ثروة «داعش».. من النفط والضرائب والهبات

ضربات التحالف خفضت إنتاجه النفطي للنصف.. فقد كان يزيد على 30 ألف برميل في اليوم من دير الزور وحدها

ثروة «داعش».. من النفط والضرائب والهبات
TT

ثروة «داعش».. من النفط والضرائب والهبات

ثروة «داعش».. من النفط والضرائب والهبات

سعى الرئيس الأميركي بارك أوباما إلى تحالف دولي لمحاربة تنظيم داعش الذي توسع في العراق وسوريا مخلّفا مئات القتلى وتاركا وراءه مئات الآلاف من اللاجئين. فرض تنظيم داعش نفسه كأغنى جماعة إرهابية في العالم، لذلك ومن أجل تدميره، لا بدّ من ضرب مصادر ثروته.
إلى جانب البروباغندا العنيفة، والآيديولوجية البغيضة والاستبداد المستمر، بنى «داعش» سمعته على قدرته على استقطاب الأموال والاستفادة منها بذكاء. يشير هاوارد شاتز أحد المحللين في مؤسسة «راند» وهي مركز أبحاث أميركي في تقرير نشر مؤخرا إلى أنه «كما هو الحال مع أي دولة أخرى، على داعش أن يسدّد فواتير ويطعم الأفواه».
ثروة «داعش» تأتي من مصادر دخل مختلفة ومعظمها جُمع محليا داخل العراق وسوريا. ولا شك أن التنظيم أخذ الكثير من العبر من أخطاء مؤسسته الأم - «القاعدة». فقد أظهرت الوثائق أن التنظيم المتطرف لم يعتمد بشكل كبير على التبرعات متجنبا بذلك انقطاع موارده حال استهداف شبكات تمويله. بل فضل التوجه نحو تهريب النفط إلى بلدان أخرى في المنطقة ونحو الابتزاز وفرض الضرائب خاصة على الأقليات غير المسلمة، ومؤخرا بيع ممتلكات سكان الموصل.
يبقى إنتاج النفط أكبر مصدر للدخل يعتمد عليه تنظيم داعش وفقا لمختلف الخبراء. يقول جهاد يازجي خبير اقتصادي سوري في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إنه قبل ضربات الائتلاف كان إجمالي إنتاج الطاقة يزيد على 30.000 برميل يوميا في دير الزور وحدها في سوريا، غير أنه من المعتقد أن هذه القدرة قد تقلصت إلى حد كبير منذ بدء الضربات.
استهدفت ضربات التحالف أكثر من 12 من المصافي المتنقلة في سوريا، إنما «من الصعب جدا تقدير الأرقام الفعلية».
وبناء على خبير النفط العراقي لؤي خطيب في تصريح أيضا لـ«الشرق الأوسط» فقد انخفض إنتاج العراق من منتصف سبتمبر (أيلول) إلى 20.000 برميل يوميا (أي ما يعادل 500.000 دولار يوميا تقريبا)، وهو نصف المبلغ الذي كان يجنيه «داعش» يوميا في العراق قبل الضربات. «ولكن ليس لدي إحصائيات بعد الضربات الجوية الأميركية وهناك انقطاع في كلا البلدين بسبب الغارات الجوية» بحسب خطيب.
يدرك التنظيم خير إدراك أهمية الثروة النفطية، ففي الأسبوع الماضي، أفيد بأن عشرات المسلحين المنتمين إلى المنظمة المتطرفة قتلوا خلال اشتباكات حول البلدة بيجي شمال تكريت حيث توجد إحدى أهم المصافي العراقية.
«تبيع الجماعة النفط لمن يقوم بشرائه»، وفق شاتز. فعملاء «داعش» كثيرون إن كان في سوريا وتركيا وإقليم كردستان العراق وربما في إيران، فضلا عن نظام بشار الأسد الذي يذكر تقرير «راند» أنه هو أيضا اشترى النفط من المتطرفين. ويؤكد الخبير أيضا في مذكرته أن سيطرة «داعش» على النفط ليست نهجا جديدا لمنظمة راديكالية، فبين عامي 2006 و2009. استطاع سلف «داعش» أي تنظيم القاعدة في العراق، تحصيل ما يقارب الملياري دولار أميركي من خلال تهريب النفط المنتج في مصفاة بيجي في شمال العراق.
نجحت جميع الضربات التي وجهها الائتلاف في القضاء على سيطرة «داعش» على مصافي النفط والحد من عمليات البيع معيدا تركيب هندسة «داعش» المالية. إنما يبقى الكثير لفعله لوقف امتداد «داعش» السريع في المنطقة، وفق مارك والس مدير المنظمة غير الحكومية Counter Extremism Project التي تهدف إلى محاربة التطرف الآيديولوجي.
ومصادر الدخل الأخرى التي تعتمد عليها الجماعة المتطرفة تشمل الابتزاز من عمليات الخطف وتحصيل الضرائب في المدن الكبرى وكذلك على محاور الطرق الرئيسة.
فقد أفادت تقارير صحافية كثيرة أن الضرائب التي تفرضها المنظمات المتطرفة على سائقي الشاحنات في العراق أو على طول الحدود العراقية تتراوح بين 200 إلى 300 دولار أميركي. كما تفرض الضرائب على الشركات في المدن الكبرى هذا فضلا عن إيجارات الممتلكات المصادرة من الأشخاص الذين يصنفهم «داعش» أعدائه.
ويفيد الموقع الإلكتروني لصحيفة «نقاش» أن الجماعة تقوم بجمع الإيجارات، وتتصرف تماما مثل سلطة بلدية الموصل وتحصل الكثير من الإيجارات من 2 من المناطق التجارية الكبيرة على جانبي الموصل. ويقدر أن ثمة ما يزيد على 5.000 شركة تجارية في هذه المناطق. يجمع «داعش» الإيجارات أيضا من أجزاء أخرى من المدينة - بما في ذلك المشاريع الصناعية في أماكن عدة أخرى وحتى من المرافق السياحية في مناطق الموصل. معظم هذه الممتلكات كان ملكا للسكان المحليين الذين فروا أو أولئك الذين أجبروا على الخروج وصودرت ممتلكاتهم من قبل «داعش». تشمل هذه الممتلكات منازل وشركات عائدة لسكان مسيحيين، وممتلكات للمسلمين الشيعة والشبك، وبعض منهم من المسلمين السنة، فضلا عن أفراد من الجيش العراقي والشرطة والمسؤولين الحكوميين والسياسيين والقضاة والمدعين العامين.
ومن المعروف أيضا أن الجماعة قد استولت على الإيرادات التابعة للوقف السني في نينوى. وذكرت صحيفة نقاش أن «داعش» يخطط الآن لبيع بعض من تلك العقارات في مزاد علني.
وفي حين من الصعب جدا وضع حد نهائي للحركة التجارية غير المشروعة لـ«داعش» لكي تتمكن دول التحالف من اتخاذ عدة تدابير لإضعاف قدرات المنظمة الإرهابية المالية، جاء تفجير المصافي المتنقلة كخطوة جيدة اتخذها التحالف الذي استهدف أكثر من 12 من المصافي المتنقلة، ويلحظ الخطيب في هذا السياق ضرورة تفادي تدمير البنية التحتية وحقول النفط، الذي سيكون له نتائج عكسية لأن الإصلاحات ستكون مكلفة وسوف تحتاج الحكومات الشرعية المستقبلية إلى عائدات النفط لتتمكن من بسط سيطرتها.
بالإضافة إلى المصافي المتنقلة، لا بد من استهداف أيضا الطرق التي تسلكها الصهاريج لنقل النفط من الحقول وإليها.. «يحتاج التحالف أيضا لضرب قوافل شاحنات (داعش) المحملة بالنفط والمتجهة إلى بلدان أخرى، واستهداف نقاط التفتيش والحدود التي يمسكها مقاتلو (داعش) وهلم جرا، للتأكد من أن هذه المنظمة حرمت من أي وسيلة تمويل رئيسة» يضيف الخطيب.
ولا بد أيضا من وضع حد لتهريب النفط وجعل نقله أكثر صعوبة مع ملاحقة المهربين. ويمكن أن يجري هذا في بلد المقصد مثل الأردن وإيران وتركيا والعراق. وعلى البلدان المعنية مقاضاة المتورطين في هذه التجارة ووضع حد لها بما أنها تمثل المورد الأهم لـ«داعش». إنهم بحاجة لأن يُقمعوا، وفق الخطيب. وينبغي أن تركز الاستخبارات من الولايات المتحدة والعراق وأي دولة أخرى يقاتل «داعش» على تحديد الوسطاء والمشترين للنفط المهرّب واعتماد أي من الوسائل اللازمة لإيقاف هذه المشتريات. ويجب على الحكومة العراقية إشراك تركيا والأردن والأكراد العراقيين لرسم استراتيجية مشتركة لاحتواء عمليات النفط، وفقا لتقرير راند.
يعد «داعش» اليوم من التنظيمات التي تقوم على النقد وقد اعتمدت على السُعاة ليس فقط لإيصال رسائل بين قيادتها المتفرقة بل أيضا لنقل الأموال. هذا يعني أن استهداف الممولين أو السعات كما الأشخاص الذين يلعبون دورا ماليا هاما في التنظيم طريقة فعالة لتعطيل قوة المنظمة المالية.
وإجبار مقاتلي «داعش» على الخروج بعيدا عن مراكز المدن الكبيرة خطوة هامة في الحرب ضد الإرهاب في سوريا والعراق. فالمدن الكبيرة تشكل قوة مالية للتنظيم بسبب الضرائب التي يمكن أن تفرض فيها. إذ إن إقصاء «داعش» من المدن الكبيرة يقلص إيراداته ويحرمه من مصدر دخل هام.
أخيرا، قد يتمثل الإجراء الأخير في استهداف الجهاديين الأوروبيين الآتين إلى العراق وسوريا. فوفق الخطيب «هم يأتون في كثير من الأحيان حاملين مبالغ نقدية كبيرة، وبالتالي لا بد من أن تؤخذ بحقهم إجراءات صارمة». وينبغي تعزيز تدابير التدقيق ومراقبة نقل المبالغ النقدية من أوروبا إلى الدول العربية.
إن القضاء على «داعش» يتطلب بالطبع أكثر بكثير من تعطيل تمويله. «فلا بد من أن يهزم داعش عسكريا، أمر سيحصل مع مرور الزمن ومع نشوء حكومات موثوقة ومشروعة في العراق وسوريا»، كما يرد في تقرير شاتز. في العراق، يجب على حكومة الوحدة الوطنية الجديدة اتباع السلطة اللامركزية وتوزيع جزء أكبر من الميزانية الوطنية للمناطق ومنها ذات الأغلبية السنية. كما عليها العمل لعقد صفقات مع القبائل السنية المحلية وتشجيع التعاون الاقتصادي وزيادة الدعم الحكومي المباشر.

* صحافية متخصصة في الحركات الأصولية



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.