«الناتو»: سيدة عجوز تستعيد شبابها

أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
TT

«الناتو»: سيدة عجوز تستعيد شبابها

أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)
أعلام أعضاء حلف الناتو أمام مقره الرئيسي في بروكسل (رويترز)

«ولى عهده» و«توقف دماغه عن العمل» و«أصبح من دون فائدة»، هكذا وصف الرؤساء الأميركي دونالد ترمب والفرنسي إيمانويل ماكرون والتركي رجب طيب إردوغان منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأسبوع الماضي، أثناء الاحتفال بالذكرى الـ70 لتأسيس الحلف خلال اجتماع قمة عقد في واتفورد، قرب لندن.ة
وبالنظر إلى هذه التصريحات، توقع بعض المراقبين أن الناتو، الذي يعرف داخل الدوائر السياسية باسم «السيدة العجوز»، سيحال إلى التقاعد قريباً. ومع هذا، تحولت القمة إلى محاولات تودد حماسية بجانب تقديم هدايا سخية إلى «السيدة العجوز»، كان بينها ضخ 150 مليار دولار كتمويلات جديدة في نفقات الدفاع من جانب جميع الدول الـ29 تقريباً.
وكان هناك اتفاق بالإجماع حول ضرورة بذل جهود جديدة من جانب الدول الأعضاء من أجل تخصيص 2 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي لها كحد أدنى إلى الدفاع. جدير بالذكر أنه في الوقت الحالي، تلتزم بهذا الهدف ثلاث دول أعضاء فقط: الولايات المتحدة وبريطانيا واليونان.
ورغم شهور من التوقعات فيما يخص تقليص عدد القوات الأميركية في أوروبا، أشارت القمة إلى أن أعداد القوات الأميركية بالقارة العجوز ارتفع بمقدار 14.000 في أكبر زيادة منذ عام 2000. كما كان هناك اتفاق على عقد مشاورات كبرى حول إعادة تعريف أهداف الحلف واستراتيجيته. وربما يتضمن ذلك المشاركة المباشرة في القتال ضد أو على الأقل احتواء «الدول الراعية للإرهاب الدولي»، الأمر الذي أثاره الرئيس إردوغان بحماس. جدير بالذكر أن البند الخامس من معاهدة الحلف تلزم جميع الأعضاء بالعمل المشترك إذا، وعندما، تتعرض دولة عضو لهجوم. وكانت المرة الوحيدة التي جرى خلالها تفعيل هذا البند عندما سقطت الولايات المتحدة ضحية لهجمات 11 سبتمبر التي استهدفت نيويورك وواشنطن، ما دفع جميع الدول الأعضاء للوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في العملية التي أنهت حكم «الإمارة الإسلامية» التي أقامها تنظيم «طالبان» في أفغانستان. ومن شأن إلزام التحالف بمحاربة «الجماعات والدول الإرهابية» إعطاء الناتو مهمة جديدة تتجاوز الهدف المحدد له منذ فترة الحرب الباردة والمتعلق بالدفاع عن أوروبا الغربية في مواجهة أي عدوان سوفياتي محتمل.
يصر معظم المؤرخين على أن الناتو نجح في الحفاظ على السلام داخل أوروبا وأسهم في الاندحار الأخير للاتحاد السوفياتي السابق. ومع هذا، ثمة أدلة ظهرت بعد نهاية الحرب الباردة تكشف أنه حتى رغم ما حملوه بداخلهم من أطماع توسعية، فإن السوفيات افتقروا إلى الموارد العسكرية والاقتصادية اللازمة لشن غزو ضد أوروبا.
