سانا مارين... أصغر رئيسة وزراء في العالم

تترأس حكومة فنلندية غالبيتها من النساء... ولا تتوقف كثيراً عند السن وكونها امرأة

سانا مارين...  أصغر رئيسة وزراء في العالم
TT

سانا مارين... أصغر رئيسة وزراء في العالم

سانا مارين...  أصغر رئيسة وزراء في العالم

عندما وقفت رئيسة وزراء فنلندا الجديدة سانا مارين وسط زعماء الأحزاب الأربعة الأخرى الذين تتشارك معهم الحكومة الائتلافية لالتقاط صورة جماعية تحتفل بها بتسلمها المنصب، لم تكن تعلم أن الصورة تلك ستحظى بانتباه عالمي، وتطبع على صفحات جرائد في أنحاء العالم من آسيا إلى أميركا.
فنلندا دولة أوروبية شمالية صغيرة، لا يزيد عدد سكانها على الـ5 ملايين ونصف المليون، وليست دولة عظمى تؤثر بسياستها الخارجية، كما أن سياستها الداخلية هادئة لا تجذب كثيراً من الاهتمام العالمي عادة. ولكن هذه الصورة كانت مختلفة، فجميع رؤساء الأحزاب نساء، وكلهن شابات لا تزيد أعمارهن على الـ34، باستثناء إحداهن التي تبلغ من العمر 55 سنة.
ورغم أن العالم طبعها بأنها أصغر رئيسة وزراء في العالم، فإن مارين نفسها تقول إنها لم تُلق انتباهاً يوماً لسنها، ولا لواقع أنها سيدة، بل تفكر بالأسباب التي دفعتها لدخول السياسة. ولكن إذا كانت هي لا تهتم بكونها سيدة شابة وصلت إلى المنصب الأعلى في الدولة، ونجحت بأن تحكم وإلى جانبها سيدات من سنها يرأسن أحزاب الائتلاف، بحكومة معظمها سيدات، فإن هذه الصورة ودلالاتها لم تخفَ حتى على خصومها السياسيين. وكتب رئيس وزراء فنلندا السابق المنتمي لحزب المحافظين ألكسندر ستاب على «تويتر» يقول: «إن حزبي ليس في الحكومة، ولكني أحتفل بأن زعماء الأحزاب الخمسة في الحكومة هن سيدات. هذا يظهر أن فنلندا دولة عصرية متقدمة. غالبية الحكومة التي رأستها أنا كانت أيضاً مؤلفة من النساء. ذات يوم، لن يعود للجنس أهمية في الحكومة. وحتى ذلك الحين، نبقى في الريادة».

قبل أسبوع من اختيار الحزب الاشتراكي الفنلندي سانا مارين (34 سنة) لترأس حكومة فنلندا، كانت هي ما تزال وزيرة النقل والاتصالات في حكومة الزعيم الاشتراكي أنتي رينه. وفي اللحظات الدراماتيكية التي كانت تحيط برينه، بعد أشهر قليلة على تسلمه منصبه، والتي دفعته للاستقالة، كانت مارين في بروكسل تشارك باجتماع أوروبي.
وعلى عجل، استدعيت للعودة إلى بلادها التي باتت في مأزق سياسي. فالرئيس رينه خسر ثقة أحزاب شريكة في حكومته الائتلافية بسبب تعاطيه مع أزمة الإضرابات التي شلت البلاد. فاستقال من منصبه كرئيس للوزراء، على أن يختار الحزب بديلاً له ليرأس الحكومة. وهكذا، وقع الاختيار على مارين البالغة من العمر 34 سنة لخلافته.
وبعد يوم من موافقة البرلمان على تسميتها رئيسة للوزراء، عادت مارين إلى بروكسل لتشارك في اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي، ولكن ليس كوزيرة هذه المرة، بل كرئيسة للوزراء تتبادل أطراف الأحاديث مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي شوهد وهو يقدم لها التهاني بحرارة، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وغيرهما من الزعماء الأوروبيين.

