طرابلس على خطوط المواجهة الأماميةhttps://aawsat.com/home/article/2036026/%D8%B7%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D9%84%D8%B3-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AE%D8%B7%D9%88%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9
> نجحت مدينة طرابلس، ثاني كبرى مدن لبنان وعاصمة شماله، منذ اندلاع الحراك الشعبي بفرض نفسها في المعادلة كرقم صعب، فبعدما فتر زخم الناشطين في كثير من المناطق اللبنانية الأخرى، ظلَّت أعداد المتظاهرين فيها بشكل يومي هي الأكبر. ولقد تصدرت طرابلس المشهد الأسبوع الماضي مع قرار مجموعة من الناشطين تفعيل تحركاتهم بوجه المسؤولين السياسيين في المدينة، ما أدى لمواجهات متنقلة استدعت تدخل الجيش لاستيعابها. في هذه الأثناء، اتهمت بعض قوى السلطة الناشطين في طرابلس بتنفيذ أجندات أحزاب سياسية للتأثير على المفاوضات الحكومية، بسبب استمرارهم بقطع الطرقات، حتى إن رئيس «تيار الكرامة» النائب فيصل كرامي ذهب أبعد من ذلك، بوصفه مَن تجمهروا أمام منزله ورشقوه بالنفايات بـ«المتطفلين على ثورة الناس الطيبين، الذين يسعون لتخريبها ونشر الفوضى في طرابلس». هذا، وتنامت حالة الغضب، الثلاثاء الماضي، في طرابلس، بعد مقتل شخصين نتيجة انهيار جزء من سقف منزلهما، ما دفع العشرات للتحرك بوجه البلدية ورئيسها مطالبيه بالاستقالة. وأعلنت قيادة الجيش عن إصابة 6 عسكريين بجروح مختلفة، بعد تدخلهم للفصل بين عدد من المحتجّين وحرّاس منزل النائب فيصل كرامي، موضحة في بيان أنه، وبعد تجمهر المتظاهرين أمام منازل النوّاب في المنطقة، تطوّر الوضع إلى تلاسن واستفزازات ورمي أكياس النفايات ورشق بالحجارة أمام منزل كرامي، ما استدعى تدخل الوحدات العسكرية «للفصل بين الطرفين وتفريق المتظاهرين، ومنعهم من افتعال أعمال شغب وإضرام النيران في مستوعبات النفايات». وبعد استيعاب ما حصل من تطورات مسائية، عادت الأمور لتتخذ منحى تصعيدياً في المدينة وأطرافها فجر الثلاثاء، بعد انهيار جزء من سقف مبنى قديم على قاطنيه في حي الأندلس بمدينة الميناء (توأم مدينة طرابلس)، ما أدى، بحسب «الوكالة الوطنية للإعلام»، إلى مقتل الشاب عبد الرحمن الكاخية، وشقيقته ريما، وهما من الجنسية السورية. ونتيجة الحادثة، عمَّت المدينة حالة من الغضب، فقرر عدد من الشبان التوجه إلى الباحة الخارجية لمبنى بلدية الميناء التي حملوها مسؤولية ما حصل نتيجة عدم تجاوبها مع مطالب الأهالي ترميم المنازل، فأقدموا على إشعال النيران في حاويات النفايات وحطموا زجاج الباب الخارجي، ومن ثم اقتحموا المكتبة والقاعة الرئيسية وعبثوا بمحتوياتهما. واستقدم الجيش اللبناني تعزيزات إلى القصر البلدي، ومحيط منزل رئيس البلدية عبد القادر علم الدين في حي البوابة، إثر تدفق عشرات المحتجين إلى المكان، وإحراقهم أثاث المكتب الشخصي لعلم الدين، كما ورد في «الوكالة الوطنية للإعلام». وتزامنت التحركات بوجه البلدية ورئيسها مع عملية قطع عدد من الطرقات في المدينة، وقد طالب المحتجون باستقالة رئيس البلدية. وعلى الأثر، عقد عدد من أعضاء مجلس بلدية الميناء اجتماعاً قرر على أثره 6 من هؤلاء الاستقالة، متهمين رئيس البلدية بالفساد وبإهمال عمله. وأكدت الناشطة في الحراك الشعبي في طرابلس أميرة داية أن «كل ما يحصل في المدينة من تحركات تتم بشكل عفوي، ونحن نؤيد ونشارك في بعضها ولا نحبذ بعضها الآخر، لكن هذا لا يعني أن نرفض الثورة بسبب أداء البعض»، مضيفة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الثورة ليست (غب الطلب) وعفويتها تعرضها لبعض الأخطاء... لكن بالمقابل هناك الكثير من الصوابية في عملها، فكلنا بالنهاية محرومون وموجوعون ونحاول تحصيل حقوقنا المسلوبة». واعتبرت داية أن «التحركات بوجه سياسيي المنطقة منطقية، وهي نتيجة فشلهم الذي يظهر جلياً من خلال الأحوال التي وصلت إليها المدينة»، معتبرة أن «المسؤول والحاكم يجب أن يتحمل بالنهاية المسؤولية لا أن يستفيد حصراً من السلطة والمواقع من دون أن يدفع ثمن أخطائه، ولذلك نحن نطالب باستقالة رئيس بلدية الميناء بعد استشهاد شخصين في المنطقة نتيجة الإهمال، ورفض الاستماع إلى مطالب الأهالي بترميم المنازل القديمة».
