ثروة «داعش».. من النفط والضرائب والهبات

ضربات التحالف خفضت إنتاجه النفطي للنصف.. فقد كان يزيد على 30 ألف برميل في اليوم من دير الزور وحدها

ثروة «داعش».. من النفط والضرائب والهبات
TT

ثروة «داعش».. من النفط والضرائب والهبات

ثروة «داعش».. من النفط والضرائب والهبات

سعى الرئيس الأميركي بارك أوباما إلى تحالف دولي لمحاربة تنظيم داعش الذي توسع في العراق وسوريا مخلّفا مئات القتلى وتاركا وراءه مئات الآلاف من اللاجئين. فرض تنظيم داعش نفسه كأغنى جماعة إرهابية في العالم، لذلك ومن أجل تدميره، لا بدّ من ضرب مصادر ثروته.
إلى جانب البروباغندا العنيفة، والآيديولوجية البغيضة والاستبداد المستمر، بنى «داعش» سمعته على قدرته على استقطاب الأموال والاستفادة منها بذكاء. يشير هاوارد شاتز أحد المحللين في مؤسسة «راند» وهي مركز أبحاث أميركي في تقرير نشر مؤخرا إلى أنه «كما هو الحال مع أي دولة أخرى، على داعش أن يسدّد فواتير ويطعم الأفواه».
ثروة «داعش» تأتي من مصادر دخل مختلفة ومعظمها جُمع محليا داخل العراق وسوريا. ولا شك أن التنظيم أخذ الكثير من العبر من أخطاء مؤسسته الأم - «القاعدة». فقد أظهرت الوثائق أن التنظيم المتطرف لم يعتمد بشكل كبير على التبرعات متجنبا بذلك انقطاع موارده حال استهداف شبكات تمويله. بل فضل التوجه نحو تهريب النفط إلى بلدان أخرى في المنطقة ونحو الابتزاز وفرض الضرائب خاصة على الأقليات غير المسلمة، ومؤخرا بيع ممتلكات سكان الموصل.
يبقى إنتاج النفط أكبر مصدر للدخل يعتمد عليه تنظيم داعش وفقا لمختلف الخبراء. يقول جهاد يازجي خبير اقتصادي سوري في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إنه قبل ضربات الائتلاف كان إجمالي إنتاج الطاقة يزيد على 30.000 برميل يوميا في دير الزور وحدها في سوريا، غير أنه من المعتقد أن هذه القدرة قد تقلصت إلى حد كبير منذ بدء الضربات.
استهدفت ضربات التحالف أكثر من 12 من المصافي المتنقلة في سوريا، إنما «من الصعب جدا تقدير الأرقام الفعلية».
وبناء على خبير النفط العراقي لؤي خطيب في تصريح أيضا لـ«الشرق الأوسط» فقد انخفض إنتاج العراق من منتصف سبتمبر (أيلول) إلى 20.000 برميل يوميا (أي ما يعادل 500.000 دولار يوميا تقريبا)، وهو نصف المبلغ الذي كان يجنيه «داعش» يوميا في العراق قبل الضربات. «ولكن ليس لدي إحصائيات بعد الضربات الجوية الأميركية وهناك انقطاع في كلا البلدين بسبب الغارات الجوية» بحسب خطيب.
يدرك التنظيم خير إدراك أهمية الثروة النفطية، ففي الأسبوع الماضي، أفيد بأن عشرات المسلحين المنتمين إلى المنظمة المتطرفة قتلوا خلال اشتباكات حول البلدة بيجي شمال تكريت حيث توجد إحدى أهم المصافي العراقية.
«تبيع الجماعة النفط لمن يقوم بشرائه»، وفق شاتز. فعملاء «داعش» كثيرون إن كان في سوريا وتركيا وإقليم كردستان العراق وربما في إيران، فضلا عن نظام بشار الأسد الذي يذكر تقرير «راند» أنه هو أيضا اشترى النفط من المتطرفين. ويؤكد الخبير أيضا في مذكرته أن سيطرة «داعش» على النفط ليست نهجا جديدا لمنظمة راديكالية، فبين عامي 2006 و2009. استطاع سلف «داعش» أي تنظيم القاعدة في العراق، تحصيل ما يقارب الملياري دولار أميركي من خلال تهريب النفط المنتج في مصفاة بيجي في شمال العراق.
نجحت جميع الضربات التي وجهها الائتلاف في القضاء على سيطرة «داعش» على مصافي النفط والحد من عمليات البيع معيدا تركيب هندسة «داعش» المالية. إنما يبقى الكثير لفعله لوقف امتداد «داعش» السريع في المنطقة، وفق مارك والس مدير المنظمة غير الحكومية Counter Extremism Project التي تهدف إلى محاربة التطرف الآيديولوجي.
ومصادر الدخل الأخرى التي تعتمد عليها الجماعة المتطرفة تشمل الابتزاز من عمليات الخطف وتحصيل الضرائب في المدن الكبرى وكذلك على محاور الطرق الرئيسة.
فقد أفادت تقارير صحافية كثيرة أن الضرائب التي تفرضها المنظمات المتطرفة على سائقي الشاحنات في العراق أو على طول الحدود العراقية تتراوح بين 200 إلى 300 دولار أميركي. كما تفرض الضرائب على الشركات في المدن الكبرى هذا فضلا عن إيجارات الممتلكات المصادرة من الأشخاص الذين يصنفهم «داعش» أعدائه.