أولويات الرئيسة

هناك في بروكسل أيضاً، عاد الصحافيون ليسألوها عن سنها، وواقع أن الحكومة الفنلندية أغلبها من النساء، إذ تضم 12 امرأة و7 رجال، فأجابت: «لا أركز على هذا الأمر، فأمامنا كثير من العمل في الوقت الحالي علينا إنجازه». وبالفعل، فأمام رئيسة الوزراء الشابة كثير من العمل.
داخلياً، تواجه مارين أزمة إضرابات عمالية كبيرة أطاحت بسلفها، سيكون عليها التعاطي معها بأسلوب مغاير يمكنها من الحفاظ على ثقة حكومتها، وهي لن تضيع كثيراً من الوقت لكي تتحدث عن الأزمة الأولى التي تواجهها، وتقول إنها لن تقارب المفاوضات مع العمال بأفكار مسبقة، وإنها تقف إلى جانب ذوي الدخل المحدود، مضيفة: «البلاد لا تحتمل استمرار الإضرابات».
والواقع أن العدالة الاجتماعية أحد الأسس التي تسير مارين في حياتها السياسية، فهي تعد من الجناح اليساري داخل الحزب الاشتراكي، حتى أنها تحيي أعضاء الحزب عندما تتوجه إليهم بالقول «أيها الرفاق». ومن ثم، فهي من أشد المؤيدين للنظام الاجتماعي في البلاد، وقد تحدثت أكثر من مرة عن كيف قدم لها النظام سنداً عندما كانت بحاجة إلى ذلك في صباها.

النشأة والبدايات

نشأت مارين في عائلة فقيرة، وربّتها والدتها بمفردها بعدما انفصلت عن والدها وهي في سن صغيرة، لإدمانه على الكحول. وكتبت هي نفسها تقول إنها «قصة عائلة مليئة بالحزن، ولكن بفضل النظام الاجتماعي لفنلندا والتشجيع من الأساتذة المتطلبين» تمكنت من تخطي الصعاب، والتخرج من جامعة تامبيري (شمال العاصمة هلسنكي)، لتصبح الأولى في عائلتها التي تتخرج في جامعة. وفي سن الـ15، عملت مارين في فرن، وكانت توزع المجلات لكي تحصل على مصاريف الجيب التي لم تكن والدتها قادرة على إعطائها إياها.
وتروي الرئيسة الشابة أنها بدأت الاهتمام بالسياسة عندما كانت تبلغ من العمر 20 سنة، من خلال الحركات والمنظمات الشبابية. وفي عام 2012، انتخبت عضواً في بلدية تامبيري حيث كانت تعيش، رغم أنها مولودة في العاصمة هلسنكي.
ولم تكن حينذاك قد تجاوزت سن الـ27، وكان هذا المنصب هو الذي شكل مفتاح صعودها السريع بعد ذلك، إذ إنها ترأست مجلس البلدية - في المدينة التي تعد من أكبر مدن البلاد - بين عامي 2013 و2017. ويروي متابعو مسيرتها أنها رغم صغر سنها عرفت بصرامتها، وقدرتها على إدارة جلسات مجلس البلدية بشكل حازم فعّال. وينتشر شريط لها وهي ترأس إحدى الجلسات التي تناقش إنشاء ترام جديد، وتبدو وهي تعبر عن امتعاضها مراراً من محاولات أعضاء المجلس التسويف وإضاعة الوقت بمداخلات طويلة.