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
أمضت تركيا أكثر من 22 عاماً تحت حكم حزب «العدالة والتنمية» الذي شهدت مسيرته محطات حرجة وتحديات سياسية واقتصادية، بين صعود وهبوط، وانعكست على السياسة الخارجية على وجه الخصوص.
الحزب ذو الجذور الإسلامية الذي أسسه الرئيس رجب طيب إردوغان ومجموعة من رفاقه أبرزهم الرئيس السابق عبد الله غل، والسياسي المخضرم بولنت أرينتش، ظهر في 14 أغسطس (آب) 2001، وفاز منفرداً بحكم تركيا في أول انتخابات تشريعية خاضها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002، وبقي في الحكم حتى الآن.
وخاض الحزب في البداية صدامات مع النخبة العلمانية والجيش والقضاء وصلت ذروتها عند ترشيح عبد الله غل، الذي كان وزيراً للخارجية، للرئاسة عام 2007 خلفاً للرئيس الأسبق أحمد نجدت سيزر.
أزمات ومعارك
أحدث ترشيح غل أزمة كبيرة في تركيا التي شهدت تجمعات مليونية في أنقرة وإسطنبول رفضاً له. وأفلت الحزب أيضاً من الحل في دعوى أقيمت ضده أمام المحكمة الدستورية التي قضت بالغرامة المالية دون الإغلاق في عام 2008، بسبب انتهاكه «مبادئ العلمانية».
ومنذ عام 2010، بدأ الحزب حملة تغييرات واسعة، عبر تعديل الدستور، بعدما استفاد من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي التي انطلقت رسمياً عام 2005 في إرساء العديد من حزم الإصلاحات في النظام القضائي والقوانين.
وخاص الحزب العديد من المعارك، كما نزع فتيل محاولات استهدفته على غرار قضايا «أرجنكون» و«المطرقة» و«القفص» التي حاول فيها عسكريون الإطاحة بحكومة إردوغان.
وعد إردوغان، الرجل القوي الذي لا يزال قابضاً بقوة على السلطة في تركيا، أن احتجاجات «غيزي بارك» في مايو (أيار) 2013، وما أعقبها من تحقيقات «الفساد والرشوة» التي جرت في 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، كانت محاولات للإطاحة بحكومته.
ونُسبت تحقيقات في تهم فساد ورشوة طالت أبناء وزراء في حكومة إردوغان ورجال أعمال مقربين منه، وامتدت إلى أفراد عائلته، إلى حركة «الخدمة» التي تزعمها حليفه الوثيق السابق، فتح الله غولن، الذي توفي منذ أشهر.
مواجهة أخيرة
كانت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو (تموز) 2016، التي نفذتها مجموعة من الجيش، نُسب إليها الانتماء إلى حركة غولن، هي آخر المواجهات التي مكنت إردوغان من إخضاع المؤسسة الحامية للعلمانية في البلاد (الجيش) بعدما تمكن من السيطرة على أجهزة الأمن والقضاء عقب تحقيقات الفساد والرشوة، وقام بتطهيرها من أنصار غولن، الذي كان حليفاً لحزب «العدالة والتنمية» منذ ظهوره.