يذكر أن الاتحاد السوفياتي حول شرق ووسط أوروبا إلى دول تدور في فلكه داخل إطار عمل من الاتفاقات التي جرى التوصل إليها مع الولايات المتحدة وبريطانيا في يالطا وبوتسدام. وفي المناطق التي لم تنطبق عليها هذه الاتفاقات، مثل إيران واليونان، انسحبت القوات السوفياتية دون إجبارها على ذلك من جانب جيش غربي. وداخل أوروبا، لم تحاول موسكو السيطرة مباشرة على دول لم ترد باتفاقي يالطا وبوتسدام حتى عندما كانت تحكم هذه الدول أنظمة شيوعية مثلما كان الحال في رومانيا ويوغوسلافيا.
ولم يضطلع الناتو بأي دور في كثير من الحروب التي شنتها دول أعضاء بمفردها، كان أبرزها الحروب الفرنسية الاستعمارية في الهند الصينية والجزائر، والعمليات البريطانية ضد التمرد في المالايا وعدن والغزو الفرنسي - البريطاني - الإسرائيلي لمصر في حرب السويس. في الواقع، فيما يخص الحرب في الجزائر وعملية السويس، عارضت الولايات المتحدة علانية جميع أعضاء الناتو المشاركين فيها.
على النقيض، نجد أن الولايات المتحدة اضطرت إلى تكوين تحالفات بديلة لخوض حروب في شبه الجزيرة الكورية والهند الصينية، وفي وقت لاحق في غرانادا والكويت والعراق. من جانبهم، خاض البريطانيون حرب جزر فوكلاندز ضد الأرجنتين دون دعم من الناتو. وفي وقت قريب، لعب الناتو دوراً داعماً في البلقان أدى إلى تفكك يوغوسلافيا. ومع هذا، لم يكن بمقدور أحد الحديث عن الوقوف بوجه المعتدي الروسي الذي توصل لاتفاق تعاون مبهم مع التحالف بقيادة الولايات المتحدة وانضم للناتو في بعض العمليات.
أيضاً، غاب الناتو عن حروب الوكالة التي جرت بين اليونان وتركيا، وكلتاهما عضوان في الحلف، حول قبرص عام 1974. خلال العقد الحالي، ظهر خطاب جديد يدور حول «النوايا العدوانية» لروسيا ويرمي في جزء منه لتبرير استمرار الناتو رغم اختفاء الكتلة السوفياتية المكافئة المتمثلة في حلف وارسو. وجرت الإشارة إلى الغزو الروسي لجورجيا وضم أوستيا الجنوبية وشبه جزيرة القرم، ومن بعد ذلك بناء جيب يخضع لسيطرة روسيا في شرق أوكرانيا باعتبارها أسباباً لاستمرار الناتو، بل وازدياده قوة، رغم أن الدفاع عن جورجيا وأوكرانيا لم يكن قط من مهامه. وإذا كان الناتو لم يخض أي حرب وليس بمقدوره خوض حرب أقل من مستوى حرب عالمية ثالثة، فما سبب وجوده ومبرر توفير الموارد المتاحة لديه؟
تتمثل الإجابة في أن الناتو قائم لإقناع المعتدين المحتملين بأنه ليس بمقدورهم أبدا الخروج منتصرين من أي حرب كبرى أمام الحلف، وبالتالي من الأفضل لهم الحفاظ على السلام. وفيما يخص هذه المهمة الكبرى، حقق الناتو نجاحاً باهراً. إلا أن الأمر لا يقتصر على ذلك، وإنما عاون الناتو في إسراع وتيرة عملية التحول إلى الديمقراطية داخل كثير من الدول الأوروبية، وخروج ألمانيا الفيدرالية وإيطاليا من الحكم النازي والفاشي ومعاونة إسبانيا والبرتغال واليونان على التخلص من عقود من الأنظمة الاستبدادية العسكرية، ناهيك من تخلص دول أوروبية من الهيمنة السوفياتية. وأبقت عضوية الناتو المؤسسة العسكرية التركية تحت السيطرة وحالت دون قضاء الجنرالات على آخر جذوة للديمقراطية في هذا البلد. ورغم