة والعلم ومن هنا يرى أفلاطون صراحة أن السياسة لا تقاس بالقوة ولا بالأسلحة، بل بالتمسك بالفضيلة، لأنّ غاية الدولة عنده هي إسعاد الإنسان لا الدفع به نحو الاقتتال، في حين رأى أرسطو أن السياسة كامنة في ذات الإنسان، وذلك في توفيقه بين الديمقراطية والأرستقراطية، فإنّ السعادة تنبثق من خلال هذا التوفيق بين هذين النظامين، وتنعدم في ظل سيادة نظام على آخر، حيث يسود العنف.
ويطرح الفارابي فكرته بوضوح أكبر وتطور لثنائية العنف والسياسية في المدينة الفاضلة مؤكدا على أنّ الغلبة والقهر من خاصية المدينة الضالة، في حين أنّ السياسة الحكيمة والقويمة هي التي تؤدي إلى إسعاد الإنسان، ولا يمكن إلا أن تسود المدينة الفاضلة وحدها، وهي المتميزة بالعدل والعقل.
مقاربة حنة أرندت تذهب بعيدا عن استخدام أداة الأخلاق في قراءة العلائق الوشيجة بين السياسة والعنف، حيث تذهب أولا إلى قراءة السياسة من زاوية التفاعل والتواصل الذي يطبع العلاقات بين الناس في إطار من الاختلاف والتمايز بينهم وتساويهم، رغم اختلافهم وتمايزهم، إذ إنّ هذا الاختلاف والتمايز في نظرها هو ما يضمن ألا تتحول السياسة إلى العنف، وهنا تنتقل بالمفهوم من مثاليته إلى واقعية مفرطة تحاول الخروج من أقواس الثنائيات المتعارضة التي طرحتها الفلسفة الكلاسيكية.
حنة أرندت تقفز على التراث الماركسي كله الذي أعاد مركزية العنف الثوري باعتباره ضرورة تاريخية، فالباحث في تاريخ الأفكار الفلسفية الكبرى لا يمكن أن يتجاهل تأثير الفلسفة الماركسية في إعادة تدوير مفهوم العنف باعتباره ضرورة تاريخية لتنظيم الثورة وتأطير العنف الجماهيري؛ فالعنف الثوري وسيلة للقضاء على العنف للوصول إلى مجتمع جديد تغيب فيه السياسة والعنف.
وهنا جزء شخصي في حياتها مهم جدا لا يمكن تجاهله ويعطي لأطروحاتها حول العنف والثورة معان جديدة، فالمتابع لسيرة حياة حنة أرندت يدرك علاقتها الوطيدة بالفيلسوف الألماني الأشهر هيدغر الذي في مفارقة تاريخية أيد النظام النازي لفترة قصيرة، ثم تراجع وصمت، ولكن من دون تسويغ أو تبرير لموقفه، إلا أن تعددية حنة أرندت جعلتها لا توجه له أي نقد حتى بعدما توقفت الحرب وسقط النظام النازي، بل أبعد من ذلك كتبت حنة أرندت وهي اليهودية في ذلك الزمان النازي إعادة قراءة للمحرقة من جديد كظاهرة عنفية غير مفارقة لرؤيتها للعنف وللتاريخ ومن زاوية سياسية محددة.
ترفض حنة أرندت كل التصورات المسبقة عن «العنف» وتراها اختزالية وناقصة بسبب وجود العوائق الإبستيمولوجية أمام فهم العنف وعقله. خاصة تلك المعرفة التي جعلت من العنف ظاهرة عادية، كما تنتقد مفهوم إنجلز للعنف باعتباره محرك الاقتصاد، وبالتالي فالعنف هنا لا يعبر عن الطبيعة العدوانية اللاواعية للإنسان، التي لا يمكن السيطرة عليها، بل عن المصالح الاقتصادية والشره نحو الرفاه والرغبة في الهيمنة على الموارد.
كما أن أرندت تتعالى على مدارس التحليل النفسي التي ترى في العنف غريزة لا سيما تجاه تيار إيريك فروم تلميذ فرويد وتؤكد أن «استمرار وجود الحرب بيننا اليوم، لا يعني وجود عشق للموت في قلب النوع البشري، أو لغريزة تدميرية لا يمكن قهرها».