ووسط هذه المعارك التي مكنت إردوغان وحزبه من السيطرة على جميع مفاصل الدولة وإزالة مشكلة حظر الحجاب من أجندة تركيا، كان الحزب يخوض مسار صعود اقتصادي أزال أثر الأزمة الحادة التي عاشتها البلاد في 2001، وكانت العامل الأساسي في فوزه الكاسح بأول انتخابات يخوضها.
صعود اقتصادي وتقلبات سياسية
استمر الصعود الاقتصادي، وساعد في ذلك اعتماد حزب «العدالة والتنمية» سياسة «صفر مشاكل» مع دول الجوار التي أسس لها وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو، الذي تولى لاحقاً رئاسة الحكومة، التي كان لها الفضل في إذابة الجليد في علاقات تركيا مع محيطها في الشرق الأوسط والعالم العربي، فضلاً عن توسيع علاقات تركيا بالشرق والغرب.
ولم تخف توجهات السياسة التركية في هذه الفترة اعتمادها على نظرية «العثمانية الجديدة»، واستعادة مناطق النفوذ، التي انطلقت من نظرية «العمق الاستراتيجي» لـ«داود أوغلو»، وبعدما بدأت تركيا التمدد من الدول العربية إلى أفريقيا اعتماداً على أدوات الدبلوماسية الناعمة والمساعدات الإنسانية وعامل الدين والتاريخ المشترك، جاء ما عرف بـ«الربيع العربي» ليقلب سياسة تركيا إلى التدخل المباشر والخشن عبر أدوار عسكرية امتدت من سوريا وليبيا إلى القرن الأفريقي، وفتحت لها باب التوسع بإقامة القواعد العسكرية في الخارج.
وتسبب انحياز تركيا إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات متشددة، ودعمها في تونس ومصر وسوريا وليبيا، في حصارها في المنطقة، وهو ما حاول سياسيوها تبريره بشعار «العزلة القيمة».
بين الكرد والقوميين
جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016 لتضيف مزيداً من التوتر إلى علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين بسبب ما عدّته أوروبا وأميركا، استغلالاً لها في سحق معارضي إردوغان على اختلاف انتماءاتهم وليس أنصار غولن فقط، والتوسع في انتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير عبر الاعتقالات الواسعة، وإغلاق المنصات الإعلامية، وهو ما أدى إلى «دفن» مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي كانت مجمدة بالفعل منذ عام 2012.
الحال، أن الانسداد في العلاقات مع أوروبا كان قد تأجج في فترة الانتخابات البرلمانية في تركيا عام 2015 التي شهدت مصادمات مع الكرد، وخسر فيها حزب «العدالة والتنمية» الأغلبية للمرة الأولى في الانتخابات التي أجريت في 7 يونيو (حزيران) من ذلك العام للمرة الأولى في مسيرته، قبل أن يلجأ إردوغان إلى الانتخابات المبكرة في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، ليفوز بها حزبه.
وفي هذه الفترة كان «العدالة والتنمية» أطلق في عام 2013 مبادرة للسلام الداخلي وحل المشكلة الكردية، قبل أن يعلن إردوغان إنهاءها في 2015 قائلاً إنه لا توجد مشكلة كردية في تركيا.
وأثبتت القضية الكردية أنها الورقة التي يلجأ إليها إردوغان في لحظات الضعف التي يمر بها حزبه وتتراجع شعبيته، فقد عاد الحديث في الأسابيع الماضية عن مبادرة جديدة للحل، أطلقها رئيس حزب «الحركة القومية»، الحليف لإردوغان، دولت بهشلي، ودعا من خلالها إلى حوار مباشر مع زعيم حزب «العمال الكردستاني» المحكوم بالسجن مدى الحياة في تركيا، عبد الله أوجلان، بل دعوته للحديث في البرلمان، والنظر في العفو عنه.
