«الناتو»: سيدة عجوز تستعيد شبابها

أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
TT

«الناتو»: سيدة عجوز تستعيد شبابها

أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)

«ولى عهده» و«توقف دماغه عن العمل» و«أصبح من دون فائدة»، هكذا وصف الرؤساء الأميركي دونالد ترمب والفرنسي إيمانويل ماكرون والتركي رجب طيب إردوغان منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأسبوع الماضي، أثناء الاحتفال بالذكرى الـ70 لتأسيس الحلف خلال اجتماع قمة عقد في واتفورد، قرب لندن.ة
وبالنظر إلى هذه التصريحات، توقع بعض المراقبين أن الناتو، الذي يعرف داخل الدوائر السياسية باسم «السيدة العجوز»، سيحال إلى التقاعد قريباً. ومع هذا، تحولت القمة إلى محاولات تودد حماسية بجانب تقديم هدايا سخية إلى «السيدة العجوز»، كان بينها ضخ 150 مليار دولار كتمويلات جديدة في نفقات الدفاع من جانب جميع الدول الـ29 تقريباً.
وكان هناك اتفاق بالإجماع حول ضرورة بذل جهود جديدة من جانب الدول الأعضاء من أجل تخصيص 2 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي لها كحد أدنى إلى الدفاع. جدير بالذكر أنه في الوقت الحالي، تلتزم بهذا الهدف ثلاث دول أعضاء فقط: الولايات المتحدة وبريطانيا واليونان.
ورغم شهور من التوقعات فيما يخص تقليص عدد القوات الأميركية في أوروبا، أشارت القمة إلى أن أعداد القوات الأميركية بالقارة العجوز ارتفع بمقدار 14.000 في أكبر زيادة منذ عام 2000. كما كان هناك اتفاق على عقد مشاورات كبرى حول إعادة تعريف أهداف الحلف واستراتيجيته. وربما يتضمن ذلك المشاركة المباشرة في القتال ضد أو على الأقل احتواء «الدول الراعية للإرهاب الدولي»، الأمر الذي أثاره الرئيس إردوغان بحماس. جدير بالذكر أن البند الخامس من معاهدة الحلف تلزم جميع الأعضاء بالعمل المشترك إذا، وعندما، تتعرض دولة عضو لهجوم. وكانت المرة الوحيدة التي جرى خلالها تفعيل هذا البند عندما سقطت الولايات المتحدة ضحية لهجمات 11 سبتمبر التي استهدفت نيويورك وواشنطن، ما دفع جميع الدول الأعضاء للوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في العملية التي أنهت حكم «الإمارة الإسلامية» التي أقامها تنظيم «طالبان» في أفغانستان. ومن شأن إلزام التحالف بمحاربة «الجماعات والدول الإرهابية» إعطاء الناتو مهمة جديدة تتجاوز الهدف المحدد له منذ فترة الحرب الباردة والمتعلق بالدفاع عن أوروبا الغربية في مواجهة أي عدوان سوفياتي محتمل.
يصر معظم المؤرخين على أن الناتو نجح في الحفاظ على السلام داخل أوروبا وأسهم في الاندحار الأخير للاتحاد السوفياتي السابق. ومع هذا، ثمة أدلة ظهرت بعد نهاية الحرب الباردة تكشف أنه حتى رغم ما حملوه بداخلهم من أطماع توسعية، فإن السوفيات افتقروا إلى الموارد العسكرية والاقتصادية اللازمة لشن غزو ضد أوروبا.
يذكر أن الاتحاد السوفياتي حول شرق ووسط أوروبا إلى دول تدور في فلكه داخل إطار عمل من الاتفاقات التي جرى التوصل إليها مع الولايات المتحدة وبريطانيا في يالطا وبوتسدام. وفي المناطق التي لم تنطبق عليها هذه الاتفاقات، مثل إيران واليونان، انسحبت القوات السوفياتية دون إجبارها على ذلك من جانب جيش غربي. وداخل أوروبا، لم تحاول موسكو السيطرة مباشرة على دول لم ترد باتفاقي يالطا وبوتسدام حتى عندما كانت تحكم هذه الدول أنظمة شيوعية مثلما كان الحال في رومانيا ويوغوسلافيا.
ولم يضطلع الناتو بأي دور في كثير من الحروب التي شنتها دول أعضاء بمفردها، كان أبرزها الحروب الفرنسية الاستعمارية في الهند الصينية والجزائر، والعمليات البريطانية ضد التمرد في المالايا وعدن والغزو الفرنسي - البريطاني - الإسرائيلي لمصر في حرب السويس. في الواقع، فيما يخص الحرب في الجزائر وعملية السويس، عارضت الولايات المتحدة علانية جميع أعضاء الناتو المشاركين فيها.
على النقيض، نجد أن الولايات المتحدة اضطرت إلى تكوين تحالفات بديلة لخوض حروب في شبه الجزيرة الكورية والهند الصينية، وفي وقت لاحق في غرانادا والكويت والعراق. من جانبهم، خاض البريطانيون حرب جزر فوكلاندز ضد الأرجنتين دون دعم من الناتو. وفي وقت قريب، لعب الناتو دوراً داعماً في البلقان أدى إلى تفكك يوغوسلافيا. ومع هذا، لم يكن بمقدور أحد الحديث عن الوقوف بوجه المعتدي الروسي الذي توصل لاتفاق تعاون مبهم مع التحالف بقيادة الولايات المتحدة وانضم للناتو في بعض العمليات.
