لا مستقبل للناتو من دون موسكو

لا مستقبل للناتو من دون موسكو
TT

لا مستقبل للناتو من دون موسكو

لا مستقبل للناتو من دون موسكو

أثبتت قمة الناتو التي جرت في 3 و4 من هذا الشهر في بريطانيا أن أحد العوامل التي تساهم في الحفاظ على وحدة صفوف هذا الحلف هي روسيا. تنظر هذه المنظمة إلى موسكو كـ«تهديد للأمن الأوروبي - الأطلسي»، وذلك وفقاً للبيان الختامي. ولكن تشير تصريحات بعض الدول من أعضاء الناتو حول روسيا وأيضاً الأحداث ما قبل القمة إلى خلافات عميقة داخل الحلف.
قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتصريح المخلص للغاية قبل القمة عندما وصف الناتو بأنه في حالة «موت دماغي»، مشيراً إلى عدم وجود تنسيق بين أعضاء الناتو. لم يوافق معه الأمين العام للحلف الشمالي الأطلسي ينس ستولتنبرغ وقادة بعض الدول، وهاجمه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وقال لماكرون: «توجه بنفسك إلى طبيب لفحص حالة الموت السريري لديك قبل كل شيء».
ولا يقتصر الأمر على التصريحات والاتهامات فقط. هناك أيضاً نقاط الخلاف بين دول الناتو. وما يلفت النظر هو أن من أثار أكثرية هذه الخلافات هي الولايات المتحدة، أي الدولة التي تترأس حلف شمال الأطلسي، ومن المفترض أن تقوم بإطفاء التناقضات.
طبعاً قبل كل شيء هناك خلافات عميقة بين أميركا وتركيا في اﻵونة الأخيرة، وهناك كثير من المشاكل بينهما. لا ننسى أن واشنطن تقدم الدعم العسكري والسياسي لأكراد سوريا، وهذا خط أحمر بالنسبة لتركيا التي ردت على ذلك مؤخراً بالعملية العسكرية «نبع السلام» ضد مقاتلي «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد). ومن جديد استعملت الولايات المتحدة ضد أنقرة لغة العقوبات وحتى هددت بتدمير الاقتصاد التركي. أكثر من ذلك، بدأ النقاش في الولايات المتحدة حول احتمال استثناء تركيا من الناتو. وقد تدعم ذلك وفقاً لاستطلاعات الرأي بعض الدول الأوروبية. فقد أجرت شركة YouGov الاستطلاع في ألمانيا الذي أشار إلى أن 58 في المائة من مواطنيها يؤيدون طرد أنقرة من الناتو. وجدير بالذكر أيضاً مسألة تسليم منظومة إس - 400 الروسية لتركيا. وهذا ما أدى إلى توتر إضافي ليس فقط في العلاقات الأميركية التركية بل أيضاً في صفوف الناتو. واﻵن هناك أصوات متزايدة داخل الحلف للرد على تصرفات أنقرة.
ولكن ليست تركيا هي الوحيدة التي تحصد التداعيات السلبية للسياسة الأميركية على الساحة العالمية. انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران أدى ليس فقط إلى التوتر الحالي في الخليج، بل إلى رد حاد من قبل بعض الدول الأوروبية. وهذا لأسباب مفهومة. فقد حطم الرئيس الأميركي دونالد ترمب في لحظة واحدة الجهود التي بذلتها خلال 10 سنوات، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، بالتعاون مع روسيا والصين.
يمكن القول الشيء نفسه عن الانسحاب الأميركي من معاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى. شعرت الدول الأوروبية بالأمن والأمان قبل هذه الخطوة، والآن على ما يبدو ستجبر واشنطن بعض هذه الدول على نشر صواريخ من هذا النوع على أراضيها، وقد أبلغت روسيا أنها سترد على هذه الإجراءات بالخطوات نفسها، لذلك تقع المسؤولية جميعها على واشنطن بهذا التطور الخطير. والسؤال يطرح نفسه: أليس من الأفضل أن تكون لدى الدول الأوروبية السياسة المستقلة والقرارات السيادية بدلاً من تلقي الأوامر من قائد الناتو؟ خاصة أن للتعاون الأوروبي - الأميركي تداعيات سلبية، ليس فقط في المجال الأمني بل أيضاً الاقتصادي والتجاري، مثلاً حول «السيل الشمالي - 2». ومن المعروف أن واشنطن تحاول عرقلة دخول هذا المشروع حيز التنفيذ، بغض النظر عن أن أنابيب الغاز هذه ستساهم في تأمين الدول الأوروبية في مجال الطاقة. مثال آخر هو التناقضات بين الولايات المتحدة وفرنسا حول الشركات الإلكترونية الأميركية. باريس تود أن تفرض ضرائب عليها وواشنطن تهدد برفع التعريفات الجمركية على بضائع فرنسية.