وجاءت هذه الخطوة، كما يرى مراقبون، محاولة من إردوغان لجذب كتلة أصوات الكرد بعد الهزيمة التي تلقاها حزبه في الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس (آذار) الماضي، بعدما فاز بصعوبة بالغة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023، والحصول على دعم نواب حزب «الديمقراطية المساواة للشعوب»، المؤيد للكرد لفتح الطريق أمام إردوغان للترشح للرئاسة للمرة الرابعة في انتخابات مبكرة تُجرى قبل عام 2028 بطلب من 360 نائباً، وهو ما لا يملكه «تحالف الشعب»، الذي تأسس مع تحول البلاد إلى النظام الرئاسي عام 2018، ليضم حزب «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، وأحزاب قومية وإسلامية أخرى صغيرة مثل «الوحدة الكبرى»، و«هدى بار».
وتسبب التحالف مع القوميين في انتقال «العدالة والتنمية» من حزب وسطي إصلاحي يخدم الشعب بلا تمييز ويعمل على دفع الاقتصاد والانضمام للاتحاد الأوروبي، إلى حزب يرفع شعارات الفكر القومي والأمة، ويبشر بالعثمانية الجديدة و«الوطن الأزرق» في ظل نظام يصفه معارضوه في الداخل وحلفاؤه في الغرب بأنه يكرس الديكتاتورية وحكم الفرد منذ إقرار النظام الرئاسي من خلال تعديلات دستورية تم الاستفتاء عليها عام 2017.
ألغاز السياسة الخارجية
ربما تكون السياسة الخارجية لتركيا تحت حكم إردوغان و«العدالة والتنمية» هي أكبر الألغاز المحيرة، فبعدما أريد لها الانفتاح وتصفير المشاكل، انتقلت منذ 2011 إلى التدخل في أزمات المنطقة، ثم رفعت شعار «العزلة القيمة»، بعدما حدثت شروخ عميقة في العلاقات مع محيط تركيا الإقليمي من مصر إلى دول الخليج إلى سوريا والعراق، في مرحلة ما، ثم محاولة العودة بعد 10 سنوات ضائعة إلى مسعى «تصفير المشاكل» مرة أخرى.
وهكذا عملت تركيا على إصلاح العلاقات مع دول الخليج ومصر، وعدم التمادي في تدمير العلاقات مع إسرائيل، على الرغم من إدانتها الصارخة لحربها في غزة ولبنان وهجماتها في سوريا، وصولاً إلى الحوار الإيجابي مع اليونان وأرمينيا.
واتسمت هذه السياسة أيضاً بتبديل غير مستقر للمحاور بين الشرق والغرب، عبر محاولة توظيف ورقة العلاقات مع روسيا والصين وإيران، وتقديم طلب عضوية في مجموعة «بريكس»، والحضور في قمة منظمة شنغهاي للتعاون على المستوى الرئاسي، للضغط من أجل تحريك مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكسر فتور العلاقات مع أميركا.
وشكل التذبذب في العلاقات بين تركيا وروسيا ملمحاً مميزاً، وكذلك مع إيران، لكن بصورة أقل علانية، إلى أن دخلت العلاقات معهما منعطفاً حاداً بسبب التطورات الأخيرة التي أطاحت بحكم بشار الأسد في سوريا، فضلاً عن عدم الرضا من جانب روسيا عن نهج تركيا في التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية.
هواجس المستقبل
الآن، وبعد نحو ربع قرن ساد فيها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، يبدو أن إردوغان يجد صعوبة كبيرة في تنفيذ وعده لناخبيه عقب فوزه بالرئاسة في مايو 2023 بتأسيس «قرن تركيا».
يواجه إردوغان الآن معارضة عرفت طريقها إلى الشارع بعد أكثر من 22 عاماً من التشتت، وركاماً اقتصادياً أجهض ما تحقق من مكاسب في الحقبة الذهبية لحزبه، الذي أتى بالاقتصاد، والذي قد يرحل بسببه، بعدما بدأ رحلة تراجع منذ تطبيق النظام الرئاسي في 2018، مع صعوبة التغلب على المشاكل الهيكلية، وكسر حلقة التضخم الجامح وغلاء الأسعار وتآكل الدخل.
كما يدخل الحزب عام 2025 مع سؤال كبير وملحّ: «هل يضعف (العدالة والتنمية) أو يتلاشى إذا غابت عنه قيادة إردوغان القوية؟»، ومع هذا السؤال يبدو أن سيناريوهات مقبلة في الطريق لإبقاء الرجل على رأس الحزب والسلطة في تركيا.