سوق العمل اللبناني «تحت المقصلة»

تقلص الموارد يهدد القطاع العام... وتفاقم البطالة وانحدار القدرات الشرائية ينذران بالأسوأ

مقاه وسط بيروت شبه خاوية في ظل أزمة خانقة (أ.ب)
مقاه وسط بيروت شبه خاوية في ظل أزمة خانقة (أ.ب)
TT

سوق العمل اللبناني «تحت المقصلة»

مقاه وسط بيروت شبه خاوية في ظل أزمة خانقة (أ.ب)
مقاه وسط بيروت شبه خاوية في ظل أزمة خانقة (أ.ب)

تسبب اصطدام لجنة المال النيابية بمعضلة الانحدار الحاد بموارد الخزينة، واضطرارها لتأخير إنجاز بنود مشروع قانون موازنة العام 2020 وإعادة القراءة تبعا للتقديرات المستجدة لتدهور الإيرادات بنسبة 35 في المائة، أي ما يوازي 4 مليارات دولار سنويا، في ارتفاع منسوب الهواجس لدى موظفي القطاع العام من إمكانية تعثر دفع الرواتب كليا أو جزئيا بدءا من الفصل الأول من العام المقبل، واضطرار وزارة المال لاعتماد إجراءات تقشفية إضافية في مجمل بنود الإنفاق.
وإلى جانب التحدي الكبير في كيفية تغطية هذه الفجوة الثقيلة المستجدة التي أطاحت بهيكلية مشروع الموازنة وتوازنها النسبي بين الإيرادات والإنفاق، فإنه من شأن هذا التطور المفترض أن يدفع موجة البطالة الحقيقية والمقنعة إلى إنتاج تداعيات كارثية على المستويين المعيشي والاجتماعي، ويفاقم من سرعة التدهور إلى قعر جديد يشي بانعكاسات أخطر على الاستقرار العام والأمن الغذائي، لدرجة تتجاوز تحذيرات البنك الدولي بدخول وشيك لنصف اللبنانيين إلى خط الفقر، فيما تبرز تصريحات وتوقعات تهول ببلوغ حدود المجاعة الفعلية، حيث يتعثر فتح الاعتمادات المصرفية للمستوردات من جهة، وتتضاءل القدرات الشرائية للأجور والمدخرات «المنزلية» من جهة مقابلة.
ووفق تقديرات نقابية، فإن تمدد حالة التعثر من القطاع الخاص إلى القطاع العام ستضع سوق العمل برمته تحت المقصلة. ولم يعد مستغربا أن تتقدم كرة الأجور في القطاعين إلى واجهة الأزمات التي تضرب الأوضاع اللبنانية عموما واقتصاديا وماليا على وجه الخصوص. فيما تتفاقم أيضا الأزمة النقدية المصاحبة مع زيادة التضييق على السحوبات من المدخرات في البنوك بالليرة وشح أكثر بالدولار النقدي، وصولا إلى حجب متبادل لتشغيل البطاقات على الشبكات المصرفية وتقييد مبالغ فيه إلى أقصى الحدود في استعمال البطاقات خارج لبنان، بما يشمل محدودية السحب النقدي ووضع سقوف متدنية للدفع عبر نقاط البيع أو تسديد فواتير ومصاريف إقامة في الفنادق وخلافه.
ويشهد القطاع الخاص في أغلب قطاعاته موجات متسارعة للإقفال الكلي أو الجزئي وضعت نحو 100 ألف موظف خارج الخدمة، مع نذر بانضمام عشرات الآلاف إليهم مطلع العام المقبل. ووصلت الأزمة إلى حدود متطرفة في بعض القطاعات، على غرار الفنادق والمطاعم والمقاهي والسيارات الجديدة والمستعملة والمخصصة للتأجير والخدمات، تمددا إلى وكالات الاستيراد وحركة النقل في المطار والمرافئ والقطاع الصحي والتمريضي، حيث تتراوح نسب الشلل الإنتاجي بين 50 و90 في المائة، وتفرض عمليات صرف عمالة أو خفض الأجور بما لا يقل عن 50 في المائة. فضلا عن الأزمات المستفحلة سابقا في قطاع البناء ومستلزماته وفي مكونات القطاع السياحي والخدماتي.