نائبة لزعيم الحزب

وفي عام 2014، انتخبت مارين نائبة لزعيم الحزب الاشتراكي، ونجحت عام 2015 بدخول البرلمان للمرة الأولى وهي في سن الثلاثين. وبعد إعادة انتخابها في وقت سابق من العام الحالي 2019، عيّنت وزيرة للزراعة والاتصالات في حكومة رينه الذي وجد فيها باكراً نجمة صاعدة، فاحتضنها وأدخلها حكومته، ولم تمض أشهر حتى انتخبت لتحل مكانه.
ومن ناحية ثانية، لم تعرقل حياة مارين العائلية طموحها السياسي وصعودها السريع، فهي أم لطفلة عمرها أقل من سنتين، ولكنها تقول عن ذلك، كما تقول عن كونها سيدة وشابة، إنها تفكر بنفسها بهذه الطريقة، بل إن واقع كونها تأتي من عائلة فقيرة، ساعد بتقريبها من الناخبين الذين يشعرون بأنها «واحدة منهم». فقبل تسلمها رئاسة الحكومة، حلت مكان رينه لبضعة أيام خلال الحملة الانتخابية عندما تعرض لوعكة صحية، بصفتها نائبة الحزب. ونجحت بأن تكسب تحالف الأحزاب الرئيسية شعبية إضافية، بعدما كان ينحدر في استطلاعات الرأي، مع تقدم الحزب اليميني المتطرف «فينز».
وبالتالي، ورغم تقدم الحزب اليميني المتطرف «فينز» الذي كسب نسبة أكبر بكثير في الانتخابات الأخيرة مطلع العام على حساب الحزب الاشتراكي، نجح الاشتراكيون بالتحالف مع 4 أحزاب أخرى في تجاوزه، مما مكّنهم من تشكيل الحكومة. ولكن سياسات حكومتها البيئية، وتعهدها الطموح بتحويل فنلندا إلى دولة خالية من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2035، تبيّن أنها ستكلف الناخبين غالياً.

التحديات الاقتصادية

ولا يساعد مارين كذلك الوضع الاقتصادي في البلاد، فنسبة البطالة مرتفعة بالنسبة لبلد صناعي، وهي ضعفا النسبة في هولندا وألمانيا، كما أن النمو الاقتصادي قد تباطأ. وتعلم مارين ذلك، وهو ما دفعها للتذكير، في أولى الكلمات التي ألقتها بعد انتخابها رئيسة للوزراء، بالعمل لتحقيق هدف حكومتها بخلق 30 ألف وظيفة جديدة. غير أنها قد تعجز عن تحقيق ذلك مقابل الحفاظ في الوقت نفسه على التقديمات الاجتماعية التي كرّرت دعمها لها أكثر من مرة، وتحدثت عن كيف ساعدها نظام الدولة في الأوقات التي كانت بحاجة إليه. فالخدمات الاجتماعية تكلف الخزينة غالياً، والضرائب المرتفعة أصلاً غير كافية لسداد فواتير الصحة والتعليم ومعونات البطالة وغيرها.
ولعل ما يزيد من مشكلات رئيسة الوزراء الجديدة مطالب العمال المتزايدة برفع أجورهم، وهو ما تسبب بموجة الإضرابات التي شلت البلاد، وورثتها مارين عن سلفها. ولكن هؤلاء تحديداً يشكلون «مفتاحاً» انتخابياً مهماً للاشتراكيين، خصوصاً أن كثيراً منهم تحول لدعم الحزب اليميني المتطرف «فينز» الذي يعتمد خطاباً شعبوياً يدغدغ مشاعر العمال. وبحسب البعض، فإن رينه فشل بسبب محاولته اللعب على الأوتار كلها في الوقت نفسه، أي أنه حاول إرضاء العمال بخطاب شعبوي، واليساريين بخطاب اجتماعي، و«الخضر» بخطاب بيئي. لكنه فشل في ذلك، وبدا كأنه يخدع الجميع. وسيكون هذا التحدي أمام مارين، بمحاولة استمالة الطبقات التي تركت الاشتراكيين للأحزاب الأخرى، من دون الظهور بمظهر «المخادع».

