الماضي الجميل.. والحاضر المأساوي

«آخر الملائكة» بالألمانية

فاضل العزاوي
فاضل العزاوي
TT

الماضي الجميل.. والحاضر المأساوي

فاضل العزاوي
فاضل العزاوي

عن دار دورلمان، وبكتاب من القطع الصغير في 512 صفحة، صدرت الترجمة الكاملة لرواية «آخر الملائكة» للأديب العراقي فاضل العزاوي. وسبق للرواية أن ترجمت إلى الإنجليزية وصدرت في الولايات المتحدة قبل بضع سنوات.
تعد رواية «آخر الملائكة» من أفضل ما كتبه فاضل العزاوي في مجال الرواية، وهي تمزج الخيالي والواقعي كي تتحدث عن شخصيات وأحداث تبدو حقيقية في مدينة كركوك في العقد الأخير من الانتداب البريطاني على العراق. وبيد أن الكاتب، وإذ يشعر بقبضة المكان (كركوك) تطبق على أحداث الرواية، لا يتقيد بهذا الزمن فقط، ونراه ينتقل بين حين وآخر إلى زمن مضى أو وقائع زمن قادم وهو يتابع مصائر شخصياته.
استمدت «آخر الملائكة» سحرها من أسلوب الواقعية السحرية ومن عناصر بوتقة كركوك المتعددة الإثنيات والمذاهب والثقافات. يختلط الحلم بالواقع والحقيقي بالخيالي عندما يتحدث العزاوي عن حي «جقور» في مدينته، ويرسم ذكرياته على جدران منازل الحي القديم مثل راسم بارع. يسرد لنا أحداث ذلك الحي وشخصياته المتميزة بأسلوب خيالي مشوق يعود بين آونة وأخرى إلى أرض الواقع مثل حلم نهار.
وفضلا عن شخصياتها الثانوية الكثيرة، التي يتعرض لها العزاوي ليكمل بها فسيفساء عمله الروائي، تبدو شخصيات حميد نايلون والملا زين العابدين القادري، وبرهان عبد الله هي شخصياته التي مثلت المزيج الثقافي الاجتماعي السياسي الذي اهتمت الرواية بإبرازه. حميد نايلون وقصة جوارب لنايلون التي حاول بها استمالة زوجة المدير الإنجليزي، ومن ثم انضمامه إلى العمل المسلح ضد الإنجليز، والقادري الذي يتهم بالشيوعية فقط بسبب مهاجمته الإنجليز، والصبي برهان عبد الله المسكون بالعفاريت والذي يتحدث عن لقاءاته بالملائكة، بالإضافة إلى خضر القصاب ومغامراته الخيالية وبحثه الدائب عن أخويه المفقودين، وصوله إلى الاتحاد السوفياتي، ومن ثم هبوطه من السماء بمنطاد فوق كركوك.
ومثل ساحر ماهر يخرج العزاوي، في الفصل الأخير من الرواية، أرنب المفاجأة من قبعته، ويستخدم الجن والعفاريت وهي تتقافز على أرض الواقع، مثل شخصياته العجيبة، ليطلق إشارة تحذير من تحول هذا «اللاواقع» الماضي الجميل إلى حاضر مأساوي مثل الذي نشهده اليوم في العراق. ويتضح في النهاية أن مدينة كركوك، وحي جقور هو بطل الرواية الحقيقي، وهي بالتالي صورة مصغرة من مجتمع أكبر هو المجتمع العراقي بهوياته المتعددة.
ترجمت الكتاب الصحافية والمترجمة الألمانية المعروفة لاريسا بندر، المولودة في مدينة كولون، التي درست العلوم الإسلامية في كولون وبرلين ودمشق، وعملت لفترات طويلة في الصحافة والترجمة. وسبق لها، فضلا عن كتب أخرى، أن ترجمت ثلاثية الروائي الراحل عبد الرحمن منيف «مدن الملح» إلى الألمانية.
وفي حديث هاتفي مع الكاتب، عبر فاضل العزاوي عن ارتياحه للاهتمام الإعلامي والثقافي الذي رافق صدور النسخة الألمانية، والاستقبال الجيد للجمهور لها. وتحدث عن قراءاته من فصول الرواية في المهرجان الثقافي العالمي، الذي أقيم قبل أسبوع في العاصمة برلين، وعن النقاش الذي أثارته الرواية بين الجمهور الذي ملأ القاعة. وكانت دار دورلمان قد نظمت لقاء دعت له الإعلاميين والأدباء الألمان، كما تنظم له قراءة قادمة في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب يوم 9 أكتوبر (تشرين الأول) القادم.
صدرت الطبعة الأولى من الرواية بشكل «هارد كوفر»، وتخطط الدار لاحقا لإصدارها بحجم كتاب جيب، وربما ككتاب إلكتروني مسموع.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.