ماكرون وحلف الناتو: خلافات داخل العائلة الواحدة

صورة تذكارية لأعضاء الحلف الأطلسي في ختام قمتهم الأخيرة في لندن (أ.ب)
صورة تذكارية لأعضاء الحلف الأطلسي في ختام قمتهم الأخيرة في لندن (أ.ب)
TT

ماكرون وحلف الناتو: خلافات داخل العائلة الواحدة

صورة تذكارية لأعضاء الحلف الأطلسي في ختام قمتهم الأخيرة في لندن (أ.ب)
صورة تذكارية لأعضاء الحلف الأطلسي في ختام قمتهم الأخيرة في لندن (أ.ب)

كان احتفال الحلف الأطلسي بمناسبة بلوغه عامه السبعين، فرصة لفتح الملفات والجراح، ليس مع الخصوم، ومنهم من لم يعد موجوداً، مثل «حلف وارسو»، الذي كان مناوئاً أساسياً لـ«الأطلسي». جاءت الجراح هذه المرة من داخل صفوف الحلف نفسه. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اعتبر الحلف «في حالة موت دماغي»، فيما فتح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، النار على حلفائه الغربيين، متهماً إياهم بدعم الإرهاب في سوريا، بسبب وقوفهم إلى جانب «قوات سوريا الديمقراطية»، التي يعتبر رئيس تركيا أنها أحد فصائل «حزب العمال الكردستاني». الموقفان الفرنسي والتركي أديا إلى مواجهة كلامية مباشرة بين رئيسي البلدين، انعكست سلباً على الآمال بالاعتماد على حلف شمال الأطلسي للبقاء قوة متماسكة في وجه التهديدات التي تتعرض لها المصالح الغربية، بالأخص من روسيا، إلى حد أن هناك من بات يعتقد أن الفضل في بقاء «الناتو» على قيد الحياة يعود أساساً إلى وجود القوات الروسية على ضفته الشرقية. لم يقتصر الأمر على ذلك. يمكن أن تضاف إلى هموم حلف الأطلسي قضية التمويل المالي، التي يثيرها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، منذ دخوله الأبيض، متهماً أعضاء الحلف الآخرين بالتلكؤ في دفع التزاماتهم المالية، تاركين العبء الأكبر على كاهل الولايات المتحدة. مسألة باتت تطرح جدياً في أوروبا موضوع قيام «جيش أوروبي» يغني القارة القديمة عن الاعتماد على الدعم الأميركي، المعرض باستمرار لتغير الرياح السياسية التي تهب من واشنطن. لكن، حتى هذا الخيار بات الآن موضع شك مع انسحاب بريطانيا، إحدى القوى العسكرية الكبرى، من عضوية الاتحاد الأوروبي، واتجاهها أكثر صوب التحالف مع الولايات المتحدة.