الأمن القومي

المشكلات الداخلية للرئيسة الشابة لا تنتهي بالاقتصاد، بل تمتد أيضاً لقضايا تتعلق بالأمن القومي. فواحدة من الأمور التي ينشغل بها الفنلنديون حالياً استعادة مواطنيهم الذين قاتلوا مع «داعش» في العراق وسوريا، ويقبعون حالياً في مخيم الهول لدى الأكراد، ويعتقد أن هناك العشرات من المقاتلين مع عائلاتهم يتنظرون العودة إلى فنلندا. وحتى الآن، تعتمد هلسنكي موقفاً مشابهاً لمواقف الدول الأوروبية الأخرى، برفض استعادتهم بحجة عدم وجود خدمات قنصلية في مناطق الأكراد.
ولم تتمكن مارين من تجاهل هذه القضية في أول ظهور إعلامي لها بعد تسلمها منصبها، إذ سألها صحافيون ما إذا كانت حكومتها قد أخذت قراراً حول كيفية التعامل مع المقاتلين وعائلاتهم، وما إذا كانت عملية إعادتهم قد بدأت، فكان ردها بأنها لا تملك معلومة كهذه لأنها «تسلمت منصبها قبل 6 ساعات فقط». ولكنها أضافت أن الحكومة الماضية التي كانت وزيرة فيها ناقشت الأمر عدة مرات، واستنتجت أن مناقشة الحالات الفردية يعود للمسؤولين الحكوميين، ولكن الحكومة لم تتخذ أي قرار سياسي بإعادتهم إلى فنلندا.
للعلم، وزير خارجية فنلندا بيكا هافيستو الذي تسلم منصبه في يونيو (حزيران) الماضي، وحافظ عليه في الحكومة الجديدة، كان قد أعلن عن تشكيل لجنة خاصة تدرس استعادة 30 طفلاً فنلندياً من مخيم الهول. ولكن قد لا تتمكن هلسنكي قانونياً من استعادة الأطفال من دون أمهاتهن، مما قد يجبرها على استعادة أشخاص يشتبه بأنهم قد قاتلوا إلى جانب «داعش»، وهو ما يتسبب بجدل كبير داخل الحكومة الائتلافية نفسها. فالحزب الوسطي المشارك في الحكومة يخشى استعادة هؤلاء، واستغلال حزب «فينز» اليميني المتطرف لذلك، خصوصاً أنه يحل في الطليعة في استطلاعات الرأي.

استغلال أزمة اللجوء

ورغم أن اللاجئين لا يشكلون أعداداً كبيرة في فنلندا، فإن قصتهم تحولت أيضاً إلى مادة انتخابية للحزب اليميني المتطرف الذي يستغل واقع أن معظم الفنلنديين يؤيدون الحد من أعداد اللاجئين، فيما مارين نفسها تنتقد هذه السياسات التي تطالب بتقليص أعدادهم. وكانت الموجة الأكبر عام 2015، حين وصل إلى فنلندا أكثر من 30 ألف لاجئ، 60 في المائة منهم من العراق. ولكن في العام التالي، ألغى ما يزيد على الـ5 آلاف لاجئ عراقي، معظمهم شبان، طلبات لجوئهم، وقرروا العودة طوعاً إلى العراق، بسبب ما قالوا إنه إحباط من النظام والحياة في فنلندا.
وكانت الحكومة السابقة التي كان يشارك فيها حزب «فينز» المتطرف قد صعبت منح اللجوء، وحددت شمل العائلة بأفراد العائلة المباشرة. ورغم أن سياسة الاشتراكيين مختلفة، فإن مارين قد تجد صعوبة بتليين سياسة الهجرة لصعوبة تمريرها داخل الحكومة الائتلافية، وخوفاً من خسارة المزيد من الأصوات.
سنوات أربع تأمل مارين أن تغير خلالها كثيراً من الأشياء إيجاباً في بلدها، وتقول إن «العمل لن ينتهي حينها، ولكن فنلندا قد تصبح دولة أفضل». وحتى ذلك الحين، وإذا ما نجحت بالاستمرار بعهدها، تبقى مارين ثالث سيدة تحكم فنلندا، وأصغر رئيسات الحكومات في العالم سناً.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.