العنف ببساطة لدى أرندت نظام اجتماعي ساكن ومضمر وقارّ، ويحتوي في جوهره على أشكال متصارعة من التنظيمات الاجتماعية، وبالتالي لم يظهر تاريخيا شكل أو نمط واحد للعنف، ومن هنا فإن كل الصراعات القديمة فقدت كل معانيها في الزمن المعاصر، فالعنف الجديد مختلف جذريا عن سوابقه، فالعنف المعاصر أكثر عقلانية من وجهة نظرها لأنه يسعى إلى قهر الخصم وإخضاعه وإضعافه، عن طريق الكثير من الوسائل، وأهمها السباق المحموم نحو التسلح الذي لا يعد إعدادا للحرب بقدر أنه وسيلة ناجعة للإخضاع والسلم طويل الأجل.
وفي ذات السياق تعود أرندت وتؤكد بعد حديثها عن العنف العقلاني بين الدول أنه غير قادر على خلق أسباب قيادة التاريخ وتوجيهه، أو التشجيع على الثورة والدفاع عن التقدم، غير أنه يستطيع تحويل الاضطرابات والاحتجاجات إلى مسرح واقعي وبشكل جذري قد يغير توجهات الجماهير، وهنا مكمن سر تأثير العنف.
تنتقد أرندت عنف المجموعات الصغيرة خاصة الحركات الطلابية، حيث تراه مفهوما لم يبن على نظرية متماسكة بل يعيش جهلا مركبا من حيث فهم نظرية الصراع في شكلها الماركسي، وتذهب ساخرة إلى أن كثيرا من قادة العنف الطلابي والجماهيري لم يقرأوا مارسك أو إنجلز، كما أنها ترى في ادعاءات سارتر وسورل حول العنف مجرد تخرصات لا مسؤولة وتنتقد بشدة مقولة سورل عن تأثير وسحر الإضراب العام.
تسعى حنة جاهدة إلى التفريق بين العنف ومفاهيم مقاربة له في ذات الحقل الدلالي كمفهوم السلطة والقوة والنفوذ والقدرة، وترى أن أزمة المفكرين في الخلط بين هذه المفاهيم واستعمالاتها، لذلك ترفض مجرد إعمال التصورات اللغوية، وترك الأهم وهو التصور التاريخي للعنف.
لكنها تميّز بين عنف السلطة وعنف الأفراد باعتبار أن السلطة هي الحكم، إلا أن التحولات التي أصابت مفهوم الدولة الآن هي جزء من وجهة نظر حنة أرندت من اختراق الأفكار الماركسية للمفاهيم العامة، وبسببه ظهر مفهوم الدولة التسلطية التي تعلب دور إخضاع مواطنيها، وبالتالي لم يصبح المجال العام مجالا لممارسة الحرية بقدر تحوله إلى إنتاج أو على الأقل إدارة العنف بين مكونات المجتمع.
بالنسبة للإرهاب المبني على رافعة دينية فتؤكد حنة أرندت أنه وإن كان معظمه توتاليتاريًّا من حيث طبيعته، فهو ظاهرة خاصة بنوع المجتمعات التي تسعى وراء الحداثة واكتساب طرائق العَلمانية، أي المجتمعات التي تبحث عن التغيير، سواء المادي أو المعنوي.
وبالتالي هو مفارق للإرهاب السياسي الذي لا يعدو أن يكون سوى سلوكا رمزيا قائما على استخدام منظَّم للعنف بسبب ارتفاع منسوب الخوف والقلق. فاستخدام هذا النوع من العنف هو أحد مكوِّنات الفعل الإرهابي الذي يدخل في نزاع مع دولة القانون حول إمكانات الأمَّة وتاريخها. فهو صراع من أجل امتلاك الحقيقة. فالإرهاب ينطلق من رفض المجتمع، دون أن يكون هناك هدف واضح من هذا الرفض أو غاية محددة؛ فهو يحتوي بداخله على الفوضى والعشوائية.
العنف سلوك خارج بنية الدولة هو مفهوم قائم على حل التناقضات بالقوة، لكن الإرهاب هو شكل لليأس يعبر عنه المنخرطون فيه على طريقة الاقتصاص والانتقام، هذا الانتقام الذي لا يستحضر أي معنى من معاني العنف وعلاقتها بتغيير الوضع القائم.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».