كان يراد لقمة الحلف الأطلسي الأخيرة في لندن أن تكون فرصة لإعادة التأكيد على صلابة أهم تحالف عسكري في تاريخ الغرب الحديث، وقابليته للاستمرار بعد 70 عاماً على ولادته، للوقوف سداً منيعاً بوجه زحف الشيوعية في أوروبا. ورغم الجهود الحثيثة التي بذلها أمينه العام، يان ستولتنبرغ، من أجل تدوير الزوايا، والتركيز على القواسم المشتركة، وإبعاد النزاعات الكامنة عن السطح، فإن رئيس الوزراء النرويجي السابق، المعروف بمهارته الدبلوماسية وسعيه الدائم للوصول إلى تسويات، لم يفلح في التغطية على الخلافات العميقة التي بدأت بالانفجار قبل وصول القادة الأطلسيين إلى لندن.
من بين هؤلاء، لعب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دوراً رئيسياً. فقد استغل فرصة مقابلة مطولة مع مجلة «إيكونوميست» البريطانية، في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ليصفي حساباته مع عدة أطراف، أولهم الرئيس الأميركي، وثانيهم نظيره التركي، ثم بقية الأوروبيين المترددين في السير وراء رؤيته للحلف، ولما يتعين أن يكون عليه الاتحاد الأوروبي. وما قاله ماكرون للمجلة البريطانية لم يتردد في تكراره في لندن، داخل وخارج الاجتماعات الرسمية، رغم ردود الفعل السلبية، وبعضها جاء جارحاً. فالرئيس الفرنسي ذهب إلى حد اعتبار أن الحلف الأطلسي «يعاني من موت سريري»، والقارة الأوروبية «واقعة في حالة من الهشاشة البالغة» إزاء التحديات العظيمة التي تواجهها. وفي السياق عينه، ندد ماكرون بـ«تخلي» الولايات المتحدة عن شركائها الأوروبيين، وأنانيتها السياسية، كذلك عبر عن استيائه الشديد من «تصرف» بعض أطراف الحلف بعيداً عن التشاور مع الآخرين، في إشارة إلى العملية العسكرية التركية الأخيرة «نبع السلام»، شمال شرقي سوريا، ضد «حلفاء» للأطلسي، والمقصود بذلك «قوات سوريا الديمقراطية». وانطلاقاً من هذا التوصيف، دعا ماكرون إلى التفكير جدياً من أجل «توضيح الأهداف الاستراتيجية» للحلف، وإلى قيام «دفاع أوروبي»، وهو موضوع سبق أن أثاره العام الماضي، بدعوته لقيام جيش أوروبي «حقيقي». وإذا كان أعضاء في الحلف يتصرفون من غير تشاور مسبق، بحسب الرئيس الفرنسي، فإنه يتساءل عن «مصير» المادة الخامسة من المعاهدة الأطلسية التي تشدد على «التضامن الأطلسي»، في حال تعرض أي من أعضائه لاعتداء خارجي.
حقيقة الأمر أن ماكرون طرح الأسئلة الصعبة التي تراها باريس مشروعة لأنها تهم بالدرجة الأولى الأمن الأوروبي. فعندما «يدفن» الرئيس ترمب معاهدة الحد من الصواريخ النووية متوسطة المدى «وهي منشورة في أوروبا» من غير التشاور مع الأوروبيين، فإنه «يلعب» بمصير القارة القديمة، وفق توصيف مصادر رفيعة المستوى في الرئاسة الفرنسية. وعندما يقرر الانسحاب من سوريا، ضارباً عرض الحائط برأي شركائه في «التحالف الدولي» لمحاربة الإرهاب الذي تقوده واشنطن، فإنه يتبع سياسة أحادية تستهين بوجهات نظر ومصالح الآخرين، كما أنه «يضحي» بشركاء التحالف في الحرب على الإرهاب، ويشجع تركيا التي اتهمها بأنها على «تواصل» مع شركاء لـ«داعش» على مواصلة سياستها المدمرة في سوريا. ولا يكتفي ماكرون بطرح التساؤلات، ووضع الإصبع على الجرح الأطلسي، بل يعرض مجموعة من «المقترحات».
بداية، يريد ماكرون إطلاق «مشاورات استراتيجية معمقة» حول أهداف الحلف اليوم، التي تشمل مهماته، وتحديد هوية «أعدائه» و«خصومه». واقترح ماكرون تشكيل لجنة من شخصيات مستقلة تكلف بهذه المهمة. إلا أن مطلبه أخذ به جزئياً لأن المهمة أنيطت بأمين عام الحلف الذي أعطي مهلة عامين لتقديم تقرير بذلك. وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد قدمت اقتراحاً بهذا المعنى، وأخذ به. وثاني أهداف ماكرون تمثل في طلب «توضيحات» حول ما تقوم به تركيا في سوريا، وخططها في هذا البلد.
مرة أخرى، لم يجد الرئيس الفرنسي ضالته، إذ لم يتردد في الكشف، بعد اجتماع رباعي (فرنسي، بريطاني، ألماني، تركي)، أنه «لم يحصل» على التوضيحات المطلوبة، بل إن هناك خلافاً عميقاً بين الأوروبيين الثلاثة والرئيس التركي حول تحديد التنظيمات الإرهابية. وإذا كان الأوروبيون يعدون حزب العمال الكردي تنظيماً إرهابياً، فإنهم يرفضون قطعياً مسايرة إردوغان في تصنيف «قوات سوريا الديمقراطية» أو «وحدات حماية الشعب» الكردية منظمات إرهابية، مما يعني أن الخلافات ما زالت على حالها. كذلك فإن انتقاد سياسة التسلح التركية، وتحديداً شراء منظومة دفاع جوي «أس 400» لا يمكن دمجها بالأنظمة الغربية، لاقى رفضاً تركياً نهائياً. وفي أي حال، فإن علاقة ماكرون بإردوغان من بين الأسوأ بين قادة الحلف، إذ أن الأخير لم يتردد في التهجم على ماكرون شخصياً، واتهامه بأنه يعاني «شخصياً» من «موت سريري»، وأنه «يفتقر للخبرة والنضوج»، مما يراكم المشكلات بين باريس وأنقره. كذلك فإن ماكرون لم ينجح في تلطيف علاقته بالرئيس ترمب الذي عد حديثه عن الحلف الأطلسي «مهيناً وبالغ السوء بالنسبة للشركاء الـ28» الآخرين. ووعد ترمب بـ«معاقبة» نظيره الفرنسي، بل ذهب إلى اعتبار أن باريس هي «الأحوج» لوجود الحلف من غيرها من الأعضاء الآخرين. ولم يتراجع ترمب عن فرض الرسوم الإضافية على مجموعة من السلع الفرنسية المصدرة إلى بلاده، رداً على فرض باريس ضرائب على الشركات الرقمية الأميركية «غوغل، وفيسبوك، وأمازون». وفي أي حال، فبين ترمب وماكرون خلاف على تمويل الحلف، إذ إن الأول ما زال يردد أنه يتعين على الأوروبيين «وكندا كذلك» تحمل أعبائهم المالية، وأن يخصصوا 2 في المائة من ناتجهم الداخلي الخام للحلف، وهو هدف ما زال بعيد التحقيق.
يبقى أن دعوة ماكرون لدفاع أوروبي و«استقلالية استراتيجية» أوروبية لا تلقى الصدى الإيجابي، خصوصاً في بلدان شرق أوروبا وبحر البلطيق التي خرجت، مع انهيار الاتحاد السوفياتي، من العباءة الروسية، ولا تريد مقايضة المظلة الأميركية الدفاعية والنووية بمظلة أوروبية غير موجودة.
هكذا، يجد الرئيس الفرنسي نفسه كأنه يغرد خارج السرب الأطلسي في كثير من النقاط الخلافية. وثمة من يرى أن دعوته للانفتاح على روسيا، والعودة إلى فتح الحوار معها، مبادرة منفردة لا توافق عليها دول مثل بولندا أو دول البلطيق الثلاث التي تطالب، بدل ذلك، بمزيد من الحضور العسكري الأميركي على أراضيها كي يكون بمثابة «الرادع» لروسيا من أن تكرر معها السيناريو الأوكراني الذي أفضى إلى ضم شبه جزيرة القرم لروسيا، وأشعل حرباً شرق أوكرانيا مع الانفصاليين المطالبين بإدارة ذاتية والتقارب مع روسيا. ورغم ذلك كله، فإن ماكرون يعد أن ما طرحه من أفكار على بساط البحث لم يذهب هباء.



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».