أيضاً، غاب الناتو عن حروب الوكالة التي جرت بين اليونان وتركيا، وكلتاهما عضوان في الحلف، حول قبرص عام 1974. خلال العقد الحالي، ظهر خطاب جديد يدور حول «النوايا العدوانية» لروسيا ويرمي في جزء منه لتبرير استمرار الناتو رغم اختفاء الكتلة السوفياتية المكافئة المتمثلة في حلف وارسو. وجرت الإشارة إلى الغزو الروسي لجورجيا وضم أوستيا الجنوبية وشبه جزيرة القرم، ومن بعد ذلك بناء جيب يخضع لسيطرة روسيا في شرق أوكرانيا باعتبارها أسباباً لاستمرار الناتو، بل وازدياده قوة، رغم أن الدفاع عن جورجيا وأوكرانيا لم يكن قط من مهامه. وإذا كان الناتو لم يخض أي حرب وليس بمقدوره خوض حرب أقل من مستوى حرب عالمية ثالثة، فما سبب وجوده ومبرر توفير الموارد المتاحة لديه؟
تتمثل الإجابة في أن الناتو قائم لإقناع المعتدين المحتملين بأنه ليس بمقدورهم أبدا الخروج منتصرين من أي حرب كبرى أمام الحلف، وبالتالي من الأفضل لهم الحفاظ على السلام. وفيما يخص هذه المهمة الكبرى، حقق الناتو نجاحاً باهراً. إلا أن الأمر لا يقتصر على ذلك، وإنما عاون الناتو في إسراع وتيرة عملية التحول إلى الديمقراطية داخل كثير من الدول الأوروبية، وخروج ألمانيا الفيدرالية وإيطاليا من الحكم النازي والفاشي ومعاونة إسبانيا والبرتغال واليونان على التخلص من عقود من الأنظمة الاستبدادية العسكرية، ناهيك من تخلص دول أوروبية من الهيمنة السوفياتية. وأبقت عضوية الناتو المؤسسة العسكرية التركية تحت السيطرة وحالت دون قضاء الجنرالات على آخر جذوة للديمقراطية في هذا البلد. ورغم ذلك، ما من شك في أن التحالف بحاجة لإعادة تعريف. من جانبه، حاول الرئيس جورج دبليو. بوش «فعل شيء» من خلال إقدامه على خطوات ترمي لتوسيع نطاق الحلف عبر ضم أعضاء جدد وأعضاء منتسبين مثل جورجيا وطاجكستان وقريغزستان وأوزبكستان وذلك قرب نهاية فترة رئاسته. في المقابل، فإنه بسبب عدائه الآيديولوجي للحلف، حاول الرئيس باراك أوباما الذي خلف بوش، تقليص نفوذ الحلف عبر خفض الميزانية المخصصة له وتحويل الانتباه إلى ما وصفه باستراتيجية «محور آسيا»
ودفعت سياسات أوباما بعض الدوائر الأوروبية لإطلاق نقاشات حول بناء آلة عسكرية أوروبية مستقلة عن الناتو. وكان أنصار فكر ديغول في فرنسا أكثر المتحمسين لهذا الأمر. جدير بالذكر أنه في ظل قيادة الرئيس شارل ديغول انسحبت فرنسا من الجانب العسكري للناتو وأغلقت قواعد الحلف على الأراضي الفرنسية. واستأنفت فرنسا العضوية الكاملة في الحلف تحت قيادة الرئيس جاك شيراك. ويعتبر اتحاد الدفاع الأوروبي الذي يعتبر في جوهره شراكة فرنسية - ألمانية، الثمرة الأولى لهذه النقاشات. والأهم من ذلك، أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرة «أمن أوروبا وهويتها الدفاعية» كإطار عمل لبناء تحالف عسكري كامل من جميع الدول الـ27 الأعضاء (ما عدا بريطانيا).
وربما يسعى الناتو لإعادة تعريف دوره المستقبلي عبر سبل أربع: أولاً: إحياء عقيدة نيكسون، بمعنى تكوين تحالفات إقليمية ملتزمة بحماية النظام العالمي، ربما كوسيلة فاعلة للتعامل مع التهديدات المحلية على أساس جزئي. وتوجد مثل هذه التحالفات في بعض الأماكن، خاصة منطقة الدول الآسيوية المطلة على المحيط الهادي مع أستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية. وبناء هيكل مشابه بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تعتبر اليوم الجزء الأكثر افتقاراً إلى الاستقرار على مستوى العالم، ربما يشكل تحدياً كبيراً يستحق خوضه.
ثانياً: من المقرر توجيه مزيد من الموارد إلى تطوير قدرات قتالية بالحروب يجري التحكم فيها عن بعد. وفي ظل تقليص أو إغلاق بعض القواعد التقليدية، وأبرزها أنجرليك، يجري اليوم بناء قواعد أخرى أصغر، لكنها أكثر تطوراً وتعقيداً، منها اثنتان في ألبانيا.
ثالثاً: الاستعداد للحروب السيبرانية، بما في ذلك ما يطلق عليها حروب العصابات والتي بدأت تحظى باهتمام أكبر. وبالفعل يجري تشكيل وإدارة وحدات خاصة، أبرزها في ليتوانيا ويجري التخطيط لبناء مزيد من نقاط التنسيق.
رابعاً: بناء وتدريب ونشر وحدات متحركة لمكافحة الإرهاب الدولي ورعاته دون الحاجة للالتزام بقوات نظامية. وبالفعل، تختبر الولايات المتحدة فكرة استبدال بالوحدات القتالية العادية في سوريا أخرى أصغر، لكن أكثر فاعلية ومدربة على مواجهة الإرهاب.
وأخيراً، هناك مثل إنجليزي يقول: السيدة العجوز لا تموت أبداً. إلا أنه في حالة الناتو، يبدو أنها لا تبقى فحسب، وإنما تستعيد شبابها وما تزال قادرة على اجتذاب 29 خاطبا.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».