ووفق إحصاءات تتابعها «الشرق الأوسط»، فإن إجمالي تكلفة مخصصات الرواتب في القطاع العام لا تقل عن 6.5 مليار دولار سنويا. مما يوجب على وزارة المال ضخ نحو 550 مليون دولار (830 مليار ليرة) في الحساب المخصص لهذا البند في البند المركزي أو الطلب منه الاستدانة في حال التعذر، وهو الاحتمال الأقرب موضوعيا في ظل تناقص الموارد بشكل حاد، إنما ليس الأسهل بسبب حجم الضغوط الهائلة على ميزانية البنك المركزي المتكفل أصلا بتغطية موجبات الدين العام وتخصيص نحو 6 مليارات دولار إضافية للتغطية بالعملة الصعبة لمستوردات القمح والمحروقات والأدوية وبعض المواد الأساسية الملحة.
وكان وزير المال علي حسن خليل قد أوعز بصرف رواتب القطاع العام مبكرا هذا الشهر (منتصف الأسبوع المقبل) تبعا للإجراء المعتمد قبيل بدء السنة الجديدة، مما خفف نسبيا من موجة الشائعات بشأن نضوب المال في الحساب رقم 36 في البنك المركزي، والذي يتم التحويل منه لمخصصات القطاع العام الذي يربو عدد منتسبيه عن 300 ألف عسكري وموظف إداري ومتعاقد. علما بأنه لا توجد إحصاءات دقيقة حول حجم العمالة الفعلي لدى الدولة، وتذهب بعض التقديرات إلى رقم يناهز 350 ألفا، وهو مرشح للزيادة في حال ضم جميع «الأجراء المياومين» (اليوميين) والمتعاقدين بالساعة أو لقاء خدمات.
وفي انتظار تطمينات جديدة بشأن التمكن من تغطية السيولة لموظفي القطاع العام في الأشهر المقبلة، وبمعزل عن مسار مشروع قانون موازنة 2020 تظهر أحدث البيانات الصادرة عن وزارة المال ارتفاع الإنفاق الإجمالي على المخصصات والرواتب وملحقاتها بنسبة 8.18 في المائة على صعيدٍ سنوي إلى 6691 مليار ليرة، أي ما يوازي 4.44 مليار دولار، خلال الأشهُر الثمانية الأولى من العام الحالي، مقارنة بمبلغ 6185 مليار ليرة (4.1 مليار دولار) في الفترة ذاتها من العام الماضي.
وفي ظل تطبيق سلسلة الرتب والرواتب منذ خريف العام 2017، زاد الإنفاق على المخصَّصات والرواتب والأجور والتقديمات الاجتماعيّة، والذي شَكل الحصّة الأكبر (60.6 في المائة) من مجموع الإنفاق على المخصصات والرواتب وملحقاتها، بنسبة 0.22 في المائة سنويّاً، إلى 4054 مليار ليرة (نحو 2.7 مليار دولار). ووفقا لأحدث التقارير الإحصائية الصادر عن وزارة المال، زادت النفقات على معاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة، والتي تشكل 35.11 في المائة من مجموع الإنفاق على المخصَّصات والرواتب وملحقاتها، بنسبة 29.14 في المائة، إلى 2349 مليار ليرة (نحو 1.6 مليار دولار). ومن ضمن هذا البند، ارتفعت تكلفة التقاعد بنسبة 35.97 في المائة على أساس سنوي إلى 1754 مليار ليرة (1.16 مليار دولار). كما زادت تعويضات نهاية الخدمة بنسبة 12.48 في المائة إلى 595 مليار ليرة (395 مليون دولار).
وحدها التحويلات إلى مؤسَّساتٍ عامّة لتغطية رواتب (4.29 في المائة من مجموع الإنفاق على المخصصات والرواتب وملحقاتها)، تراجعت بنسبة 10.59 في المائة سنويا إلى 287 مليار ليرة (190 مليون دولار)... لكن الجدير بالملاحظة، أنّ الإنفاق على المخصّصات والرواتب وملحقاتها قد شَكَّلَ 47.27 في المائة من النفقات الحكوميّة الجارية، و41.66 في المائة من إجمالي الإنفاق الحكومي لغاية شهر أغسطس (آب) الماضي، مقابِل 42.19 في المائة و35.84 في المائة على التوالي في الفترة نفسها من العام السابق.