ويفيد الموقع الإلكتروني لصحيفة «نقاش» أن الجماعة تقوم بجمع الإيجارات، وتتصرف تماما مثل سلطة بلدية الموصل وتحصل الكثير من الإيجارات من 2 من المناطق التجارية الكبيرة على جانبي الموصل. ويقدر أن ثمة ما يزيد على 5.000 شركة تجارية في هذه المناطق. يجمع «داعش» الإيجارات أيضا من أجزاء أخرى من المدينة - بما في ذلك المشاريع الصناعية في أماكن عدة أخرى وحتى من المرافق السياحية في مناطق الموصل. معظم هذه الممتلكات كان ملكا للسكان المحليين الذين فروا أو أولئك الذين أجبروا على الخروج وصودرت ممتلكاتهم من قبل «داعش». تشمل هذه الممتلكات منازل وشركات عائدة لسكان مسيحيين، وممتلكات للمسلمين الشيعة والشبك، وبعض منهم من المسلمين السنة، فضلا عن أفراد من الجيش العراقي والشرطة والمسؤولين الحكوميين والسياسيين والقضاة والمدعين العامين.
ومن المعروف أيضا أن الجماعة قد استولت على الإيرادات التابعة للوقف السني في نينوى. وذكرت صحيفة نقاش أن «داعش» يخطط الآن لبيع بعض من تلك العقارات في مزاد علني.
وفي حين من الصعب جدا وضع حد نهائي للحركة التجارية غير المشروعة لـ«داعش» لكي تتمكن دول التحالف من اتخاذ عدة تدابير لإضعاف قدرات المنظمة الإرهابية المالية، جاء تفجير المصافي المتنقلة كخطوة جيدة اتخذها التحالف الذي استهدف أكثر من 12 من المصافي المتنقلة، ويلحظ الخطيب في هذا السياق ضرورة تفادي تدمير البنية التحتية وحقول النفط، الذي سيكون له نتائج عكسية لأن الإصلاحات ستكون مكلفة وسوف تحتاج الحكومات الشرعية المستقبلية إلى عائدات النفط لتتمكن من بسط سيطرتها.
بالإضافة إلى المصافي المتنقلة، لا بد من استهداف أيضا الطرق التي تسلكها الصهاريج لنقل النفط من الحقول وإليها.. «يحتاج التحالف أيضا لضرب قوافل شاحنات (داعش) المحملة بالنفط والمتجهة إلى بلدان أخرى، واستهداف نقاط التفتيش والحدود التي يمسكها مقاتلو (داعش) وهلم جرا، للتأكد من أن هذه المنظمة حرمت من أي وسيلة تمويل رئيسة» يضيف الخطيب.
ولا بد أيضا من وضع حد لتهريب النفط وجعل نقله أكثر صعوبة مع ملاحقة المهربين. ويمكن أن يجري هذا في بلد المقصد مثل الأردن وإيران وتركيا والعراق. وعلى البلدان المعنية مقاضاة المتورطين في هذه التجارة ووضع حد لها بما أنها تمثل المورد الأهم لـ«داعش». إنهم بحاجة لأن يُقمعوا، وفق الخطيب. وينبغي أن تركز الاستخبارات من الولايات المتحدة والعراق وأي دولة أخرى يقاتل «داعش» على تحديد الوسطاء والمشترين للنفط المهرّب واعتماد أي من الوسائل اللازمة لإيقاف هذه المشتريات. ويجب على الحكومة العراقية إشراك تركيا والأردن والأكراد العراقيين لرسم استراتيجية مشتركة لاحتواء عمليات النفط، وفقا لتقرير راند.
يعد «داعش» اليوم من التنظيمات التي تقوم على النقد وقد اعتمدت على السُعاة ليس فقط لإيصال رسائل بين قيادتها المتفرقة بل أيضا لنقل الأموال. هذا يعني أن استهداف الممولين أو السعات كما الأشخاص الذين يلعبون دورا ماليا هاما في التنظيم طريقة فعالة لتعطيل قوة المنظمة المالية.
وإجبار مقاتلي «داعش» على الخروج بعيدا عن مراكز المدن الكبيرة خطوة هامة في الحرب ضد الإرهاب في سوريا والعراق. فالمدن الكبيرة تشكل قوة مالية للتنظيم بسبب الضرائب التي يمكن أن تفرض فيها. إذ إن إقصاء «داعش» من المدن الكبيرة يقلص إيراداته ويحرمه من مصدر دخل هام.
أخيرا، قد يتمثل الإجراء الأخير في استهداف الجهاديين الأوروبيين الآتين إلى العراق وسوريا. فوفق الخطيب «هم يأتون في كثير من الأحيان حاملين مبالغ نقدية كبيرة، وبالتالي لا بد من أن تؤخذ بحقهم إجراءات صارمة». وينبغي تعزيز تدابير التدقيق ومراقبة نقل المبالغ النقدية من أوروبا إلى الدول العربية.
إن القضاء على «داعش» يتطلب بالطبع أكثر بكثير من تعطيل تمويله. «فلا بد من أن يهزم داعش عسكريا، أمر سيحصل مع مرور الزمن ومع نشوء حكومات موثوقة ومشروعة في العراق وسوريا»، كما يرد في تقرير شاتز. في العراق، يجب على حكومة الوحدة الوطنية الجديدة اتباع السلطة اللامركزية وتوزيع جزء أكبر من الميزانية الوطنية للمناطق ومنها ذات الأغلبية السنية. كما عليها العمل لعقد صفقات مع القبائل السنية المحلية وتشجيع التعاون الاقتصادي وزيادة الدعم الحكومي المباشر.

* صحافية متخصصة في الحركات الأصولية



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