القضاء السوداني يدين البشير بالفساد المالي ويرسله لإصلاحية اجتماعية

القاضي راعى تقدمه في السن... ورفض نفيه إلى الخارج لاتهامه في قضايا أخرى

البشير يتحدث إلى محاميه خلال محاكمته أمس (رويترز)
البشير يتحدث إلى محاميه خلال محاكمته أمس (رويترز)
TT

القضاء السوداني يدين البشير بالفساد المالي ويرسله لإصلاحية اجتماعية

البشير يتحدث إلى محاميه خلال محاكمته أمس (رويترز)
البشير يتحدث إلى محاميه خلال محاكمته أمس (رويترز)

قضت محكمة في الخرطوم أمس، بإرسال الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، إلى «دار للإصلاح الاجتماعي لمدة عامين»، بعد إدانته بالفساد المالي في واحدة من عدة قضايا ضده منذ أطاح به الجيش تحت ضغط الشارع، في 11 أبريل (نيسان) الماضي.
وأدين البشير البالغ 75 عاماً بـ«الثراء الحرام» و«التعامل بالنقد الأجنبي». وتحمل التهمتان عادة عقوبة السجن لمدة تصل إلى 10 سنوات، لكن القاضي الصادق عبد الرحمن الذي ترأس محكمة «خاصة» لمحاكمة الرئيس السابق، رأى أن «المدان تجاوز 70 عاماً... ولا يجوز إيداعه السجن، لذا قررت المحكمة إرساله لدار الإصلاح الاجتماعي لمدة عامين».
ورفض القاضي إنزال حكم التغريب (النفي خارج البلاد) على البشير، لوجود بلاغات أخرى في مواجهته؛ أبرزها تقويض النظام الدستوري بتنفيذ انقلاب عسكري في عام 1989، ودعاوى أخرى تتعلق بالاشتراك الجنائي والتحريض على قتل المتظاهرين، وتصفية 28 ضابطاً بالقوات المسلحة في 28 رمضان 1990.
وقررت المحكمة أيضاً مصادرة 6.9 مليون يورو و351 ألفاً و770 دولاراً و5.9 مليون جنيه سوداني (128 ألف دولار) وجدت في منزل، بعد الإطاحة به. وأشار إلى أن دفاع البشير لم يقدم دليلاً على مصدر هذه الأموال، كما أنه تسلم الأموال في المطار بواسطة أحد أعوانه، متجاهلاً قانون الجمارك.
وأشار القاضي هنا إلى قيام نظام البشير في أوائل عهده بإعدام متهم سوداني (مجدي محمد أحمد) بتهمة الاتجار في العملة، ما أثار غضب محامي الدفاع، الذين هتفوا بعبارات ضد القاضي، ما اضطره لطردهم خارج القاعة. وسرد القاضي وقائع وحيثيات، سير المحاكمة منذ مثول المتهم أمامه في مايو (أيار) الماضي، في البلاغات الموجهة ضده.
من جانبه، عدّ عضو هيئة الدفاع، محمد الحسن الأمين عن البشير أن الحكم سياسي لا علاقة له بالقانون، وأنه حكم غير عادل. وقال إن هيئة الدفاع ستستأنف الحكم في محكمة الاستئناف والمحكمة الدستورية، رغم عدم الرضا بحكم سنتين.
وبشأن البلاغات الأخرى الموجهة ضد البشير، قال إن الدعوى المرفوعة بالتخطيط والتدبير لانقلاب 30 يونيو (حزيران) 1989، لا أساس قانونياً لها لأنها سقطت بالتقادم، وهي مجرد قضية سياسية.
من جهة ثانية، عدّ تجمع المهنيين السودانيين الحكم الصادر في حق الرئيس المعزول، إدانة سياسية وأخلاقية للمخلوع ونظامه، وكشفت حيثيات المحكمة سوء إدارة الدولة والمال والعام. وأضاف في بيان أن هذا الحكم غيض من فيض وبداية لجرد الحساب وليس نهاية المطاف. وأشار إلى أن اللجان القانونية التي كوّنها النائب العام السوداني، ستنظر في كثير من تهم القتل والتصفية والجرائم ضد الإنسانية الموجهة للمخلوع.
في غضون ذلك، قالت النيابة العامة، إن شعب السودان موعود بمحاكمات البشير ورموز نظامه السابق، وإن هذه أول قضية يقدم فيها رأس النظام السابق للمحاكمة وتنتظره قضايا تحت المادة (130) القتل العمد والجرائم ضد الإنسانية وجرائم تقويض النظام الدستوري، وتصل العقوبة في كل منها في حالة الإدانة إلى عقوبة الإعدام.
وأضافت في بيان، رمزية إدانة البشير تشير إلى الطريقة التي كانت تدار بها أموال الدولة، وأن الإدانة تحت المواد المذكورة لشخص كان رئيساً للجمهورية يكشف عن سوء المنقلب. وتابع البيان أن البشير تحول من متهم إلى محكوم عليه، وبالتالي يخضع لما تفرضه لوائح السجون من قيود.
وأشار إلى أن النيابة العامة تباشر التحقيق في الجرائم التي ارتكبها البشير ورموز نظامه السابق منذ عام 1989، وحتى عزله، من بينها قتل المتظاهرين وانتهاكات حقوق الإنسان في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وجرائم الاغتصاب والتعذيب والاختفاء القسري، والفساد الذي تصل المبالغ الواردة فيه إلى مليارات الدولارات.
وعلى مقربة من المحكمة، تجمع العشرات من أنصار البشير وهم يحملون صورة له ويهتفون له، وشارك المئات في مظاهرة أخرى نظّمت في الخرطوم وسط حراسة مشددة، حيث رفع محتجون لافتات تقول: «تسقط تسقط الحكومة».
والبشير مطلوب أيضاً لدى المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرتي اعتقال بحقه في عامي 2009 و2010 لتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية في منطقة دارفور.
وكانت المحكمة الجنائية الدولية ومقرها لاهاي بهولندا اتهمت البشير بارتكاب جرائم إبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، لدوره في النزاع الذي خلف وفق الأمم المتحدة 300 ألف قتيل وشرد 2.5 مليون شخص من منازلهم.
وعقب الإطاحة بالبشير، طلب مدعي المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي من السلطات الجديدة تسليمه. لكن حتى الآن ترفض السلطة الانتقالية التي شكلت في سبتمبر (أيلول) الماضي تسليم الرئيس السابق.
بدوره، أكد «تحالف الحرية والتغيير» الذي قاد الاحتجاجات ضد البشير، والذي يحتفظ بتمثيل كبير في المجلس السيادي الذي بات أعلى سلطة تنفيذية في البلاد، أنه لا اعتراض لديه على تسليم البشير إلى الجنائية الدولية.
ويقتضي تسليم البشير أن تصادق الحكومة الانتقالية المشتركة التي تشكلت بموجب اتفاق تم التوصل إليه في أغسطس (آب) على ميثاق روما الذي أنشئت المحكمة الجنائية الدولية بموجبه. لكن السودان ملزم قانونياً بتوقيفه، لأن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية جرى بتفويض من الأمم المتحدة والسودان عضو فيها.
وإلى جانب قضية الفساد واتهامات المحكمة الجنائية الدولية، يفترض أن يحاكم البشير بتهم أخرى أمام قضاء بلده. ففي 12 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أطلقت السلطات السودانية إجراءات قانونية ضد البشير وبعض مساعديه لدوره في انقلاب 1989 الذي أوصله إلى السلطة بدعم من الإسلاميين.



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.