«الفيدرالي» على وشك خفض الفائدة مجدداً يوم الأربعاء

مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)
مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)
TT

«الفيدرالي» على وشك خفض الفائدة مجدداً يوم الأربعاء

مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)
مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)

من المتوقع على نطاق واسع أن يخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي تكاليف الاقتراض خلال اجتماعه، يوم الأربعاء المقبل، مع احتمال أن يسلط المسؤولون الضوء على كيفية تأثير البيانات الاقتصادية الأخيرة على قراراتهم بشأن أسعار الفائدة في العام المقبل.

وتضع الأسواق المالية في الحسبان احتمالات بنسبة 97 في المائة أن يخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية بمقدار ربع نقطة مئوية، ليصبح النطاق بين 4.25 في المائة و4.5 في المائة، وفقاً لأداة «فيد ووتش».

ومع ذلك، تضاءل مبرر بنك الاحتياطي الفيدرالي لخفض الفائدة مؤخراً بعد التقارير التي تشير إلى أن التضخم لا يزال مرتفعاً بشكل مستمر مقارنةً بالهدف السنوي لـ«الفيدرالي» البالغ 2 في المائة، في حين أن سوق العمل لا تزال قوية نسبياً. وكان البنك قد خفض أسعار الفائدة في سبتمبر (أيلول) ونوفمبر (تشرين الثاني) بعد أن أبقاها عند أعلى مستوى في عقدين طوال أكثر من عام، في محاولة للحد من التضخم المرتفع بعد الوباء.

ويؤثر سعر الأموال الفيدرالية بشكل مباشر على أسعار الفائدة المرتبطة ببطاقات الائتمان، وقروض السيارات، وقروض الأعمال. ومن المتوقع أن تكون أسعار الفائدة المرتفعة في الوقت الحالي عقبة أمام النشاط الاقتصادي، من خلال تقليص الاقتراض، مما يؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد لتخفيف الضغوط التضخمية والحفاظ على الاستقرار المالي.

لكن مهمة بنك الاحتياطي الفيدرالي لا تقتصر فقط على مكافحة التضخم، بل تشمل أيضاً الحد من البطالة الشديدة. وفي وقت سابق من هذا الخريف، أدى تباطؤ سوق العمل إلى زيادة قلق مسؤولي البنك بشأن هذا الجزء من مهمتهم المزدوجة، مما دفعهم إلى خفض أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في سبتمبر. ورغم ذلك، تباطأ التوظيف، فيما تجنب أصحاب العمل تسريح العمال على نطاق واسع.

توقعات الخبراء بتخفيضات أقل في 2025

تدور الأسئلة المفتوحة في اجتماع الأربعاء حول كيفية موازنة بنك الاحتياطي الفيدرالي بين أولويتيه في مكافحة التضخم والحفاظ على سوق العمل، وكذلك ما سيقوله رئيس البنك جيروم باول، عن التوقعات المستقبلية في المؤتمر الصحفي الذي سيعقب الاجتماع. وبينما تبدو التحركات المتعلقة بأسعار الفائدة في الأسبوع المقبل شبه مؤكدة، فإن التخفيضات المستقبلية لا تزال غير واضحة.

وعندما قدم صناع السياسات في بنك الاحتياطي الفيدرالي آخر توقعاتهم الاقتصادية في سبتمبر، توقعوا خفض المعدل إلى نطاق يتراوح بين 3.25 في المائة و4.5 في المائة بحلول نهاية عام 2025، أي بتقليص بنسبة نقطة مئوية كاملة عن المستوى المتوقع في نهاية هذا العام.

وتوقع خبراء الاقتصاد في «ويلز فارغو» أن التوقعات الجديدة ستُظهر ثلاثة تخفيضات ربع نقطة فقط في عام 2025 بدلاً من أربعة، في حين توقع خبراء «دويتشه بنك» أن البنك سيُبقي على أسعار الفائدة ثابتة دون خفضها لمدة عام على الأقل. فيما تتوقع شركة «موديز أناليتيكس» خفض أسعار الفائدة مرتين في العام المقبل.

التغيير الرئاسي وتأثير التعريفات الجمركية

يشكّل التغيير في الإدارة الرئاسية تحدياً كبيراً في التنبؤ بمستقبل الاقتصاد، حيث يعتمد مسار التضخم والنمو الاقتصادي بشكل كبير على السياسات الاقتصادية للرئيس المقبل دونالد ترمب، خصوصاً فيما يتعلق بالتعريفات الجمركية الثقيلة التي تعهَّد بفرضها على الشركاء التجاريين للولايات المتحدة في أول يوم من رئاسته.

وتختلف توقعات خبراء الاقتصاد بشأن شدة تأثير هذه التعريفات، سواء كانت مجرد تكتيك تفاوضي أم ستؤدي إلى تأثيرات اقتصادية كبيرة. ويعتقد عديد من الخبراء أن التضخم قد يرتفع نتيجة لنقل التجار تكلفة التعريفات إلى المستهلكين.

من جهة أخرى، قد تتسبب التعريفات الجمركية في إضعاف الشركات الأميركية والنمو الاقتصادي، مما قد يضطر بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض أسعار الفائدة لدعم الشركات والحفاظ على سوق العمل. كما يواجه البنك تحدياً في فصل تأثيرات التعريفات الجمركية عن العوامل الأخرى التي تؤثر في التوظيف والتضخم.

وتزداد هذه القضايا غير المحسومة وتزيد من تعقيد حسابات بنك الاحتياطي الفيدرالي، مما قد يدفعه إلى اتباع نهج أكثر حذراً بشأن تخفيضات أسعار الفائدة في المستقبل. كما أشار مات كوليار من «موديز أناليتيكس» إلى أن التغيرات المحتملة في السياسة التجارية والمحلية تحت إدارة ترمب قد تضيف طبقة إضافية من عدم اليقين، مما يدعم الحاجة إلى نهج الانتظار والترقب من لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية.