لا مستقبل للناتو من دون موسكو

لا مستقبل للناتو من دون موسكو
TT

لا مستقبل للناتو من دون موسكو

لا مستقبل للناتو من دون موسكو

أثبتت قمة الناتو التي جرت في 3 و4 من هذا الشهر في بريطانيا أن أحد العوامل التي تساهم في الحفاظ على وحدة صفوف هذا الحلف هي روسيا. تنظر هذه المنظمة إلى موسكو كـ«تهديد للأمن الأوروبي - الأطلسي»، وذلك وفقاً للبيان الختامي. ولكن تشير تصريحات بعض الدول من أعضاء الناتو حول روسيا وأيضاً الأحداث ما قبل القمة إلى خلافات عميقة داخل الحلف.
قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتصريح المخلص للغاية قبل القمة عندما وصف الناتو بأنه في حالة «موت دماغي»، مشيراً إلى عدم وجود تنسيق بين أعضاء الناتو. لم يوافق معه الأمين العام للحلف الشمالي الأطلسي ينس ستولتنبرغ وقادة بعض الدول، وهاجمه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وقال لماكرون: «توجه بنفسك إلى طبيب لفحص حالة الموت السريري لديك قبل كل شيء».
ولا يقتصر الأمر على التصريحات والاتهامات فقط. هناك أيضاً نقاط الخلاف بين دول الناتو. وما يلفت النظر هو أن من أثار أكثرية هذه الخلافات هي الولايات المتحدة، أي الدولة التي تترأس حلف شمال الأطلسي، ومن المفترض أن تقوم بإطفاء التناقضات.
طبعاً قبل كل شيء هناك خلافات عميقة بين أميركا وتركيا في اﻵونة الأخيرة، وهناك كثير من المشاكل بينهما. لا ننسى أن واشنطن تقدم الدعم العسكري والسياسي لأكراد سوريا، وهذا خط أحمر بالنسبة لتركيا التي ردت على ذلك مؤخراً بالعملية العسكرية «نبع السلام» ضد مقاتلي «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد). ومن جديد استعملت الولايات المتحدة ضد أنقرة لغة العقوبات وحتى هددت بتدمير الاقتصاد التركي. أكثر من ذلك، بدأ النقاش في الولايات المتحدة حول احتمال استثناء تركيا من الناتو. وقد تدعم ذلك وفقاً لاستطلاعات الرأي بعض الدول الأوروبية. فقد أجرت شركة YouGov الاستطلاع في ألمانيا الذي أشار إلى أن 58 في المائة من مواطنيها يؤيدون طرد أنقرة من الناتو. وجدير بالذكر أيضاً مسألة تسليم منظومة إس - 400 الروسية لتركيا. وهذا ما أدى إلى توتر إضافي ليس فقط في العلاقات الأميركية التركية بل أيضاً في صفوف الناتو. واﻵن هناك أصوات متزايدة داخل الحلف للرد على تصرفات أنقرة.
ولكن ليست تركيا هي الوحيدة التي تحصد التداعيات السلبية للسياسة الأميركية على الساحة العالمية. انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران أدى ليس فقط إلى التوتر الحالي في الخليج، بل إلى رد حاد من قبل بعض الدول الأوروبية. وهذا لأسباب مفهومة. فقد حطم الرئيس الأميركي دونالد ترمب في لحظة واحدة الجهود التي بذلتها خلال 10 سنوات، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، بالتعاون مع روسيا والصين.
يمكن القول الشيء نفسه عن الانسحاب الأميركي من معاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى. شعرت الدول الأوروبية بالأمن والأمان قبل هذه الخطوة، والآن على ما يبدو ستجبر واشنطن بعض هذه الدول على نشر صواريخ من هذا النوع على أراضيها، وقد أبلغت روسيا أنها سترد على هذه الإجراءات بالخطوات نفسها، لذلك تقع المسؤولية جميعها على واشنطن بهذا التطور الخطير. والسؤال يطرح نفسه: أليس من الأفضل أن تكون لدى الدول الأوروبية السياسة المستقلة والقرارات السيادية بدلاً من تلقي الأوامر من قائد الناتو؟ خاصة أن للتعاون الأوروبي - الأميركي تداعيات سلبية، ليس فقط في المجال الأمني بل أيضاً الاقتصادي والتجاري، مثلاً حول «السيل الشمالي - 2». ومن المعروف أن واشنطن تحاول عرقلة دخول هذا المشروع حيز التنفيذ، بغض النظر عن أن أنابيب الغاز هذه ستساهم في تأمين الدول الأوروبية في مجال الطاقة. مثال آخر هو التناقضات بين الولايات المتحدة وفرنسا حول الشركات الإلكترونية الأميركية. باريس تود أن تفرض ضرائب عليها وواشنطن تهدد برفع التعريفات الجمركية على بضائع فرنسية.
وعلى ما يبدو أصبح الناتو بالنسبة للولايات المتحدة قبل كل شيء مشروعاً مدراً للأموال، وليس حلفاً لمواجهة التحديات المشتركة. هذا الاستنتاج واضح في ضوء الطلبات الأميركية المستمرة والمتكررة لترفع الدول الأعضاء في الناتو إنفاقها الدفاعي بنسبة 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وبطبيعة الحال فإن المستفيد الرئيسي من ذلك هي الشركات الأميركية المنتجة للأسلحة. وهنا من جديد يتصرف دونالد ترمب كرجل أعمال وليس كسياسي، ويدرك ذلك أعضاء الناتو الآخرون.
ولكن هناك أيضاً الخلافات بين الدول المتحالفة الأخرى. وقعت تركيا مذكرتي تفاهم أمني وبحري مع حكومة الوفاق في طرابلس، وهذا قبل أيام فقط من قمة الناتو، وأدى ذلك إلى رد متشدد من قبل اليونان، وأيضاً مصر وقبرص، وطلبت أثينا نص الاتفاق حول التعاون التركي - الليبي في البحر، وبعدما لم تحصل عليها طردت اليونان السفير الليبي، وقام الاتحاد الأوروبي بالطلبات نفسها، والآن يدرس خيارات رد فعل على تركيا.
وتشير كل هذه الخلافات داخل حلف شمال الأطلسي إلى أن الدول المتحالفة لا تريد تلبية الأوامر الأميركية دون تحفظات كما لبتها في أيام الحرب الباردة. لديها المصالح الوطنية. وتتناقض تلك المصالح مع المصالح الأميركية ومصالح دول الأخرى. طبعاً هذا لا يعني أن الناتو على وشك الانهيار أو سيتفكك في المستقبل القريب. هذا السيناريو وارد فقط في حال التغيرات الجذرية على الساحة العالمية المشابهة لانهيار الاتحاد السوفياتي ومعاهدة وارسو، ولكن سيتحول الناتو بالنسبة لأعضائه إلى الرمال المتحركة أكثر وأكثر؛ أي لا تفيد العضوية في هذا الحلف ولا يمكن الخروج منه.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، الناتو لا يزال منظمة قوية. والدليل على ذلك، الدور الذي لعبه الحلف في ليبيا في عام 2011، وهي تعاني من تداعيات هذا التدخل حتى اﻵن ولا يستطيع المجتمع الدولي أن يعالج الأوضاع هناك. أكثر من ذلك الناتو يتوسع، ومن المفترض أنه سيضم مقدونيا الشمالية في المستقبل، وأيضاً هناك نوايا لضم جورجيا وأوكرانيا إلى صفوفه، وأكد ذلك ينس ستولتنبرغ خلال القمة، وهذا هو خط أحمر بالنسبة لروسيا، التي لن تكون صامتة في حال تنفيذ هذه الخطط. وبشكل عام توسيع الناتو واقترابه من حدودها يقلق موسكو للغاية، ويجبر القيادة الروسية على أن ترد على هذه الخطوات.
واللافت للنظر أن بعض الدول لا تعتبر روسيا عدواً لحلف شمال الأطلسي، بل تسميها شريكاً. هذا ما أشار إليه إيمانويل ماكرون خلال القمة، ورفض أيضاً الرئيس البولندي أندجي دودا أن يسمي روسيا عدواً. ولكن عندما تحتاج الدول المتحالفة إلى شريك فهي تحتاج أيضاً إلى عدو، وهذا الشرط الرئيسي لمن يريد أن يحافظ على صفوفه ووحدته، ولكن ليس العدو الضعيف الذي يمكن أن يدمره الناتو خلال بعض الأسابيع بل العدو الصامد والقوي. ويمكن أن تلعب هذا الدور روسيا فقط، ولهذا السبب تستمر الموجة الإعلامية لشيطنة موسكو، كما تستمر الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية عليها، والكل يدرك أنه من دون موسكو لا مستقبل للناتو.
* كاتب روسي



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.