وعلى ما يبدو أصبح الناتو بالنسبة للولايات المتحدة قبل كل شيء مشروعاً مدراً للأموال، وليس حلفاً لمواجهة التحديات المشتركة. هذا الاستنتاج واضح في ضوء الطلبات الأميركية المستمرة والمتكررة لترفع الدول الأعضاء في الناتو إنفاقها الدفاعي بنسبة 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وبطبيعة الحال فإن المستفيد الرئيسي من ذلك هي الشركات الأميركية المنتجة للأسلحة. وهنا من جديد يتصرف دونالد ترمب كرجل أعمال وليس كسياسي، ويدرك ذلك أعضاء الناتو الآخرون.
ولكن هناك أيضاً الخلافات بين الدول المتحالفة الأخرى. وقعت تركيا مذكرتي تفاهم أمني وبحري مع حكومة الوفاق في طرابلس، وهذا قبل أيام فقط من قمة الناتو، وأدى ذلك إلى رد متشدد من قبل اليونان، وأيضاً مصر وقبرص، وطلبت أثينا نص الاتفاق حول التعاون التركي - الليبي في البحر، وبعدما لم تحصل عليها طردت اليونان السفير الليبي، وقام الاتحاد الأوروبي بالطلبات نفسها، والآن يدرس خيارات رد فعل على تركيا.
وتشير كل هذه الخلافات داخل حلف شمال الأطلسي إلى أن الدول المتحالفة لا تريد تلبية الأوامر الأميركية دون تحفظات كما لبتها في أيام الحرب الباردة. لديها المصالح الوطنية. وتتناقض تلك المصالح مع المصالح الأميركية ومصالح دول الأخرى. طبعاً هذا لا يعني أن الناتو على وشك الانهيار أو سيتفكك في المستقبل القريب. هذا السيناريو وارد فقط في حال التغيرات الجذرية على الساحة العالمية المشابهة لانهيار الاتحاد السوفياتي ومعاهدة وارسو، ولكن سيتحول الناتو بالنسبة لأعضائه إلى الرمال المتحركة أكثر وأكثر؛ أي لا تفيد العضوية في هذا الحلف ولا يمكن الخروج منه.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، الناتو لا يزال منظمة قوية. والدليل على ذلك، الدور الذي لعبه الحلف في ليبيا في عام 2011، وهي تعاني من تداعيات هذا التدخل حتى اﻵن ولا يستطيع المجتمع الدولي أن يعالج الأوضاع هناك. أكثر من ذلك الناتو يتوسع، ومن المفترض أنه سيضم مقدونيا الشمالية في المستقبل، وأيضاً هناك نوايا لضم جورجيا وأوكرانيا إلى صفوفه، وأكد ذلك ينس ستولتنبرغ خلال القمة، وهذا هو خط أحمر بالنسبة لروسيا، التي لن تكون صامتة في حال تنفيذ هذه الخطط. وبشكل عام توسيع الناتو واقترابه من حدودها يقلق موسكو للغاية، ويجبر القيادة الروسية على أن ترد على هذه الخطوات.
واللافت للنظر أن بعض الدول لا تعتبر روسيا عدواً لحلف شمال الأطلسي، بل تسميها شريكاً. هذا ما أشار إليه إيمانويل ماكرون خلال القمة، ورفض أيضاً الرئيس البولندي أندجي دودا أن يسمي روسيا عدواً. ولكن عندما تحتاج الدول المتحالفة إلى شريك فهي تحتاج أيضاً إلى عدو، وهذا الشرط الرئيسي لمن يريد أن يحافظ على صفوفه ووحدته، ولكن ليس العدو الضعيف الذي يمكن أن يدمره الناتو خلال بعض الأسابيع بل العدو الصامد والقوي. ويمكن أن تلعب هذا الدور روسيا فقط، ولهذا السبب تستمر الموجة الإعلامية لشيطنة موسكو، كما تستمر الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية عليها، والكل يدرك أنه من دون موسكو لا مستقبل للناتو.
* كاتب روسي



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.