ذلك، ما من شك في أن التحالف بحاجة لإعادة تعريف. من جانبه، حاول الرئيس جورج دبليو. بوش «فعل شيء» من خلال إقدامه على خطوات ترمي لتوسيع نطاق الحلف عبر ضم أعضاء جدد وأعضاء منتسبين مثل جورجيا وطاجكستان وقريغزستان وأوزبكستان وذلك قرب نهاية فترة رئاسته. في المقابل، فإنه بسبب عدائه الآيديولوجي للحلف، حاول الرئيس باراك أوباما الذي خلف بوش، تقليص نفوذ الحلف عبر خفض الميزانية المخصصة له وتحويل الانتباه إلى ما وصفه باستراتيجية «محور آسيا»
ودفعت سياسات أوباما بعض الدوائر الأوروبية لإطلاق نقاشات حول بناء آلة عسكرية أوروبية مستقلة عن الناتو. وكان أنصار فكر ديغول في فرنسا أكثر المتحمسين لهذا الأمر. جدير بالذكر أنه في ظل قيادة الرئيس شارل ديغول انسحبت فرنسا من الجانب العسكري للناتو وأغلقت قواعد الحلف على الأراضي الفرنسية. واستأنفت فرنسا العضوية الكاملة في الحلف تحت قيادة الرئيس جاك شيراك. ويعتبر اتحاد الدفاع الأوروبي الذي يعتبر في جوهره شراكة فرنسية - ألمانية، الثمرة الأولى لهذه النقاشات. والأهم من ذلك، أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرة «أمن أوروبا وهويتها الدفاعية» كإطار عمل لبناء تحالف عسكري كامل من جميع الدول الـ27 الأعضاء (ما عدا بريطانيا).
وربما يسعى الناتو لإعادة تعريف دوره المستقبلي عبر سبل أربع: أولاً: إحياء عقيدة نيكسون، بمعنى تكوين تحالفات إقليمية ملتزمة بحماية النظام العالمي، ربما كوسيلة فاعلة للتعامل مع التهديدات المحلية على أساس جزئي. وتوجد مثل هذه التحالفات في بعض الأماكن، خاصة منطقة الدول الآسيوية المطلة على المحيط الهادي مع أستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية. وبناء هيكل مشابه بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تعتبر اليوم الجزء الأكثر افتقاراً إلى الاستقرار على مستوى العالم، ربما يشكل تحدياً كبيراً يستحق خوضه.
ثانياً: من المقرر توجيه مزيد من الموارد إلى تطوير قدرات قتالية بالحروب يجري التحكم فيها عن بعد. وفي ظل تقليص أو إغلاق بعض القواعد التقليدية، وأبرزها أنجرليك، يجري اليوم بناء قواعد أخرى أصغر، لكنها أكثر تطوراً وتعقيداً، منها اثنتان في ألبانيا.
ثالثاً: الاستعداد للحروب السيبرانية، بما في ذلك ما يطلق عليها حروب العصابات والتي بدأت تحظى باهتمام أكبر. وبالفعل يجري تشكيل وإدارة وحدات خاصة، أبرزها في ليتوانيا ويجري التخطيط لبناء مزيد من نقاط التنسيق.
رابعاً: بناء وتدريب ونشر وحدات متحركة لمكافحة الإرهاب الدولي ورعاته دون الحاجة للالتزام بقوات نظامية. وبالفعل، تختبر الولايات المتحدة فكرة استبدال بالوحدات القتالية العادية في سوريا أخرى أصغر، لكن أكثر فاعلية ومدربة على مواجهة الإرهاب.
وأخيراً، هناك مثل إنجليزي يقول: السيدة العجوز لا تموت أبداً. إلا أنه في حالة الناتو، يبدو أنها لا تبقى فحسب، وإنما تستعيد شبابها وما تزال قادرة على اجتذاب 29 خاطبا.



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.